السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
د\ محمد عمر دولة
باحث اسلامي
قد يعجب من أضاع عمره في الصَفق بالأسواق، والسبق إلى صفقة الدُّون وبيعة المغبون، إذا فتح عينيه على صفحة من صحيح البخاري فيها قصة الصِّدِّيق رضى الله عنه حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان من أهل الصلاة دُعِيَ من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعِي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعِي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعِي من باب الصيام وباب الريان)، فقال أبو بكر رضي الله عنه: "هل يُدعى منها كلها أحدٌ يا رسول الله؟"؛ قال : (نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر)!
ويقرأ عن عدل عمر رضي الله عنه وجهاده وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شرب العلم حتى رُئِيَ أثر الرِّي يجري في أظفاره، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآه في رؤيا وهو يجرّ قميصه وأوّله ـ أي فسره ـ صلى الله عليه وسلم بالدِّين، وقال: (ما رأيت عبقرياً يفْرِي فَرِيّه).
ويقرأ في ترجمة عثمان رضي الله عنه أنه جهز جيش العسرة وحده؛ حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ضرّ عثمانَ ما فعل بعد اليوم).
ويقرأ في ترجمة عليٍّ رضي الله عنه قوله:"أُقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟"، وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه (يحبُّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله).
ويطالع في ترجمة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عدله بين الناس وإغناءهم بالزكاة، وإحياءه السنن وإماتته البدع، ثم يجده في موطأ مالك خارجاً من المدينة يلتفت إليها باكياً ويقول: "يا مزاحم أما تخشى أن نكون ممن نَفَتِ المدينة؟".
وكلما زاد في تقليب الصفحات ورأى ما نحن عليه من القعود زفرت في حلقه الحسرات، فهذا الحافظ ابن عساكر يذكر أن شيوخه ثلاثة آلاف شيخ! ويكتب لنا في كتاب واحد (تاريخ دمشق) سبعين مجلّداً، وذاك النووي يقول إنه كان يتلقّى في اليوم اثنيْ عشر درساً! فيتساءل: أي رجال هؤلاء؟لا تعرضنّ بذكرنا مع ذكرهم
ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدكيف كانوا يرضون بالثوب البالي وهم يجوبون الصحارى يبحثون عن سَنَدٍ عالٍ، فهو مُنية القلب، ومبلغ الحبّ، كما ذكر ابن الصلاح في المقدمة أنه: "قيل لابن معين في مرض موته: ما تشتهي؟ قال: بيت خالٍ وإسناد عالٍ".
وكيف كانوا لا يحزنون للدنيا ولا يجعلونها مبلغ علمهم، فقد رضوا منها بالإفلاس، كما نقل الذهبي في تذكرة الحفاظ قول شعبة بن الحجاج: "من طلب الحديث أفلس، بعتُ طست أمي بسبعة دنانير"، ولكن كان يحزنهم ألا يحوزوا الفهم ولا يلاقوا أهل العلم، كما ذكر الخطيب في كتابه (الرحلة) أنّ علي بن عاصم رحل إلى منصور بن المعتمر، فلما أتى بابه إذا جنازة قال: "قلت: ما هذه؟ قالوا: جنازة منصور فقعدت أبكي".
وكيف كانوا في عجلة من أمرهم وعلى بينة من ربهم، يهتمون بما ينفعهم ولا تلهيهم الأطعمة والأشربة، كما وقع لعبد الرحمن بن أبي حاتم لما اشترى مع صاحب له سمكة وانشغلا عنها بالدروس فما وجدا وقتاً لشوائها فأكلاها نيّئة إذ (لا يستطاع العلم براحة الجسد) كما قال يحيى بن أبي كثير في أبواب المواقيت من صحيح مسلم.