م. عبد اللطيف البريجاوي
هكذا تكونُ الأمَّهاتُ
للوالدين دور كبير في حسن توجيه ولديهما إلى الخير والطريق الصحيح, بل ربما يكون لهما الدور الأكبر في ذلك, فقد أثبتت الدراسات العلمية أنّ أكثر من خمس وسبعين بالمائة من المعارف يتلقاه الأولاد في سنّ الخامسة فمادون.
إذاً فترة عمريّة خطيرة تتلقّى وتخزن هذه المعارف لتعيد صياغتها عندما تكبر, لذلك تأتي أهميّة الوالدين في هذه المرحلة, وماذا يقدّمون لأولادهم من معطيات حول الدِّين والحياة والرّابط بينهما..
إنها أخطر العمليّات في أخطر الفترات .
فعَن أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقولُ: قَالَ رَسولُ اللّهِ صلّى الله عليه وسلّم: « مَا مِنْ مَولُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَىٰ الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ » ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَتَ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ} الآية [ متفق عليه].
« والجدعاءُ المقطوعةُ الأذن، يريد أنها تولد لا جَدَع فيها, وإنما يجدعُها أهلُها بعد ذلك»[ فتح الباري كتاب الجنائز- باب ما قيل في أولاد المشركين].
وربما تكون الأمّ أكثر تأثيراً وأعظم توجيهاً في حياة أبنائها, وذلك لشدّة قربها منهم, وعظيم تعلُّقها بهم.
فتصرّفاتها وكلامها ينطبع في آذانهم؛ فيتعلّم الأطفالُ منها الكثيرَ الكثير وربّما هي لا تدري.
فالأمّ المراهقة يتعلّم أولادُها المراهقة منها؛ والأمّ المشغولة في الأسواق والزيارات تحفر في أذهان أطفالها ثقافةَ اللّهو من حيث لا تدري؛ والأمُّ القانتة العابدة ترسِّخ في عقول أولادها وقلوبهم الطريق الصحيح والسليم لعبور هذه الدنيا؛ وقد صدق الشاعر حيث قال:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق.
فأيُّ مدرسة أعظم من الأم وهي تربّي جيلاً, وتصنع رجالاً, وتبني أسراً, وتمهّد للوصول إلى جنّات النّعيم.
لذلك تأخذ الأمّ دوراً في توجيه أولادها وتعليمهم وترقيتهم, تحرص عليهم, وتستغلُّ المناسبة لدعوة صالحة لأولادها, إذا زارتها إحدى الصالحات أو زار بيتَها أحدُ الصالحين, ولعمري إنّ أم أنس أسعدت أنساً وهو مازال صغيراً عندما تحيّنت مرور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فطلبت دعاء خاصاً لولدها فعن أَنَس بن مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللّهِ فَسَمِعَتْ أُمِّي، أُمُّ سُلَيْمٍ صَوْتَهُ فَقَالَتْ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللّهِ أُنَيْسٌ فَدَعَا لِي رَسُولُ اللّهِ ثَلاَثَ دَعَوَاتٍ قَدْ رَأَيْتُ مِنْهَا اثْنَتَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَرْجُو الثَّالِثَةَ فِي الآخِرَةِ.
وفي رواية عن أنسٍ رضيَ اللَّهِ عنه قال: قالت أمّي: «يا رسولَ اللَّهِ، خادمُك أنسٌ ادْعُ اللَّهَ له قال: اللهمَّ أَكثرْ مالهُ ووَلده، وبارِكْ له فيما أعطَيتَه».
وفي قصة أحمد بن حنبل مع أمّه التي كانت له أمّا وأباً وخادماً ومربياً ومرشداً فقد مات أبوه ، وهو طفل، فكفلته أمّه الزاهدة العابدة الصائمة القائمة.
قال أحمد رحمه الله: فحفَّظتني أمّيَ القرآن، وعمري عشر سنوات، فحفظتُ كتاب الله، واستوعبتُه في صدري.
وقال أيضاًً: كانت أمّي تلبسني اللباس، وتوقظني وتحمّي لي الماء قبل صلاة الفجر، وأنا ابن عشر سنوات، ثم كانت تتخمّر وتتغطى بحجابها، وتذهب معه إلى المسجد؛ لأنّ المسجد بعيد، ولأن الطريق مظلمة.
أو قد تستغل الأم درساً من الحياة لتشرح لأولادها فلسفة الحياة, وكيف يكون النجاح وكيف يكون التفوّق,فهي تحرص الاختيار الصحيح لأولادها لا نفاقاً ولا رياءً ولا مجاملةً, فهذه أم انس رضي الله عنها تستغل موقفاً تـثبت به قيمة عليا عند ولدها, فعَن أَنَسٍ قَالَ:« أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللّهِ وَأَنَا أَلعَبُ مَعَ الغِلمَانِ قَالَ: فَسَلَّمَ عَلَينَا فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ فَأَبْطَأتُ عَلَى أمِّي فَلَمَّا جِئتُ قَالَت: مَا حَبسَكَ؟ قُلتُ: بَعثَنِي رَسولُ اللّهِ لِحاجَةٍ قَالَتْ: مَا حَاجَتهُ؟ قُلتُ: إِنَّهَا سِرٌّ قَالَتْ: لاَ تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللّهِ أَحَداً» [ مسلم كتاب فضائل الصحابة- باب من فضائل أنس].
فالأمّ رحمٌ لابنها حتى بعد أن يخرج من رحمها, تحميه وتعطيه وترعاه, وكلّما اجتهدت في توجيهه نضج وأثمر, وكلما بخلت عليه بذلك تمرّد وابتعد واستكبر.
منقول---