بسم الله الرحمن الرحيم
عبد الله بن أم مكتوم
" رجل أعمى أنزل الله في شأنه ست عشرة آية ،
و ستضل تتلى ما كر الجديدان "
من هذا الذي عوتب فيه النبي الكريم من فوق سبع سماوات و أقسى عتابه و أوجعته ؟!
من هذا الذي نزل بشأنه جبريل الأمين على قلت النبي الكريم بوحي من عند الله ؟!
إنه عبد الله بن أم مكتوم مؤذن الرسول صلوات الله و سلامه عليه .
* * *
و عبد الله بن أم مكتوم مكي و قرشي تربطه بالرسول عليه الصلاة و السلام رحم ، فقد كان ابن خال أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضوان الله عليهما .
أما أبو فقيس بن زائد ، و أما أمه فعاتكة بنت عبد الله ، و قد دعيت بأم مكتوم لأنها ولدته أعمى مكتوما .
* * *
شهد عبد الله بن أم مكتوم مطلع النور في مكة ، فشرح الله صدره للإيمان ، و كان من السابقين إلى الإسلام .
عاش ابن أم مكتوم محنة المسلمين في مكة بكل ما حفلت به من تضحية و ثبات و صمود و فداء .
و عانى من أذى قريش ما عاناه أصحابه ، و بلا من بطشهم و قسوتهم ما بلوه ، فما لانت له قناة و لا فترت له حماسة و لا ضعف له أيمان ...
و إنما زاده ذلك استمساكا بدين الله ، و تعلقا بكتاب الله ، و تفقه بشرع الله و إقبالا على الرسول صلوات الله و سلامه عليه .
* * *
قد بلغ من إقباله على النبي الكريم و حرصه على حفظ القرآن العظيم ، أنه كان لا يترك فرصة إلا اغتنمها ، و لا سانحة إلا ابتدرها ...
بل كان إلحاحه على ذلك يغريه – أحيانا – بأن يأخذ نصيبه من رسول الله صلوات الله و سلامه عليه و نصيب غيره .
و قد كان الرسول صلوات الله عليه في هذه الفترة كثير التصدي لسادات قريش ، شديد الحرص على إسلامهم ، فالتقى ذات يوم بعتبة بن ربيعة و أخيه شيبة بن ربيعة و عمرو بن هشام المكنى بأبي جهل ، و أمية بن خلف و الوليد بن المغيرة ، والد سيف الله خالد ، و طفق يفاوضهم و يناجيهم ، ويعرض عليهم الإسلام ، وهو يطمع في أن يستجيبوا له ، أو يكفوا أذاهم عن أصحابه .
* * *
و فيما هو كذلك أقبل عليه عبد الله بن أم مكتوم يستقرئه آية من كتاب الله ، ويقول :
يا رسول الله ، علمني مما علمك الله .
فأعرض عنه الرسول الكريم عنه ، و عبس في وجهه ، و تولى نحو أولئك النفر من قريش ، و أقبل عليهم أملا في أن يسلموا فيكونون في إسلامهم عز لدين الله ، وتأييد لدعوة رسوله .
و ما إن قضى رسول الله صلوات الله عليه حديثه معهم و فرغ من نجواهم ، و هم أن ينقلب إلى أهله حتى أمسك الله عليه بعضا من بصره ، و أحس كأن شيئا يخفق برأسه .
ثم أنزل عليه قوله : (( عبس و تولى * أن جاءه الأعمى * و ما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * و ما عليك ألا يزكى * و أما من جاءك يسعى* وهو يخشى * فأنت عنه تلهى * كلا أنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة )).
ست عشرة آية نزل بها جبريل الأمين على قلب النبي الكريم في شأن عبد الله بن أم مكتوم ، لا تزال تتلى منذ نزلت إلى اليوم ، و ستضل تتلى حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
* * *
و منذ ذلك اليوم ما فتئ الرسول صلوات الله يكرم منزل عبد الله بن أم مكتوم إذا نزل ، ويدني مجلسه إذا أقبل ، ويسأله عن شأنه ، ويقضى حاجته .
ولا غرور أليس هو الذي عوتب فيه من فوق سبع سماوات أشد العتاب و أعنفه ؟!
ولما كلبت قريش على الرسول و الذين آمنوا معه ، و أشتد أذاها لهم أذن الله للمسلمين بالهجرة ، فكان عبد الله بن أم مكتوم أسرع القوم مفارقة لوطنه ، وفرارا بدينه ...
فقد كان هو ومصعب بن عمير أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله .
و ما إن بلغ عبد الله بن أم مكتوم يثرب حتى طفق هو و صاحبه مصعب بن عمير يختلفان إلى الناس و يقرآنهم القرآن ، و يفقهانهم في دين الله .
ولما قدم الرسول عليه الصلاة و السلام إلى المدينة اتخذ عبد الله بن أم مكتوم و بلال بن رباح مؤذنين للمسلمين يصدعان بكلمة التوحيد كل يوم خمس مرات ، و يحضانهم على الفلاح ...
فكان بلال يؤذن و ابن مكتوم يقيم الصلاة ، و ربما أذن ابن أم مكتوم و أقام بلال .
و كان لبلال وابن أم مكتوم شأن آخر في رمضان ، فقد كان المسلمون في المدينة يتسحرون على أذان أحدهما و يمسكون عند آذان الآخر .
كان بلال يؤذن بليل و يوقظ الناس ، و كان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطئه .
و قد بلغ من إكرام النبي عليه الصلاة و السلام لابن أم مكتوم أن استخلفه على المدينة عند غيابه عنها بضع عشرة مرة كانت إحداهما يوم غادرها لفتح مكة .
وفي أعقاب غزوة بدر أنزل الله على نبيه من آي القرآن ما يرفع شأن المجاهدين ، و يفضلهم على القاعدين لينشط المجاهد إلى الجهاد ، و يأنف القاعد من القعود ، فأثر ذلك في نفس ابن أم مكتوم ، و عز عليه أن يحرم من هذا الفضل و قال :
يا رسول الله ، لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، ثم سأل الله بقلب خاشع أن ينزل قرآنا في شأنه و شأن أمثاله ممن تعوقهم عاهاته عن الجهاد و جعل يدعو في ضراعة :
" اللهم أنزل عذري ... اللهم أنزل عذري "
فما أسرع أن استجاب الله جل و عز لدعائه .
* * *
حدث زيد بن ثابت كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال :
كنت إلى جنب الرسول ، فغشيته السكينة ، فوقعت فخذه على فخذي ، فما وجد شيئا أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سرى عنه فقال: اكتب يا زيد فكتبت : ((( لا يستوي القاعدون من المؤمنين و المجاهدون في سبيل الله ... )))
فقام ابن أم مكتوم وقال : يا رسول الله ، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد ؟! فما انقضى كلامه حتى غشيت رسول الله صلى الله عليه و سلم السكينة ، فوقعت فخذه على فخذي ، فوجدت من ثقلها ما وجدته في المرة الأولى ، ثم سري عنه فقال .
اقرأ ما كتبته يا زيد ، فقرأت (( لا يستوي القاعدون من المؤمنين)) فقال : اكتب (( غير أولي الضرر )) .
فنزل الاستثناء الذي تمناه ابن أم مكتوم و على الرغم من أن سبحانه أعفى عبد الله بن أم مكتوم وأمثاله من الجهاد ، فقد أبت نفسه الطموح أن يقعد مع القاعدين ، و عقد العزم على الجهاد في سبيل الله ...
ذلك لأن النفوس الكبيرة لا تقنع إلا بكبار الأمور
فحرص منذ ذلك اليوم على ألا تفوته غزوة ، وحدد لنفسه وظيفتها في ساحات القتال ، فكان يقول : أقيموني بين الصفين و حملوني اللواء أحمله لكم و أحفظه ...
فأنا أعمى لا أستطيع الفرار .
* * *
وفي السنة الرابعة عشرة للهجرة عقد عمر بن الخطاب العزم على أن يخوض مع الفرس معركة فاصلة بديل دولتهم ، و تزيل ملكهم ، وتفتح الطريق أمام جيوش المسلمين ، فكتب إلى عماله يقول :
لا تدعوا أحدا له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا وجهتموه إلي ، و العجل، العجل .
و طفق جموع المسلمين تلبي نداء الفاروق و تنهال على المدينة من كل حدب و صوب ، و كان في جملة هؤلاء المجاهدين المكفوف البصر عبد الله بن أم مكتوم .
فأمر الفاروق على الجيش الكبير سعد بن أبي وقاص ، وأوصاه وودعه.
ولما بلغ الجيش القادسية ، برز عبد الله بن أم مكتوم لابسا درعه ، مستكملا عدته ، و ندب نفسه لحمل راية المسلمين و الحافظ عليها أو الموت دونها .
* * *
والتقى الجمعان في أيام ثلاثة قاسية عابسة . واحترب الفريقان حربا لم يشهد لها تاريخ الفتوح مثيلا حتى انجلى اليوم الثالث من نصر مؤزر للمسلمين ، فدالت دولة من أعظم الدول ...
و زال عرش من أعرق العروش ...
و رفعت راية التوحيد في أرض الوثنية .
و كان ثمن هذا النصر المبين مئات الشهداء . و كان بين هؤلاء الشهداء عبد الله بن أم مكتوم ...
فقد وجد صريعا مضرجا بدمائه وهو يعانق راية المسلمين .