عن التصادم بين الثقافتين: الغربيّة والإسلاميّة
د. غازي التوبة 19/6/1427
15/07/2006
إنّ نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك الركيزة وتغيّر الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع، ويعتقدون أنّ تغير الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة، ولكنّ تكوّن تلك الركيزة في الثقافة الغربية يعود إلى فترة أبعد من العصور الحديثة ويرتبط بالعصور الوسطى، فمن المعروف أنّ الكنيسة كانت تنطلق آنذاك في حكمها لأوروبا من نص "الإنجيل المقدس" ، والذي كانت تحتكر تفسيره، وعندما قامت حقائق علمية وكونية متعدّدة تناقض النص "المقدس" الثابت، وتناقض تفسير رجال الكنيسة له وقع التصادم المريع بين الدين والعلم، وكانت النتيجة اضطهاد رجال العلم بحجة مخالفة النص المقدس الثابت، ولكنّ الكنيسة انهزمت أمام الثورة عليها وأمام حقائق العلم، واعتبرت الثورة رجال الدين عقبة في طريق العلم والتقدم، وصار الربط حينئذ بين النص المقدس وثبات الحقيقة، والعلم ونسبية الحقيقة.
ومنذ أن بدأ التفاعل بين الثقافتين: الغربية والإسلامية خلال الفترة الماضية، فإنّ أبرز صور التصادم كانت بين نسبية الحقيقة في الثقافة الغربية وبين النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة في الثقافة الإسلامية، وسأعرض لبعض صور التصادم في السطور التالية.
من أول صور التصادم ما أثاره طه حسين في كتاب "في الشعر الجاهلي" عام 1926م، فقد تعرض لنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة تحدثت عن بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام للكعبة، وتشكك في تلك الحقيقة، وحتى في وجودهما التاريخي، وفي هجرتهما، ورأى أنّ قريشاً اختلقت تلك القصة لأسباب سياسية واقتصادية، ورأى فيها نوعاً من الحيلة لإثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية، والقرآن والتوراة من جهة أخرى.
ومن صور التصادم أيضاً حديث الدكتور حسين أحمد أمين في كتابه "حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية" عن حد السرقة الذي ورد في نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة في قوله : (والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيدِيَهما جزاءً بما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ). [المائدة،38]، فقد ربط الدكتور بين ذلك الحدّ وبين الوضع الاقتصادي في الجزيرة العربية آنذاك، وبيّن أنّ العربي كان ينقل كل متاعه على راحلته، وإنّ سرقته تعني سلبه كل ما يملك من جهة، وتعني هلاكه من جهة ثانية، لذلك جاء الحكم بتلك الصورة لأنه مرتبط بالأموال المنقولة، والآن أصبحت الأموال غير المنقولة أثمن وأغلى من الأموال المنقولة لذلك فهو يقترح تغيّر الحكم انطلاقاً من تغيّر الوضع الاقتصادي.
أما الدكتور نصر حامد أبو زيد فقد تحدّث في كتابه "نقد الخطاب الديني" عن النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة في عدة مجالات منها: صفات الله وفي مجال آخر هو الحسد والسحر والجن والشياطين، وقد اعتبر أنّ الألفاظ الأخيرة مرتبطة بواقع ثقافي معين، ويجب أن نفهمها في ضوء واقعها الثقافي، وإنّ وجودها الذهني السابق لا يعني وجودها العيني، وقد أصبحت الآن ذات دلالة تاريخية، والدكتور نصر حامد أبو زيد في كل أحكامه السابقة ينطلق من أنّ النصوص الدينية نصوص لغوية تنتمي إلى بنية ثقافية محدودة، تم انتاجها طبقاً لنواميس تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي، وهو يعتمد على نظرية عالم اللغة "دي سوسير" في التفرقة بين اللغة والكلام، وينتهي الدكتور نصر حامد أبو زيد إلى ضرورة إخضاع النصوص الدينية إلى المناهج اللغوية المشار إليها سابقاً.
أما الدكتور محمد شحرور في كتابه "الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة" فقد اعتبر أنّ جميع النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة في مجال الحياة الاجتماعية: كالنكاح، والطعام، وفي مجال الحدود: كحد السرقة، والزنا، والحرابة، والقتل، العمد الخ ...، وفي مجال الأحكام: كتوزيع الميراث، وأخذ الربا الخ ... اعتبر جميع تلك النصوص خاضعة لاجتهاد رسم له حدين: أدنى وأعلى، وقد اعتبر أنّ سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي اجتهاد محمد -صلى الله عليه وسلم- لتطبيق حدود الإسلام ضمن بيئة الجزيرة العربية، وبالتالي فإنّ تطبيقه لها ليس ملزماً لنا في شيء.
لاشك أنّ نسبية الحقيقة هي الناظم الذي يشمل كل تلك الطروحات بدءاً من تشكيك طه حسين في الوجود التاريخي لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وفي واقعة بنائهما الكعبة، ومروراً بربط الدكتور حسين أحمد أمين لحد السرقة بظاهرة الأملاك المنقولة، وباعتبار الدكتور نصر حامد أبو زيد السحر والحسد والجن والشياطين ألفاظاً ذات دلالات تاريخية، وانتهاء باعتبار الدكتور محمد شحرور جواز تأرجح الحدّ بين اجتهادين أعلى وأدنى ... ولا أريد أن أكرر الحديث عن الخصوصية التاريخية التي جعلت ثقافة الغرب تقوم على نسبية الحقيقة، ولا أريد أن أفصل مناقشة رأي كل كاتب فيما يتعلق بالنصوص القطعية الثبوت، القطعية الدلالة التي تعرّض لها؛ فقد فعلت ذلك في مواضع أخرى أو فعل غيري ذلك، ولكني أردّ موجزاً مختصراً فأتساءل: هل يجوز لطه حسين أن يرد نصوصاً قطعية الثبوت قطعية الدلالة في شأن وجود إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وفي شأن بنائهما الكعبة من أجل وجود أساطير مشابهة قبلها الرومان عن بناء روما من قبل بإينياس بن بريام صاحب طروادة اليوناني؟ لماذا يربط الدكتور حسين أحمد أمين بين حدّ السرقة والأموال المنقولة، ولا يربط ذلك بفعل السرقة الشنيع وما يشتمل عليه من ترويع وتخويف واعتداء على المسروق وما يصوره من طمع السارق ودناءته وتطلّعه إلى ما في يد الغير بغير حق مشروع؟ لماذا يعتبر الدكتور نصر حامد أبو زيد الكلمات: السحر والحسد والجن والشياطين ألفاظاً ذات دلالات تاريخية؟ فهل نفى العلم بشكل قطعي وجود حقائق عينية لتلك الألفاظ حتى نعفي عليها ونعتبرها ألفاظاً لا حقائق لها وذات دلالات تاريخية؟ لماذا يُخضع الدكتور محمد شحرور كل الألفاظ القرآنية للتحليل اللغوي المعجمي مع أنّ الإسلام أخرج كثيراً من الألفاظ من معناها اللغوي وجعلها مصطلحات أعطاها معاني أخرى أمثال: الصلاة، الزكاة، الإيمان، الكفر، الحدّ الخ ...، وعليه أن يحترم هذه المصطلحات عند أيّ بحث علمي؟
والآن أعود إلى نسبية الحقيقة التي تتصادم مع النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة الذي يؤدي إلى ثبات الحقيقة، وأتجاوز الظروف التاريخية التي جعلت نسبية الحقيقة جزءاً أساسياً من ثقافة الغرب والتي تختلف عن ظروفنا التاريخية وأتساءل: هل حقاً ليس هناك ثبات في الحقيقة؟ ومن أين جاء النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة في ثقافتنا الإسلامية؟ وما سنده الواقعي في صيرورة الكون؟
لقد جاء النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة الذي يشير إلى ثبات بعض الحقائق من الفطرة الثابتة التي لا تتغيّر، قال : (فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ الناسَ عليها لا تَبْديلَ لخَلْقِ اللهِ). [الروم،30]، فطالما أنّ هناك فِطرة ثابتة لا تتغيّر فهناك حقائق ثابتة لا تتغيّر، وهذا ما قادت الظروف التاريخية أوروبا لإنكاره، وليس بالضرورة أن يكون الصواب مع أوروبا.