الوداع... هذه الكلمة التي نتردد في نطقها، ويسرق النوم من عيوننا مجرد التفكير فيها، لأنها تحمل معنى الفراق، والفراق في قاموس الحياة رحيل، والرحيل في حقيقة الأمرغياب، والغياب في جوهرالشعور استلاب لبهجة الحضور.
لذلك كان الوداع منذ بدء الخليقة واحدا من الأشجان التي تؤرق نفوسنا، والعذابات التي تؤلم أرواحنا، والهواجس التي لا تفتأ تلح على خواطرنا، سارقة منا الفرح، زارعة في نفوسنا القلق.
وقبل أن يقول شاعرنا الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟
ومنذ أن أتحفنا ببيته الذي جرى على كل لسان هذا، وعبر قرون من الزمن، ظل السؤال مطروحا، استفهاميا تارة، واستنكاريا أخرى، لكنه لم يغادر منطقة التحدي، تحدي ألم الفراق ولوعته، وتباريح الوجد وعذاباته.
للوداع معنا قصة لا تزال تنسج وتحاك وتروى، فنحن قبل أن نولد والوداع محطة يتكرر وقوفنا فيها. نودع أرحام أمهاتنا كي نأتي إلى الدنيا حاملين الفرح لأولئك الذين ينتظروننا على بوابة الحياة مستبشرين بصرختنا، ثم نبدأ رحلتنا منتقلين من محطة إلى أخرى، وكلما حططنا رحالنا في محطة جديدة تذكرنا أننا لم نودع المحطة التي كنا فيها، لتبدأ محاولاتنا العودة إليها، غير أن نواميس الكون وقوانين الحياة تحول دون تحقيق ذلك، عندها لا نجد أمامنا سوى الذاكرة وسيلة نبحر من خلالها إلى الزمن الذي غادرناه. وعندها لا يكون الوداع وحده هو هدف الإبحار، لأن أشياء أخرى كثيرة تأتي، ربما كان الوداع أقلها جاذبية إن لم يكن آخرها استهدافا.
هكذا نتخذ الوداع معبرا للوصول إلى تلك المحطة التي غاب عنها، بينما يأخذنا الوداع إلى ما هو أبعد من تلك المحطة، إلى لقاءاتنا الحميمة مع أفراحنا، وإلى مرافئ أحلامنا القديمة، وإلى كنوز ذواكرنا الثمينة.
هناك حيث نلقي عن كواهلنا ما تراكم عليها من غبار الأيام، ونرتدي أجمل ما نسجنا من أردية الأحلام، وننعم بدفء لحظاتنا الأروع، تلك التي أوقدنا فيها جمرة أشواقنا، ونثرنا فيها بذورآمالنا، وانتظرنا خلالها تفتح أزهارنا، فطاوعتنا الأيام حينا، وتأبت علينا أحيانا، ثم مضت مواصلة رحلتها، غير عابئة بنا، متجاهلة وجيب قلوبنا، وأنين أرواحنا.
ما هي احتمالات أن يكون الوداع محطة للفرح كما هو محطة للحزن؟
هذا سؤال تكمن غرابته في فكرة طرحه، إذ كيف يتأتى للوداع أن يكون محطة للفرح وهو الذي طالما ارتبط بالفراق والفقد؟
سوف نؤجل البحث عن إجابة لسؤال كهذا إلى أن نعبر محطة الوداع الحزينة،
ذاكم إذن هو الوداع الحزين الذي نخشاه جميعا ونتفادى لحظته الصعبة، فمن أين لنا بوداع يكون محطة للفرح نترقب لحظته ونهفو إلى معانقته؟
إنه وداع الحزن نفسه، حين تتخلص نفوسنا من آلامها ومخاوفها وكل ما يجرح غلالتها الرقيقة، ويغوص مدميا أعماقها الغائرة.
ترى.. هل تملك المناسبات السعيدة القدرة على صنع لحظة وداع من هذا النوع؟
هذا هو قمة ما يمكن أن تفعله المناسبات السعيدة في حياتنا، فهي إن لم تفعل ذلك فقدت سببا جوهريا من أسباب وجودها، وهي إن لم تملك القدرة على فعل من هذا النوع غدت وسائر الأيام سواء، فلم تحرك ساكنا ولم تبعث السكون في متحرك أعياه البحث عن السكينة والهدوء، وهي إن لم تستطع أن تغلق الملفات المفتوحة على كل ألوان طيف الأحزان غادرها بريقها، ولم تعد محطة ينتظرها الجميع من حين إلى حين، كي تبعث الفرح في القلوب المشرعة أبوابها لكل الرياح القادمة من شتى الأصقاع.
هل من المناسب إذن ونحن نعيش مناسبة فرح عظيمة أن نودع أحزاننا موصدين خلفها الأبواب والنوافذ كي لا تعود إلينا أو نعود إليها ثانية؟
ربما كان من الأفضل أن نفعل ذلك، وربما كان من المناسب أن نجعل الوداع محطة للأمل، أمل اللقاء الذي هو صنو الوداع، فلولا لوعة الوداع ما عرفنا للقاء بهجته، ولولا الحزن ما عرفنا للفرح قيمته.
إنها متضادات الحياة، تلك التي تجعل من محطات العمر مناسبات للتأمل تستحق الإحتفاء بها، نستقبل خلالها الكثير من الرسائل، يسعدنا بعضها، ويشقي نفوسنا بعضها الآخر، ونتقلب بين الشعورين حائرين في أي منهما نختار لبعضها، فهل ترانا نشعر بالعجز أحيانا إلى الدرجة التي لا نستطيع أن نفرق فيها بين السعادة والشقاء؟
ربما يحدث ذلك في لحظات نحن أحوج ما نكون فيها إلى الفرح؛ عندما يداهمنا القلق وتلح علينا خواطرمن ذلك النوع الذي يسرق منا أجمل أحلامنا، فلماذا لا تكون المناسبات السعيدة فرصة لمعانقة الشعور باللحظة الأجمل في حياتنا، لحظة الوداع السعيدة؛ تلك التي نودع فيها مخاوفنا وكل ما يسرق منا أفراحنا، ونستقبل فيها حزمة جديدة من الضوء، تنير لنا القادم من أعمارنا؟
عندها لا يغدو للوداع ذلك الثوب الحزين الذي تعودنا أن نخلعه عليه، وعندها نرفل جميعا في أثواب الفرح، لأننا نكون ساعتها قد ودعنا حقبة من أعمارنا لا نفكر في العودة لها، حتى لو كان ذلك عبر الوسيلة التي طالما أخذتنا إليها؛ ذاكرتنا التي نتمنى أن تبقى دائما ذاكرة فرح فضائي محلق في سماوات لا حدود لها.