البراطيل تنصر الأباطيل
الثلاثاء 15 ذو القعدة 1430 الموافق 03 نوفمبر 2009
د. يوسف بن أحمد القاسم
وهذا من الأمثال القديمة المذكورة في كتب لغة العرب..
لكن.. تدرون ما البراطيل؟
البراطيل في لغة العرب: جمع بِرِطيل, وهو بمعنى: الرشوة. يقال: بَرْطَلَه, فتبرطَل: رشاه, فارتشى, كما في القاموس..
إذن هذا المثل يتهم الرشاوى بأنها تنصر الأباطيل, وهي تهمة مستندة إلى دليل الشرع والعقل والعادة والحسّ, وكل الأدلة المتاحة في هذه الدنيا..
فمن تخطّى النظام, أو التفّ عليه بمال, فقد نصر باطلاً..
ومن أخّر كفؤاً, وقدّم فاشلاً بِرشًا, فقد نصر باطلاً..
ومن أفسد صفقة, وأنجح أخرى ببرطيل, فقد نصر باطلاً.., وهكذا..
ولكن هل نصْر الأباطيل, هو السرّ الوحيد في تحريم البراطيل؟
كلا.., فقد لعن الله من يعطي الرشوة(البِرطيل) ومن يأخذها- وهو الراشي والمرتشي- واستحق كل واحد منهما اللعنة, أي: الدعاء عليه بالطرد والإبعاد من رحمة الله؛ لأسرارٍ عديدة, وحكمٍ كثيرة, يصعب حصرها.., كلها تثبت بأن من يمارس الرّشوة, فهو مستحق اللعنة من الناس, ومن رب الناس..
فمن يبيع ذمته بثمنٍ بخسٍ دراهم معدودة, ألا يستحق اللعنة؟
ومن يشتري الذمم ويساوم عليها, ألا يستحق اللعنة؟
ومن يفسد موظفي الدولة, ويبتزهم بعرضٍ من عرضِ الدنيا, ألا يستحق اللعنة؟
ومن ينشر ثقافة خدمة المواطن بمقابل مالي, أو بإغراء مادي, ألا يستحق اللعنة؟
ومن يجعل المجتمع قطعاناً من الخونة وعديمي الضمير, ألا يستحق اللعنة؟
ومن يهدم الأمانة في البلد, ويهز أركانها, ويستهدف عروشها, ألا يستحق اللعنة؟
ومن يصنع الفساد الإداري في الدوائر الحكومية, ويشيع هذه الجرثومة الخبيثة, ألا يستحق اللعنة؟
ومن ينسف ما يبنيه رعاة المجتمع من قيم ومبادئ, ألا يستحق اللعنة؟
ومن يقف حجر عثرة أمام تطور المجتمع ورقيه إدارياً وأخلاقياً, لتبقى البلاد في ركب العالم الثالث, ألا يستحق اللعنة؟
ومن يرسي المناقصات على من لا يستحق؛ لحاجةٍ في رصيده البنكي, ألا يستحق اللعنة؟
ومن يحسب على الدولة فواتير مبالغاً فيها, ليقتطع الزائد منها لحسابه الشخصي, ويتغاضى عنه الموظف لمصلحته, ألا يستحق اللعنة؟
ومن يوقع الشهادات بإتمام مشاريع المقاولات أو الخدمات وإنجازها لمن لم يلتزم بالشروط المفروضة؛ طمعاً في ملايين معدودة, ألا يستحق اللعنة؟
بلى –والله- إنه يستحقها, ولا كرامة, فلعن الله الراشي والمرتشي, لعن الله الراشي والمرتشي, لعن الله الراشي والمرتشي..
لعنهما الله؛ لأنهما يستسهلان بيع الضمائر, كما يستسهلان بيع الخبز والألبان..!
لعنهما الله؛ لأنهما يريقان ماء الوجه, كما يُراق الدم الحرام..
لعنهما الله؛ لأنهما ينشران ثقافة الجشع, كما ينشران ثقافة القطعان..
لعنهما الله؛ لأنهما يمتصان الأموال قسراً, كما يمتص البعوض والناموس دم الإنسان..
وهل هناك أحقر من هذه الحشرة التي تتغذى على دماء الغير, وتنقل الوباء, وتنشر الفيروس, دون أن يشعر بها إنسان..؟!
والمشكلة أن ظاهرة الرشوة تتسع كلما اتسعت دائرة الفقر, ولهذا ينبغي محاصرة الفقر قدر الإمكان, فإن الاستنفار لمحاربة الفقر, هو استنفار لمحاربة الرشوة من جذورها.., وإن كان كثير من عمالقة المرتشين وأباطرتهم يملكون الملايين, لا كثرهم الله, آمين..
وتتسع دائرة الرّشا حين يجلس على الكرسي من لا أمانة لديه، وإن كان كثّ اللحية, مشمّر الإزار, فإذا أُضيف إلى ذلك انخفاض سقف الرقابة, وانتشار المحسوبيات باسم الشفاعات, فحينئذ لا تسأل عن الفساد الإداري, عياذاً بالله..
والعجيب أن ظاهرة انتشار الرشاوى في البلاد العربية ليست وليدة اليوم, فقد كانت منتشرة في زمن مضى ببلاد مصر وغيرها من الأراضي العربية, ولهذا قال العيني(ت885هـ) في عمدة القاري: "وأعظم المصائب أن الديار المصرية التي هي كرسي الإسلام لا يتولى فيها القضاة والحكام وسائر أصحاب المناصب إلاّ بالرشى والبراطيل..! ولا يوجد هذا في بلاد الروم, ولا في بلاد العجم". أهـ
فيا سبحان الله! سلمت منها بلاد الروم والعجم منذ ذلك العصر, ولم يسلم منها الكثير من بلاد العرب والمسلمين, والتي جاءت شريعتها الإسلامية بالتحذير من الرشوة, والتخويف من مغبتها..! وهنا أتساءل: لماذا تطبق الكثير من تعاليم الإسلام خارج حدود بلاده, في الوقت الذي يقنِّن فيه شرعنا المطهر منع الرشوة منذ أربعة عشر قرناً, ويتوعَّد عليها الشارع بأقسى عبارات الوعيد..؟! وهل التاريخ يعيد نفسه حين ينتشر اليوم ورم الرشوة الخبيث في الكثير من جسد الأمة العربية والإسلامية, ولا نرى هذا المرض ظاهراً للعيان في البلاد الغربية, وفي البلاد المتحضرة, كما نراه في بلاد العرب والمسلمين..؟!
إن ظاهرة الرّشا في أي دولة, هي أعظم عدو للتقدم والتطور والتحضر, وهي أبرز صورة من صور الفساد الإداري, وقد اعتنى الشارع بما يقتلع الفساد من جذوره, وذلك بإشادته باختيار القيادات الأكفاء التي تملك مقومات النجاح, وأبرزهما: القوة, والأمانة, واللتان هما قوام القدرة على القيام بالعمل, والإخلاص فيه, وذلك لما يملكه القوي الأمين, من قوة ذهنية, وقدرة إدارية, وشجاعة في اتخاذ القرار, وإخلاص في العمل, وصدق في الأمانة, واستعداد لتحمل المسؤولية, وصفة القوة والأمانة مذكورة في قوله تعالى: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)، وهاتان الصفتان تمثلان أسلوب وقاية من التورط في أُجَراء وموظفين لا يملكون الحد الأدنى من صفات النجاح.
الإسلام اليوم