السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ولد الإمام الحجة المحدث أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن ربيع الثوري الكوفي سنة سبع وتسعين من الهجرة، في عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك، وكانت ولادته ونشأته بالكوفة، واشتهر بالثَّوري نسبة إلى جده ثَور بْن عَبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مُضَر بن نزار بن معد بن عدنان الذي ينتهي نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
توجه لطلب العلم مبكرا بتوجيهٍ من والده المحدث الثقة سعيد بن مسروق الثوري، حيث كان والده من أصحاب الإمام الشعبي، وبرعايةٍ وعنايةٍ من أمه التي كانت تقول له: "اذهب فاطلب العلم، حتى أعولك بمغزلي، فإذا كتبت عدة عشرة أحاديث فانظر هل تجد في نفسك زيادة، فاتبعه وإلا فلا تتعنّ"، فنشأ نشأة صالحة، وتربى على حب طلب العلم والاشتغال به.
أفنى سفيان الثوري عمره في طلب العلم وبرع في الحديث، وحكى عن نفسه فقال: "لما أردت أن أطلب العلم قلت: يا رب لا بد لي من معيشة، ورأيت العلم يُدرس -أي يذهب ويندثر-، فقلت: أفرغ نفسي في طلبه، وسألت الله الكفاية"، وقال: "أنا في هذا الحديث منذ ستين سنة"، وقيل له: "إلى متى تطلب الحديث؟ قال: وأي خير أنا فيه خير من الحديث، فأصير إليه؟ إن الحديث خير علوم الدنيا".
رحل إلى الحجاز وزار بيت المقدس، وذهب إلى اليمن للقاء معمر بن راشد ليأخذ الحديث عنه، وكانت أسفاره ما بين طلب علم وتجارة وهرب من السلطان، وكان نابغة بحق؛ قال عنه الإمامالذهبي: "كان ينوه بذكره في صغره من أجل فرط ذكائه، وحفظه، وحدث وهو شاب".
سمع من: عمرو بن مرة، وسلمة بن كهيل، وحبيب بن أبي ثابت، ومنصور، وحصين، وأبيهسعيد بن مسروق، والأسود بن قيس، وجبلة بن سحيم، وزبيد بن الحارث، وزياد بن علاقة، وسعد بن إبراهيم، وأيوب، وخلق لا يحصون، وقيل إنه أخذ عن ستمائة شيخ، كبارهم الذين حدثوه عن: أبي هريرة وجرير بن عبد الله وابن عباس وأمثالهم، وعرض القرآن أربع مرات على الإمام القارئ حمزة الزيات.
وروى عنه: ابن عجلان وأبو حنيفة وابن جريج وابن إسحاق ومسعر - وهم من شيوخه -، وشعبة، ومالك، وابن المبارك، ويحيى، وابن وهب، وأمم لا يحصون، وبالغ ابن الجوزيفقال: "أخذ عنه أكثر من عشرين ألفاً".
مناقبه وثناء الأئمة عليه:
كان إماما عالما حافظا أثيراً، وكان يتوقد ذكاء، واشتهر في الحديث والفقه، وصار له مذهب متبوع فترة من الزمن، وأخرج له الأئمة الستة في دواوينهم.
قال عنه عبد الله بن المبارك: "كتبت عن ألف ومائة شيخ، فما كتبت عن أفضل من سفيان" يعني الثوري، وقال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: "شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه".
وقال عبد الرحمن بن مهدي: "رأى أبو إسحاق السبيعي سفيان الثوري مقبلا، فقال: {وآتيناه الحكم صبيا} (مريم: 12)"، وقال الإمام أحمد بن حنبل: "قال لي ابن عيينة: لن ترى بعينيك مثل سفيان الثوري حتى تموت"، وقال عنه أبو حاتم الرازي: "سفيان فقيه، حافظ، زاهد، إمام"، وقال الأوزاعي: "لو قيل لي اختر لهذه الأمة رجلاً يقوم فيها بكتاب الله وسنة نبيه لاخترت لهم سفيان الثوري".
وقفات مع سيرته:
أهم ما يمكن أن نقف عليه في حياة الإمام أبي عبد الله سفيان بن سعيد الثوري - رحمه الله -:
- ورعه في الفتوى: رغم غزارة علمه إلا أنه كان يحرص أن لا يُفتي إلا بما يعلمه، وحين يكون قلبه مليئا بالسكينة والوقار، ولا يختلج بصدره أمر من أمور الدنيا، قال أبو قطن: "قال لي شعبة: إن سفيان ساد الناس بالورع والعلم"، وقال مروان بن معاوية: "شهدت سفيان الثوري وسألوه عن مسألة في الطلاق، فسكت وقال: إنما هي الفروج، أي أخاف أن أفتي بالحل وهي محرمة عليه، فأتسبب في الوقيعة والوقوع في فرج لا تحل له".
وقال ابن أسباط: "سئل الثوري وهو يشتري عن مسألة، فقال للسائل: دعني فإن قلبي عند درهمي فلست متفرغاً لأفتيك، وقد أخطئ وأنا منشغل بالبيع والشراء".
- عمله بالعلم الذي يعلمه: كان حريصاً على مطابقة قوله لعمله، وهذا دأب العلماء العارفين والأئمة الربانيين: أن يكونوا عاملين بما يعلمون، ولا تخالف أقوالهم أفعالهم، يقول عبد الرحمن بن مهدي: "سمعت سفيان يقول: ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا عملت به ولو مرة واحدة".
- قوة حفظه وشدة ضبطه: كان سفيان الثوري ثقة ثبتا حجة إماما، نقل عنه عبد الرزاق قوله: "ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني".
وقال ابن مهدي: "ما رأت عيناي أفضل من أربعة أو مثل أربعة: ما رأيت أحفظ للحديث منالثوري، ولا أشد تقشفا من شعبة، ولا أعقل من مالك، ولا أنصح للأمة من ابن المبارك"، وروى وكيع عن شعبة، قال: "سفيان أحفظ مني".
- زهده وورعه وتواضعه: كان إماماً في الزهد والتأله والخوف، غير أن له مذهباً متميزاً في ذلك، فقد كان كثير من أهل الزهد انتهوا في زهدهم إلى الجوع والتقشف الشديد وترك التكسب، فأورث بعضهم أمراضاً وأوجاعاً، وحاجة إلى الناس، أما سفيان فقد كان متيقظاً لعاقبة ذلك، فكان يقول: "كان المال فيما مضى يكره، أما اليوم فهو ترس المؤمن"، ونظر إليه رجل وفي يده دنانير فقال: "يا أبا عبد الله تمسك هذه الدنانير، قال: اسكت: فلولاها لتمندل بنا الملوك".
وأما زهده فقد أقبلت عليه الدنيا فتركها وأخذ كفايته حتى لا يحتاج إلى الناس، وربما اشتغل ببيع وشراء لأجل ألا يحتاج إلى الناس، ولا يمد يده، وكان له وصايا في الزهد فكان يقول: "ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكن قصر الأمل وارتقاب الموت"، وكان يقول: "لا تصحب من يكرم عليك، فإن ساويته في النفقة أضر بك، وإن تفضل عليك استذلك".
وفاته:
توفي الإمام سفيان الثوري بالبصرة في شعبان سنة إحدى وستين ومائة من الهجرة النبوية الشريفة، وله من العمر أربع وستون سنة، وصلى عليه عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر الكوفي بوصية من سفيان لصلاحه، وكان قد مرض أثناء اختفائه بالبصرة ومات في مرضه، فخرجوا بجنازته على أهل البصرة بغتة فشهده الخلق وصُلوا عليه، ولم يتمكن إخوانه وأصحابه من الاجتماع للصلاة عليه، فجعلوا يفدون إلى قبره يوم وفاته، رحمه الله رحمة واسعة.
منقول ---