عرّفنا بخالقنا، فإن مدرسينا لايذكرون الله لنا !
بديع الزمان : سعيد النورسي يرحمه الله



هذه المسألة اشارة مختصرة الى برهان واحد فقط من بين ألوف البراهين الكلية حول (الايمان بالله) والذي تم ايضاحه مع حججه القاطعة في عدة مواضع من رسائل النور.


جاءني فريق من طلاب الثانوية في "قسطموني" قائلين:



" عرّفنا بخالقنا، فإن مدرسينا لايذكرون الله لنا !".




فقلت لهم:


ان كل علم من العلوم التي تقرأونها يبحث عن الله دوما، ويعرّف بالخالق الكريم بلغته الخاصة. فاصغوا الى تلك العلوم دون المدرسين..


فمثلا: لو كانت هناك صيدلية ضخمة، في كل قنينة من قنانيها ادوية ومستحضرات حيوية، وضِعت فيها بموازين حساسة، وبمقادير دقيقة؛ فكما أنها ترينا ان وراءها صيدلياً حكيماً وكيميائياً ماهراً، كذلك صيدلية الكرة الارضية التي تضم اكثر من أربعمائة ألف نوع من الاحياء - نباتا وحيوانا - وكل واحد منها في الحقيقة بمثابة زجاجة مستحضرات كيمياوية دقيقة، وقنينة مخاليط حيوية عجيبة فهذه الصيدلية الكبرى تُري حتى للعميان صيدليّها الحكيم ذا الجلال، وتعرّف خالقها الكريم سبحانه بدرجة كمالها، وانتظامها، وعظمتها، قياسا على تلك الصيدلية التي في السوق، على وفق مقاييس علم الطب الذي تقرأونه.




ومثلاً: كما لو أن مصنعا خارقا عجيبا ينسج ألوفا من انواع المنسوجات المتنوعة، والاقمشة المختلفة، من مادة بسيطة جداً، يرينا بلا شك ان وراءه مهندسا ميكانيكيا ماهراً، ويعرّفه لنا؛ كذلك هذه الماكنة الربانية السيارة المسماة بالكرة الارضية، وهذا المصنع الإلهي الذي فيه مئات الآلاف من مصانع رئيسية، وفي كل منها مئات الآلاف من المصانع المتقنة، يعرّف لنا - بلاشك - صانعه، ومالكه، وفق مقاييس علم المكائن الذي تقرأونه، يعرّفه بدرجة كمال هذا المصنع الإلهي وعظمته قياساً على ذلك المصنع الانساني.






ومثلاً: كما ان حانوتا او مخزنا للاعاشة والارزاق، ومحلا عظيما للأغذية والمواد، احضر فيه - من كل جانب - ألف نوع ونوع من المواد الغذائية، وميز كل نوع عن الآخر، وصفف في محله الخاص به، يرينا ان له مالكا، ومدبراً؛ كذلك هذا المخزن الرحماني للاعاشة الذي يسيح في كل سنة مسافة اربعة وعشرين ألف سنة، في نظام دقيق متقن، والذي يضم في ثناياه مئات الآلاف من اصناف المخلوقات التي يحتاج كل منها الى نوع خاص من الغذاء.





والذي يمر على الفصول الاربعة فيأتي بالربيع كشاحنة محمولة بآلاف الانواع من مختلف الاطعمة، يأتي بها الى الخلق المساكين الذين نفد قوتهم في الشتاء.




تلك هي الكرة الارضية، السفينة السبحانية التي تضم آلاف الانواع من البضائع والاجهزة ومعلبات الغذاء.
فهذا المخزن والحانوت الرباني، يُري - على وفق مقاييس علم الاعاشة والتجارة الذي تقرأونه - صاحبه ومالكه ومتصرفه بدرجة عظمة هذا المخزن قياسا على ذلك المخزن المصنوع من قبل الانسان، ويعرّفه لنا، ويحببه الينا.





ومثلاً: لو ان جيشا عظيما يضم تحت لوائه أربعمائة ألف نوع من الشعوب والامم، لكل جنس طعامه المستقل عن الآخر، وما يستعمله من سلاح يغاير سلاح الآخر، وما يرتديه من ملابس تختلف عن ألبسة الآخر، ونمط تدريبه وتعليماته يباين الآخر، ومدة عمله وفترة رخصه هي غير المدة للآخر.. فقائد هذا الجيش الذي يزودهم بالارزاق المختلفة، والاسلحة المتباينة، والالبسة المتغايرة، دون نسيان اي منها ولا التباس، ولاحيرة، لهو قائد ذو خوارق بلا ريب.


فكما ان هذا المعسكر العجيب يرينا - بداهة - ذلك القائد الخارق، بل يحببه الينا بكل تقدير واعجاب؛ كذلك معسكر الارض، ففي كل ربيع يجند - مجددا - جيشا سبحانيا عظيما مكونا من اربعمائة ألف نوع من شعوب النباتات وامم الحيوانات، ويمنح لكل نوع ألبسته وارزاقه واسلحته وتدريبه ورخصه الخاصة به، من لدن قائد عظيم واحد أحد جل وعلا، دون نسيان لأحد، ولا اختلاط، ولاتحير، وفي منتهى الكمال وغاية الانتظام..



فهذا المعسكر الشاسع الواسع للربيع الممتد على سطح الارض يُري - لأولي الالباب والبصائر - حاكم الارض - حسب العلوم العسكرية - وربّها ومدبرها، وقائدها الاقدس الاجل، ويعرّف لهم، بدرجة كمال هذا المعسكر المهيب، ومدى عظمته، قياسا الى ذلك المعسكر المذكور، بل يحبب مليكه - سبحانه - بالتحميد والتقديس والتسبيح.








ومثلا: هب ان ملايين المصابيح الكهربائية تتجول في مدينة عجيبة دون نفاد للوقود ولا انطفاء؛ الا تُري باعجاب وتقدير أن هناك مهندساً حاذقاً، وكهربائيا بارعاً لمصنع الكهرباء، ولتلك المصابيح؟ فمصابيح النجوم المتدلية من سقف قصر الارض وهي اكبر من الكرة الارضية نفسها بألوف المرات - حسب علم الفلك - وتسير اسرع من انطلاق القذيفة من دون ان تخل بنظامها، او تتصادم مع بعضها مطلقا ومن دون انطفاء، ولا نفاد وقود على وفق ما تقرأونه في علم الفلك.
هذه المصابيح تشير باصابع من نور الى قدرة خالقها غير المحدودة، فشمسنا مثلا؛ وهي اكبر بمليون مرة من كرتنا الارضية، وأقدم منها بمليون سنة ماهي الاّ مصباح دائم، وموقد مستمر لدار ضيافة الرحمن.







فلأجل ادامة اتقادها واشتعالها وتسجيرها كل يوم يلزم وقوداً بقدر بحار الارض، وفحماً بقدر جبالها، وحطباً بقدر اضعاف اضعاف حجم الارض، ولكن الذي يشعلها - ويشعل جميع النجوم الاخرى امثالها - دون وقود ولافحم ولا زيت ودون انطفاء ويسيّرها بسرعة عظيمة معاً دون اصطدام، انما هي قدرة لا نهاية لها وسلطنة عظيمة لاحدود لها.. فهذا الكون العظيم وما فيه من مصابيح مضيئة، وقناديل متدلية يبين بوضوح - على وفق مقاييس علم الكهرباء الذي قرأتموه أو ستقرأونه - سلطان هذا المعرض العظيم والمهرجان الكبير، ويعرّف منوّره ومدبرّه البديع وصانعه الجليل، بشهادة هذه النجوم المتلألئة، ويحببه الى الجميع بالتحميد والتسبيح والتقديس بل يسوقهم الى عبادته سبحانه.



ومثلاً: لو كان هناك كتاب، كتب في كل سطر منه كتاب بخط دقيق، وكُتب في كل كلمة من كلماته سورة قرآنية، وكانت جميع مسائله ذات مغزى ومعنى عميق، وكلها يؤيد بعضها البعض، فهذا الكتاب العجيب يبين بلا شك مهارة كاتبه الفائقة، وقدرة مؤلفه الكاملة.







اي أن مثل هذا الكتاب يعرّف كاتبه ومصنّفه تعريفا يضاهي وضوح النهار، ويبين كماله وقدرتَه، ويثير من الاعجاب والتقدير لدى الناظرين اليه ما لا يملكون معه الا ترديد: تبارك الله سبحان الله ما شاء الله! من كلمات الاستحسان والاعجاب؛ كذلك هذا الكتاب الكبير للكون الذي يُكتب في صحيفة واحدة منه - وهي سطح الارض - ويُكتب في ملزمة واحدة منه - وهي الربيع - ثلثمائة ألف نوع من الكتب المختلفة وهي طوائف الحيوانات واجناس النباتات كل منها بمثابة كتاب.. يُكتب كل ذلك معا ومتداخلة بعضها ببعض دون اختلاط، ولاخطأ، ولانسيان، وفي منتهى الانتظام والكمال بل يُكتب في كل كلمة منه - كالشجرة - قصيدة كاملة رائعة، وفي كل نقطة منه - كالبذرة - فهرس كتاب كامل.


وان هذا مشاهد وماثل أمامنا، ويُرينا بالتأكيد وراءه قلماً سيالاً يسطر. فلكم ان تقدروا مدى دلالة كتاب الكون الكبير العظيم الذي في كل كلمة منه معان جمة وحكم شتى، ومدى دلالة هذا القرآن الاكبر المجسم - وهو العالم - الى بارئه سبحانه والى كاتبه جل وعلا، قياسا الى ذلك الكتاب المذكور في المثال.


وذلك بمقتضى ما تقرأونه من علم حكمة الاشياء او فن القراءة والكتابة، وتناولوه بمقياس اكبر، وبالنظرة الواسعة الى هذا الكون الكبير وبذلك تفهمون كيف يعرّف الخالق العظيم بـ"الله اكبر" وكيف يعلّم التقديس بـ"سبحان الله" وكيف يحبّب الله سبحانه الينا بثناء "الحمد لله".

وهكذا فان كل علم من العلوم العديدة جداً، يدل على خالق الكون ذي الجلال - قياسا على ما سبق - ويعرّفه لنا سبحانه باسمائه الحسنى، ويعلّمه ايانا بصفاته الجليلة وكمالاته. وذلك بما يملك من مقاييس واسعة، ومرايا خاصة، وعيون حادة باصرة، ونظرات ذات عبرة.



فقلت لاولئك الطلبة الشباب: ان حكمة تكرار القرآن الكريم من: (خلقَ السمواتِ والارض) و (ربّ السموات والارض) انما هي لأجل الارشاد الى هذه الحقيقة المذكورة، وتلقين هذا البرهان الباهر للتوحيد، ولأجل تعريفنا بخالقنا العظيم سبحانه.



فقالوا: شكراً لربنا الخالق بغير حد، على هذا الدرس الذي هو الحقيقة السامية عينها، فجزاك الله عنا خير جزاء ورضي عنك.


قلت: ان الانسان ماكنة حيوية، يتألم بآلاف الانواع من الآلام، ويتلذذ بآلاف الانواع من اللذائذ، ومع أنه في منتهى العجز، فان له من الاعداء ما لا يحد سواء الماديين او المعنويين، ومع أنه في غاية الفقر فان له رغبات باطنة وظاهرة لاتحصر، فهو مخلوق مسكين يتجرّع آلام صفعات الزوال والفراق باستمرار.. فرغم كل هذا، فانه يجد بانتسابه الى السلطان ذي الجلال - بالايمان والعبودية - مستنداً قوياً، ومرتكزاً عظيماً يحتمي اليه في دفع أعدائه كافة، ويجد فيه كذلك مدار استمداد يستغيث به لقضاء حاجاته وتلبية رغباته وآماله كافة، فكما ينتسب كلٌ الى سيده ويفخر بشرف انتسابه اليه، ويعتز بمقامه لديه، كذلك فان انتساب الانسان بالايمان، الى القدير الذي لانهاية لقدرته، والى السلطان الرحيم ذي الرحمة الواسعة، ودخوله في عبوديته بالطاعة والشكران، يبدل الأجل والموت من الاعدام الابدي الى تذكرة مرور، ورخصة الى العالم الباقي!.


فلكم ان تقدروا كم يكون - هذا الانسان - متلذذاً بحلاوة العبودية بين يدي سيده، وممتناً بالايمان الذي يجده في قلبه، وسعيداً بأنوار الاسلام، ومفتخراً بسيده القدير الرحيم شاكراً له نعمة الايمان والاسلام.



ومثلما قلت ذلك لاخواني الطلبة، اقول كذلك للمسجونين:


ان من عرف الله واطاعه سعيدٌ ولو كان في غياهب السجن، ومن غفل عنه ونسيه شقي ولو كان في قصور مشيدة. فلقد صرخ مظلوم ذات يوم بوجه الظالمين وهو يعتلي منصة الاعدام فرحاً جذلاً وقائلاً: انني لا انتهي الى الفناء ولا أُعدم.


بل أُسّرح من سجن الدنيا طليقاً الى السعادة الابدية، ولكني اراكم انتم محكومين بالاعدام الابدي لما ترون الموت فناء وعدماً. فانا اذن قد ثأرت لنفسي منكم. فسلّم روحه وهو قرير العين يردد: لا إله إلاّ الله.








(سبحانكَ لا عِلمَ لنا إلاّ ما عَلمتنا إنكَ انت العليمُ الحكيم)