سنصدع بالحق
د .حاتم بن عارف الشريف - عضو مجلس الشورى
لقد كانت قلة قليلة منا ( معشرَ المتخصصين في العلوم الشرعية ) ربما تحدّثَ بعضُنا على خجلٍ وبصوت منخفضٍ عن قضايا ملحّةٍ كثيرة (في قضايا المرأة وغيرها) ، كانت لنا فيها وجهاتُ نظرٍ مخالِفَةٍ لتوجُّهِ الإفتاء الرسمي في المملكة . وكنا نترفّقُ في عَرْضنا لاجتهاداتنا وفي اعتراضنا على فتاواهم ؛ طمعًا في قبولها والاستفادة منها . وكنا في مقابل ذلك الترفُّقِ نتقبّلُ من بعض المشايخ وطلبة العلم حُزْمةً من التصنيفات الجائرة لنا وللتُّهَمِ الجزاف التي كانت تُطلق علينا , وأرجو أن لا نترك ذالك الترفُّـقَ ولا هذا التقبُّـلَ .
ولكننا استمررنا بالتلطُّفِ في المخالفة إلى حدِّ العجز عن الإصلاح ، وإلى حد ضعف التأثير ، وكنا نبرر هذا العجز والضعف بعدة أمور ، نال كلَّ واحدٍ منا نصيبٌ منها ، وهي :
1- إما مجاملة للمشايخ والتيار المتوقّفِ عند اجتهاداتهم فقط وتطييبًا لخاطرهم على حساب الإصلاح الديني ! وهذه معصية لا يجوز أن تستمر ؛ لأن مصلحة الدين تستوجب عدم فعل ذلك .
2- وإما رضوخًا لفكرةِ أنه لا داعي للفَتِّ في عضد المؤسسة الدينية الرسمية ، وذلك من باب تقديمِ دَرْءِ مفسدةٍ أكبر بأخفّ . ولكن أثبتت الأيام أن تقدير أصحاب هذا التبرير للمفاسد والمصالح كان منكوسًا.
3- وإما من باب تحميل المؤسسة الدينية الرسمية مسؤوليةَ الإصلاح والتأثير , ولو برأيٍ فقهيٍّ مرجوحٍ صادرٍ منها (فالاجتماعُ على الرأي المرجوح خير من التفرق على الرأي الراجح) , ولو مع مبالغةٍ من المؤسسة الدينية الرسمية في استخدام قاعدة سدّ الذرائع (الصحيحة في أصلها) , ولو مع ضعف إدراك بعض أعضائها لحاجات المرحلة ,ولو... ! ولكن توالت خسائرنا الإصلاحية ؛ لأننا بذلك قد حمّلنا المؤسسةَ الدينية الرسمية فوق طاقتها , بسبب المبالغة في تقدير حجم التأثير المتوقَّعِ لها . ولذلك تجاوزها القرارُ السياسي , الذي لا يمكنه إلا أن يواكب الـحَدَثَ وأن يتعايش مع الواقع , إن أمكنه ذلك بالمؤسسة الدينية (وهذا ما يتمناه) , أو بدونها (وهذا ما لا يتمناه ) .
4- وإما أَخْذًا منا بنصائح الناصحين والمحبين , بتأخير بعض الآراء إلى وقتها المناسب . ولكننا أخطأنا في قبول تلك النصائح غير الموفَّقة , والتي لا تحدد الزمنَ المناسب أبدًا, ولا تريد أن تحدده ؛ لأنها لا تريد إلا الاستمرار في الصمت . وقد تبينَ مؤخرًا أن الوقت المناسب إن لم يكن قد تجاوَزَنا , فهذا هو أوانُه المؤكّد والحاسم .
فهل آن أوانُ الصدع بالحق , والإعلان عن اجتهاداتنا الفقهية بالصوت المرتفع , وبالصوت المرتفع وحده .
وهل آن الأوان لِنُشِيْعَ بين الناس أن الإصلاح الديني ليس محصورًا في المؤسسة الدينية الرسمية وحدها , بل قد يكون تَحَقُّقُ الإصلاح الديني في اجتهاداتٍ آتيةٍ من خارج المؤسسة الدينية الرسمية ؛ لأن تلك الاجتهادات الآتية من خارجها قد تكون هي الأرجح , أوهي الأصلح لزمننا .
لا أشك في أن هذين السؤالين التقريريين جوابهما هو : نعم , لقد آن الأوان , أو نرجو أن نستطيع إدراك أوانه الذي قد فات .
ولكي يكون هذا المقال بدايةَ الإصلاح , أودُّ ذِكْرَ بعض ملاحظاتي على المؤسسة الدينية الرسمية , ببيان بعض سياساتها المرجوحة شرعيا في اجتهادي :
أولا :المبالغة في سد الذرائع , بسبب خوفٍ على المجتمع ,وهو ما يُسمّيه البعض وصايةً عليه : بأننا لو فتحنا للمجتمع المجال تجاوَزَ الحدَّ المسموح إلى غير المسموح , ولذلك يجب (حسب اجتهادهم) وَضْعُ حدٍّ احتياطي من الممنوعات , لكي لا يصل الناس للحد الحقيقي . وهذا المنطلق الفقهي (وهو أصل سد الذرائع) ليس مطلقا بغير شروط , بل لا بد من توفر شروطٍ لصحته , ولا أجد هذه الشروط متوفرة في العديد من الفتاوى والاجتهادات .
ثانيا :مصادرة الاختلاف السائغ , والتشنيع عليه ؛ بحجة أنه غير سائغ وشاذ وبدعوى مخالفته للإجماع (دون اتضاح الرؤية لضوابط تَشْذِيذِ قول واطِّراحِه) , أو بحجة أن القائلَ به من متتبعي رُخَصِ الفقهاء (ومن تتبع رخص الفقهاء تزندق) , أو بحجة أنها قولٌ مرجوحٌ , ولا يهم أن يكون راجحًا عند فقيه آخر .
ثالثا : بعض تلك السياسات مرجعها إلى خلط التقاليد والأعراف بالدين (مثل معضلة: عباية الرأس أو الكتفين) , واتّهمْنا من يخالفُنا فيها بشتى التهم , كالتغريب أو قلة الغَيرة (الدياثة) , وغير ذلك من التهم .
ولقد كنت أذكر خلافي لذلك كله بصوت يعلو قليلا وينخفض كثيرا ؛ لا خوفًا من ضغوض التهميش , الذي لا يمكن في زمن الفضاء المفتوح والشبكة الدولية المتاحة لكل أحد . ولا وجلاً من بَغْيِ هجومٍ متوَّقع يقصد الإسقاطَ وتشويهَ السمعة بشتى الوسائل : من تجهيلٍ وتبديع , إلى غير ذلك من صنوف الفجور في الخصومة . وإنما كان الصوت ينخفض كثيرًا : مراعاةً مني للمصلحة العامة المتمثلة في الحرص على وحدة الصف , أو تسامحًا مع الرأي القائل بأن المخالفين قادرون على تدارك الأخطاء إن وقعت , وأن جبهة الممانعة قوية , فلا داعي لإضعافها من الداخل . ويبدو أنني أخطأت في ذلك كله , وأنه ما كان لصوت الإصلاح أن ينخفض , وأن السكوت كان خطيئة لا تجوز.
فمثلا : كنتُ قد كتبتُ فتوى مُطَـوَّلةً فصّلتُ فيها الكلام عن الاختلاط بين الذكور والإناث , وبينتُ أن الاختلاط منه ما هو جائز ومنه ما هو محرم , وبينت فيه أن كثيرا من الناس فيه بين إفراطٍ وتفريط . ولا أعلم طرحًا شرعيا سابقا لذلك الطرح فَصَّلَ في شأنِ الاختلاط ذلك التفصيل . ومع أن تلك الفتوى كانت من قبيل الصوت المنخفض في الإصلاح , وهي تدعو لانضباطٍ شرعي مؤصَّلٍ في موضوع الاختلاط ؛ إلا أنها لم تحظَ بقبولٍ واسع لدى المخالفين من الشرعيين , الذين ما زالوا يغالطون ( في شأن الاختلاط ) الأدلةَ الشرعية ، ويتجاهلون الحاجةَ الملحة لإعادة النظر في عاداتنا التي مزجناها بالدين . فكانت تلك الفتوى مصدرَ امتعاظٍ عند شريحة كبيرة فيما ظهر لي , وتجاهلٍ أكبر من شريحة أكبر . حتى جاء الوقتُ الحاضر , فأصبح بعضُ من كان ينكر تلك الفتوى يتبجح الآن بالتفصيل الذي مضى لي على ذكره زمان , ووجد فيها بعضُ المتجاهلين لها سابقا مخرجًا من أزمةٍ وحلاًّ لمشكلةٍ . ولو أنهم راجعوا أنفسهم قبل هذا , وأدركوا متغيرات العصر , لعرفوا أن موقفهم السابق من ذلك الرأي كان خطأ شرعيا سيؤدي إلى خطأ شرعي في الاتجاه الآخر.
وفي قضية تأنيث المحلات النسائية : كنت أصرح بدعمي لهذا المشروع بضوابط , لكن الصوت العام كان هو الرفض والممانعة ,كالعادة , دون محاولة تَفَهُّمٍ لأهمية قبوله بضوابط.
وفي قضية الطائفية : تكلمتُ بصوت مرتفع , في الفضائيات , وفي أكثر من مقال , منها مقالٌ مطول نشرتْه بعضُ المواقع الشبكية , ثم طُبع ونُشر مجانا (بدعم من بعض المحسنين الفضلاء) . فكنتُ أحذًّرُ من خطر الطائفية , وأبين أنها الورقةَ الرابحةَ بيد المتربص الخارجي , وأن الاعتدال غائبٌ في شأنها عن الساحة الشرعية من الجوانب كلها (من جانب السنة ومن جانب الشيعة أيضا وغيرهم) . وما زال الرفض والممانعة مستمرَّينِ حتى خرج تقرير لجنة حقوق الإنسان السعودية يطالب بإعطاء الشيعة حقوقهم . فأرجو أن لا تستمر الممانعة , إلى أن تقع الفتنة الطائفية , أو إلى أن تتجاوز الأقليةُ الشيعية حقوقَها إلى ما ليس من حقوقها .
وفي مجال التكفير : كنت قد نشرتُ فتوى صريحة أقـيِّمُ فيها دعوةَ الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله) , حسب زمنها , وبما لا أعرف طريقةً هي أقوى منها في الدفاع عنها, وأَدْعَى لبقاء أثرها الطيب ؛ لأنها الإنصاف والعدل . ولأجعل هذه الفتوى مني مدخلا لمراجعاتٍ سلفيةٍ سُنية لتراثنا البشري غير المعصوم في مسائل التكفير والتي لي ولغيري فيها اجتهاداتٌ عديدةٌ نخالف المشهور بيننا فيها اليوم , نشرتُ أحدهَا في كتابي (الولاء والبراء) وفي مقدمة (التعامل مع المبتدع) , ومازلت أصرِّحُ بفتاواي فيها لكل سائل, وأناقش كل معترض . ولا أذكر هذا ؛ إلا لكي لا أُطالبَ بالدليل على ما أقول وبأمثلة لما أدّعيه.
وقد قُوبلت تلك المراجعات بهجوم متوقَّع , لا يهمني الآن منه ؛ إلا التذكير بواجب إعادة الحسابات , والمبالغة في محاسبة النفس , فمصلحةُ الدين فوق حظوظ النفس .
فمتى سنعلم أن الإصلاح الديني الحقيقي هو الانتصار الحقيقي لمكانة المؤسسة الدينية الرسمية , وفي استمرار أثرها المبارك ؛ سواء جاء الإصلاح منها أو من خارجها ؛ لأن مكانة المؤسسة الدينية الرسمية ليس سلطانا يقوم بالقوة , وإنما تقوم مكانتها بإصلاحٍ لشؤون الدين والدنيا , ويحقق للأمة (قيادةً وشعبا) مبتغاها في سعادة الدارين وفي العز والمجد والنصر والتمكين .
ويجب أن نتذكر : أن فضيلة الصدع بالحق لا تنحصر في الصدع به أمام الحاكم , بل من الصدع بالحق أيضا الصدعُ بالحق أمام العلماء والتيار الديني السائد , بغرض الإصلاح , ومن المؤهل للإصلاح .اهـ
_________________________________
منقول من أحد المواقع على الشبكة العنكبوتية
علماً أن تاريخ المقال 01/11/1430هـ
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين