يقول سبحانه وتعالى : 0 وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) ، والتوسط في الأمور يدل على العلم التام ، والخشية المتناهية ، والعقل الراجح ، وكذلك كان شيخ الإسلام ؛ فهو يحمد ربه – سبحانه وتعالى – أن هل السنة وسط في المسائل ، كما أن أهل الإسلام وسط في الدين واملة ، فهم وسط بين اليهود والنصارى ، وكذلك أهل السنة وسط في باب الأسماء والصفات بين المجسمة الممثلة والجهمية المعطلة ن ووسط في القضاء بين القدرية والجبرية ، ووسط في الوعد والوعيد ين المرجئة والخوارج ، ووسط في حب أهل البيت بين النواصب والروافض ، ويستمر ابن تيمية – رحمه الله – في تعداد هذا الوسط ،ويدعو غليه وينهجه ويحببه ويعتنقه ،وأن من نعم الله – عز وجل – على طالب العلم وطالب الحق وحامله أن يكون وسطاً في كل أموره ، حتى في أخلاقه وسلوكه ن فإن الدين جاء بالوسط لا إفراط ولا تفريط ، ولا غلو ولا جفاء ،القصد القصد تبلغوا ما في الحديث ، والتوسط في الأمور هو المحجة الصحيحة التي ينبغي أن يسلكها طالب العلم في أقواله وأعماله .
ابن تيمية نسخة لم تكرر إلى الآن في حد علمي ، فليس كغيره من الآف العلماء الذين نشؤوا في الأقاليم والمدن ، فكرروا أنفسهم ، وكرروا غيرهم ، فتجد القاضي سبقة الآف القضاة وأتي بعده الآف القضاة ن وهو نسخة طبق الأصل للهؤلاء في علمهم وفي فهومهم وفتاويهم وأحكامهم ، وليس كغيره من المفتين الكثر – مع أن الله نفع بهم – لكنهم يحفظون متوناً ، ويكررون الكلام السابق لائمتهم ، ويتعصبون لمذاهبهم ، ويقلدون شيوخهم ، ولا يخرجون قيد أنملة عن ما تلقوه من أرباب المذاهب ن أما ، إما ابن تيمية فإنه لم يأت ليحفظ متناً ويدرسه ويعلمه الناس ، بل أتي مجدداً لشريعة ربانية اندرست معالمها قبل القرن الذي كان فيه ن فأتي – بفضل الله – في وقته المناسب وفي زمانه وفي مكانه ، آتى يدعو إلى العودة إلى الكتاب والسنة عودة صادقة ن وينبه الناس أنهم وهنوا في بالتمسك بالنص ن ويبين أن البدع غنما دخلت على الأمة ببعدها عن الوحي فصاح في الأمة صيحة قوية عالية سمعها من شاء الله أن يسمعها ،صيحة تدعو الناس إلى العودة إلى المعين العذب الزلال الذي لا ينضب ؛ وهو الحي المبارك كتابا وسنة ، فدعا إلى التجديد في باب المعتقد ، وفي باب العبادات والمعاملات ، وفي الأصول والفروع ، وفي الأخلاق والسلوك ، وألف في ذلك كتباً فكان ، حقاً – هو المجدد في عصره وفي العصور التي تليه، وما رأيت حركة إصلاحية بعد عصر الصحابة والتابعين والأئمة المشهورين مثل حركة ابن تيمية ، ومن أجل روح التجديد قام المقامات الشريفة والمواقف الجليلة ، وأوذي بسبب هذا التجديد ، وبسبب الدعوة الإصلاحية ، ونسب إليه أنه يخالف الأئمة ويختلف عن السلف، وهذه تهمة كاذبة لا أصل لها ، بل هو الذي نصر مذهب الأئمة الكبار ، وهو أذى أعاد الناس إلى منهج السلف ، وهو الذي أوضح السنة وجدد أمر الدين ، فجزاه الله عن الإسلام خير الجزاء .
كثير من أهل العلم من يبرع في مسائل أوفي باب أو في تخصص أوفي علم من العلوم ،أما هذا الإمام فإنه، - في رايي – برع في العلوم كلها ، فهو متمكن في باب المعتقد ،وفي الفقه ، وفي الحديث ، وفي التفسير ،وفي أصول الفقه ، وفي اللغة وفي النحو ، حتى إن من اللطائف أن أهل الفنون يستشهدون بكلامه ؛ كابن هشام صاحب ( شذور الذهب ) الذي استشهد بكلام ابن تيمية في النحو ، وكان يعاد غليه في اللغة ، وكان يسأل عن الرجال في علم الحديث ، وكان يناظر كبار الأئمة في أصول الفقه ، ويعلو عليهم ويغلبهم ، ورد على الفلاسفة وكتب كتاباً في المنطق ، وقالب وهم أصحابه في كثير من المسائل وتكلم في علم الهيئة، وفي علم الفلك ، ومن يقرأ كتبه يصاب بدهشة من عمقه ، وعلو كعبة وسعة دائرته في العلوم ، واتساع ذهنه في المعارف ، حتى صار قصة في هذا الباب ، وأعجوبة في هذه القضية .
الحكمة موهبة يهبه الله من يشاء ، وهي السداد في القول والفعل ، ووضع الأمور مواضعها وإيتان الأمور من أبوابها ، وكذلك كان الشيخ ؛ فمثلاً في باب العلم كان يقدم الأول الأول ، فتجده مهتماً بمسألة التوحيد الكبرى التي هي أعظم مسالة في العالم ، وأجل قضية في الكون، فكان – رحمه الله – يبسط القول في مسائل المعتقد ، ويوضح ذلك أتم التوضيح، ويجاهد من أجله ويناظر عليه ، وكان يلتمس العذر في مسائل الأصول ولا يلاين ولا يتنازل عن شيء ن بل يوضح التوحيد بأبوابه ومسائلة أوضح بيان ، ويدعو إليه ، ويغضب إذا خولف في ذلك وينتصر له أتم الانتصار ، ويلوم ما وقع فيه الكثير من التهاون في باب توحيد الباري سبحانه وتعالى ، وما حصل نتيجة ذلك من انحراف وابتداع ، فكانت جل كتبه في الأصول، وغالب بحوثه في المعتقد ، حتى نظر للمعتقد – سواء في الربوبية أو الألوهية أو الأسماء والصفات – تنظير ، وقعد له تقعيد ، واصل له تأصيلاً استفاد منه الملايين بعده – رحمه الله- وصارت كتبه هي للرجع في المكتبة الإسلامية لمن أراد أن يتعمق ويكشف أسرار الإيمان والمتعقد .
ابن تيمية والعبقرية
إذا لم يكن هذا الذكاء بعينه *** فإني بالقاب الذكاء كفور
وإن لم تكن ألقابكم عبقرية *** إذا فشهود العبقرية زور !
إن لم يكن ابن تيمية عبقرياً فلا أدري من العبقري ؟ ! وإذا لم يستول على منصب الألمعية فليس لأحد أن يترقى هذا المنصب ! وإذا لم يكن هو الذكي اللماح إذا لم نسمع بعد الصحابة بذكي لماح ! إن من أجل ما استوقف المؤرخين والكتبة وأهل السير والباحثين في سيرة هذا الإمام عبقرية الفذة فقد أفاض الله عليه من أسباب الذكاء وموهبة الفهم ما صار حديث الناس وقصة السمر لهم ، سواء الموافق منهم أو المخالف ، ورأيت كثيراً من أعدائه وحسادة يذعنون ويعترفون بنبوغه ، وبقوة ذاكراته وبحافظته الفياضه ، لكنهم يخالفونه في المسائل حسداً من عند أنفسهم ، وبغياً من لدنهم ، والشاهد أنه لا يختلف الصديق ولا العدو على أن ابن تيمية كان عبقريا بمعنى الكلمة ، حتى إن بعض الغربيين كتب عن سيرته ،وأفرد بعض المستشرقين بحوثاً عنه ، وتناولته دور المعارف والمجامع العلمية بالدراسة والتحليل ، وألف في سيرته مئات التأليف ؛ فمنهم من يأتي بابن تيمية في باب الدليل ،ومنهم من يأتي به في باب المحادة والمجادلة ، ومنهم من يذكر سيرته على وجه العموم ، ومنهم من يتناول مسالة المعتقد أو أصول الفقه عنده ، ومنهم من يأخذ مسالة فحسب ، ويبحث عن حياة هذا الإمام وعن جهوده في هذه المسالة ، ومنهم من يتناوله مؤلفاً أو فقيهاً أو مناظرا أو مجاهداً أو محدثاً أو مفسراً ،كل ذلك من الأدلة القاطعة على عبقرية هذا الرجل ، ولا أعلم عالماً بعد ابن تيمية – إلى الآن – أتى في قدره ، وفي علو منزلته ، وفي ارتفاع مكانته ،وفي سعة علومه ورسوخه العلمي وعمقه المعرفي ، لا أعلم عالماً مثل ابن تيمية منذ أن نشأ هذا الإمام إلى الآن ، وقد وتصفحت كثيراً من التراجم ،وعدت إلى كثير من السير لأحد من يشابهه أو يمكن أن يقارن به من قرنه الذي عاشه حتى الآن فلم أجد ذلك، ووجدت من شهد هذه الشهادة من العلماء وقالوا : لن يتكرر هذا الإمام ! لكن الله عز وجل قدير ، وفضله ًواسع ، إلا أن هذه الحقيقة تفرض نفسها ! وهي أنه فرد في بابه منذ أن نشأ إلى الآن، أي فيما يقارب سبعة قرون، وإذا كان للمعتزلة عظيم في كل ألف – كما قالوا عن النظام- ، فإن العظيم من عصر ابن تيمية إلى عصرنا هذا هو شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه ،فغفر الله له رحمه الله .
ابن تيمية ليس مقلداً ولا متعصبا
العالم لي مقلداً ، والمقلد ليس من أهل العلم؛ لأنه لا يقلد إلا من ضعفت بصيرته ، أو قل ذكاؤه ، أو ضحل علمه ، ولم يكن ابن تيمية كذلك ، بل هو الذي الأريب العالم المتبحر البصير بدينة؛ولذلك كان- رحمة الله – مجتهداً يعمل بالدليل ، ويستنبط بنفسه بعد أن فتح الله عليه ، ولم يكن متعصباً لقول أحد من أهل العلم ، إنما كان قصده الحق ومطلبه البرهان ، فإن يذهب مع الدليل أينما ذهب ، وقد رأيت في كثير من المسائل أنه يرجح غير المذهب الذي نشأ عليه وهو المذهب الحنبلي ؛ فأحياناً يرجح الحنفي أو المالكي أو الشافعي ، أو يأخذ قولاً غير الأقوال الأربعة إذا رأى أن الدليل يسانده ويسعفه ، فليس من متعصبة الفقهاء الذين يغلبون أقوال المتهم ، ويرجحون مذاهبهم بالتشهي والهوى ولو خالف الدليل ، بل كان سائرا مع المذهب الحق ، طالباً الحقيقة ، متعصماً بالكتاب والسنة ، لا ير إلا الدليل من قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام ، ويوصي بذلك في كتبه ورسائله .
من المدح الذي يشبه الذم لابن تيمية أنه أخمل معاصريه من أقرانه وزملائه وكانوا نجوماً في العلم ، ولكن طلعت شمسيه فاختفى كل كوكب ، كما قال النابغة
فإنك شمس والملوك كواكب *** إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فكان ابن تيمية – بحق – رجل المرحلة ، فلما ظهر لم يكن لغيره ما له من الصيت والصولة والجولة والمكانة والمنزلة ، فصار حديث المجالس ومشغل الدول ، وكان حديث الركب حتى ضرب بعلمه وبذكائه المثل ، فالذين كانوا أئمة في عصره كالمزى والذهبي والبرزالي ، أو من أصحاب وطلابه كابن كثير ، أو من أقرانه كالسبكي والزماكاني ، وغيرهم كثير لم يكن لهم ذلك الاشتهار والانتشار مثل ما له ، بل كان بعض هؤلاء الأئمة الكبار إنما يشتهر لأنه صاحب ابن تيمية ، أو طلب العلم عليه ، أو رافقه ، أو رد عليه وعارضه .
الدين يسر ، ومن أعظم صفات الدين أنه سهل لا صعوبة فيه ولا تعقيد ، والله يقول : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ، وقد فهم ابن تيمية ذلك ، وفقه هذه المسالة أتم الفقه ، فكان – رحمه الله – يسيراً سهلاً في فتاويه ، وفي أحكامه الصادرة ، وفي مناقشاته ، يدرك اليسر في دلالة النصوص ، وفي مقاصد الشريعة ، فتجده إذا تكلم في أبواب المعتقد أتي بأيسر المسائل ،وبين لك أن الدين أتي لرفع الحرج ووضع الآصار والأغلال عن الأمة ، وتكلم عن مسائل العفو والتوبة والمسامحة والمغفرة والرحمة ، وإذا تكلم في الفروع أتى بالرأي الأيسر الذي يسعفه الدليل ، فكم من مسألة شاقة إنما جاءت مشقتها من أهل الفقه كالمسح على الخفين مثلاً ، أو القصر في السفر والفطر فيه ، أو غير ذلك من مسائل الطهارة ، أو الصوم، أو الصلاة أو الزكاة أو الحج أو غيرها من المعاملات، فيأتي هذا الإمام فبين أن هذه المشقة ليست في كلام الله عز وجل ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن الصحيح في هذه المسالة كذا وكذا ، فيكون قولة هو أسهل الأقوال في الباب ، مع العلم أنه لم يخرج عن الدليل وإنما كان الدليل معه – رحمه الله – فلابد أن تكتشف هذا الأمر في بحوث ابن تيمية ، وفي كتبه ، وأن تعلم أنك إذا قارنت كلامه بلام غيره من الفقهاء والأئمة والعلماء ظهر لك أن قوله – في الجملة – أيسر الأقوال وأسهلها والينهاا وأحسنها وأقربها للدليل .
نقصه بالدليل لكثير من المسائل المقررة
كم من مسألة قررت في كتب الفقه وبخاصة كتب المذاهب ، وجاء هذا الإمام وبين أن الحق في خلافها ؛ خذ مثلا المذهب الحنبلي الذي نشأ عليه ابن تيمية وأهل بيته ،كم من مسالة قررت درسها الناس ونشأ عليها طلبة العلم ، فلما جاء هذا الإمام بين أن الحق خلافها ، فالحنابلة – مثلاً – يبدؤون كتب الفقه بقولهم ك المياه ثلاثة أقسام ، فيخطئم ويقول المياه قسمان فقط : طاهر ونجس ، ويقولون – مثلاً – إذا اشتبهت ثبات طاهرة بنجسه صلى بعددها وزاد صلاة ، فيبين أن هذا خطأ ، بل عل المصلى أن يتحرى ولا يلزمه أن يصلي بعددها والمسح على الخفين اشترطوا فيه شروطا ليست في الكتاب ولافي السنة فيبين أن هذا من الآصار والأغلال ، واشترطوا مسافة محددة بالأميال بالسفر فيبين أن هذا ليس موجوداً في الكتاب ولا في السنة ، بل لا يسمى سفراً أيضاً ،وفي مسائل الحيض أتوا بمسائل شاقة على المرأة بين أن السنة خلاف ذلك بالدليل والبرهان ، وفي مسائل المعاملات والبيع والشراء والصرف والإجارة وغيرها ن=من الأواب بين ونقص كثيراً من المسائل بالدليل البرهان ، ولم يأته بقول أحد إلا بقول الله عز وجل وقول رسول صلى الله عليه وسلم ، فكان يعظم هذا النص ويحترمه ويوقره ويعمل بمقتضاه
هذا الإمام ملم بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه ، عارف بدقائقها ، مطلع على تفاصيلها ، قضية ، ومسالة مسالة ، والعجيب أنه إذا تكلم في الخلافة والملك وقضايا الصحابة والمغازي والسير والملاحم لا يوردها إيراداً فحسب ، بببل يقف وقفة مستبصرة متفقة عالم ويخرح لك كنوزاً وهو بكتب في هذه القضايا ،دون أن يسبق إلى هذه الكنوز التي يستخرجها ؛ أذكر على سبيل المثال انه ذكر حديثين عن الرسول r
الحديث الأول : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين .." الحديث
والحديث الثاني : " اقتدوا باللذين من بعدى أبي بكر وعمر ، وكلا الحديثين في السنن ، قال أما الأول فإنه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأربعة الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ؛ لأنهم على هداية في الجملة ؛ ولأنهم من أفضل الصحابة رضوان الله عليهم أو كما قال ، ثم خصص صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر في الحديث الثاني ؛ لأنه كمل زهد أبي بكر وعمر في الرئاسة والمال ، وأما عثمان فتأول في المال ، وأما علي فتأول في الدماء ، فخصص صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر بتمام اتباعهما وكمال رشدهما رضي الله عن الجميع .
وفي مسألة أخرى لما ولى أبو بكر خالد بن الوليد ، ثم لما تولى عمر الخلافة نزعة وعزله وولى أبا عبيده ، قال ابن تيمية في ذلك : إن أبا بكر رجل لبن رقيق يصلح له رجل قوي شديد وهو خالد بن الوليد ، وإن عمر قوي شديد يصلح له رجل لين رقيق وهو ابوعبيدة ، فبين أن من السياسة الشرعية أن يكون الخليفة والقائد على خلاف في بعض الصفات ، ليكمل أمر الأمة في اللين والقوة والشدة ، إلى غير ذلك من الأسرار التي ذكرها في كتبه – رحمه الله –
لماذا لم يفسر القرآن كاملاً ؟
طلب من ابن تيمية أن يفسر القرآن ، فرد بأن غالب القرآن واضح معلوم للقارئ ، وإنما هناك آيات تحتاج إلى شيء من البيان والتفسير ، وهذا الذي قاله صحيح ، مع العلم أنه ينسب إليه أن له تفسيراً كاملاً فالله أعلم بذلك ، لكن في الجملة لم ار له إلا تفسير بعض الآيات في القرآن، واشتغل – رحمه الله – بالتأليف والفتيا وتأصيل المعتقد والذب عن السنة والرد على الطوائف ، ولكن العجيب أنه إذا أتى إلى آية وأراد شرحها جاء بشيء لا يوجد – غالباً – في كتب التفسير ؛ من براعة الاستنباط وحسن الاستدلال وعميق الفهم ورسوخ الفقه ، وربما سأل قلمه فأكثر في الآية وأورد إيرادات واستشكل إشكالات وحلها وبين الصواب في ذلك ، وربما رد على كبار المفسرين وناقشهم من حيث الدلالة واللغة ، ومن حيث المقاصد الشرعية ، ومن أراد أن ينظر في ذلك فلينظر إلى الأجزاء التي جمعت له في باب التفسير ، مع العلم أنه نسب إليه أنه فسر ( إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه ) على المنبر في الأسبوع مرة واحدة يوم الجمعة فيما يقارب ثلاثين سنة ، فدخل في الرسالة والرسل ، وأتى بكلام عجاب ، كتب بعضه وبعضه لم يكتب .
لماذا لم يؤلف ابن تيمية
كتاباً جامعاً في الفقه ؟
لم يعلم عن ابن تيمية أنه ألف كتاباً جامعاً في الفقه من أول أبوابه إلى آخره ؛ لأنه كان مشغولاً بقضايا أهم ؛ فهو يرى أن كنت الفقه موجودة على المذهب ، وأنها مبسوطة ومختصرة ومتوفرة ، لكن الأهم من ذلك – كما يبين هو – مسائل الأصول في المعتقد ، ونصره السنة ، والرد على المخالفين من الكفرة والمبتدعة الضلال ، وكان هذا شغله الشاغل ، فلم يكرر نفسه أو يكرر المكتبة الإسلامية ، بل جاء بالجديد المؤصل النافع المفيد ، وأتى بشيء لم يكن موجوداً من قبله ، وسد على الأمة فراغاً كبيراً ، وبنى لها صرحاً من التأصيل العلمي والتأليف النافع المفيد . ولم يشرح ابن تيمية كتاباً – فيما أعلم – إلا ( العدة ) ، شرح منه جزءاً ، ولكنه لم يشرح كتاباً فقهياً كاملاً من أوله إلى آخره على حد علمي ؛ لأنه اشتغل بما هو أهم وأعظم كالدعوة ونشر العلم والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
التفاؤل والرجاء عند ابن تيمية
صدر ابن تيمية منشرح ، ونفسه قوية واثقة بربها سبحانه وتعالى ، وهو صاحب ثقة فيما عند الله عز وجل ، ومتفائل بالنصر دائماً والعاقبة الحسنة لأولياء الله ، وهو حسن الظن بربه ، وينظر بنظرة متفائلة للأمور ، وهو صاحب رجاء ؛ فإذا تكلم فيما أعد الله لأوليائه أسهب وأظنب ، وإذا تكلم عن أهل التوحيد بين ما لهم عند الله عز وجل من مصير مبارك ، وأذا تكلم عن التوبة رغبك في رحمة الله عز وجل ، وحبب إليك الإنابة ، وقربك من المغفرة ، وذلك على طريق العودة إلى الله عز وجل ، لا تقرأ في كلامه اليأس ، ولا تفهم منه القنوط ، ولا تجد فيه إحباطاً ، كما يفعل بعض غلاة الصوفية الذين يقتلون النفس بكثرة التأنيب وسياط التأديب ، ويكثرون من النقول في مسألة الخوف حتى يصاب الإنسان بالإحباط والقنوط واليأس من روح الله ، فيترك العمل ، لكنك كما قرأت لابن تيمية وجدت نشاطاً وانبساطاً وراحة وقوة على العبادة وعلى الذكر ، وزال عنك الهم والغم والحزن، وهذا أمر مجرب شهد به أصحابه وطلابه ، ومن شك في ذلك فليأخذ فترة من فترات الزمن ويبقى على اتصال بكتب هذا الإمام ، ثم لياخذ فترة أخرى ويقرأ لغيره ، ليجد البون الشاسع في هذه المسألة الكبرى .
الأدب – في العموم – قالب جميل وحسن يقدم فيه العالم علمه ، وابن تيمية صاحب عبارة أخاذة آسرة ساحرة في الجملة ، ولكنه لم يكن شاعراً بالمعنى الحقيقي ، ربما نظم القصائد والأبيات واستشهد لكبار الشعراء كالمتنبي وغيره ، ولكن بحد وباقتصاد ، وربما شرح البيت الذي يورده ، فيأتي بشاهد على كلمة في اللغة ، أو بدليل لرايه ، أو ينقل لكلام غيره من النظم ، إذا أراد ؛ فقد كتب قصيدة رد فيها على يهودي في أكثر من مائتي بيت في جلسة واحدة ، وكان يكتب المقطوعات التي فيها الدعوة إلى الله عز وجل ، وبيان مذهب الحق ، وربما استشهد بالبيت بالعيد في مسألة المحبة والخوف والرجاء ، وهذا من الاستشهاد الإشاري .
إذا أسهب ابن تيمية في الحديث أورد بعض الأمثال التي سارت في الناس ، أو أنشأها من نفسه هو ؛ مثلاً تحدث عن ( البطائحية ) في وجود أصحابه وطلابه – والبطائحية فرقة صوفية ضالة ، كان عندهم شيء من الإسلام ، فكانوا إذا ذهبوا إلى الكفار مت التتار ظهرت بعض الكرامات لهم ، فإذا ، فإذا جاؤوا إلى أهل السنة بطلت كراماتهم ! فقال شيخهم له : ما لنا إذا ذهبنا إلى الكفرة التتار ظهرت كراماتنا وإذا أتينا إليكم بطلت ؟ قال : مثلكم ومثلنا ومثل التتار كخيل دهم – يعني فيها شيء من البياض – إذا دخلت بين خيل سود ظهرت بيضاء ، و، إذا دخلت في خيل بيضاء ظهرت سوداً ، فأنتم دهم ؛ لأن عندكم شيئاً من الإسلام ، والتتار سود لما عندهم من الكفر ، ونحن بيض لما عندنا من نور السنة ، فإذا ذهبتم إلى التتار ظهر بياضكم الباقي عندكم فصرتم بيضاء ، وإذا أتيتم إلينا ظهر سوادكم لظهور السنة ووضوح الحق لدينا ، قال : فتعجب الأصحاب من مثلي ! وسمع صوفياً يقرأ ( فخر عليهم السقف من تحتهم ) ! فضربه وقال : لا عقل ولا قرن ! لأن العقل يدل عل أن السقف من فوق ، والقرآن فيه( فخر عليهم السقف من فوقهم) . وله أمثال في ذلك لا يتسع المقام لذكرها، مما يدلك على سعة دائرة الرجل ، وعلى فهمه وبراءته وذكائه ، واستخدام كافه الثقافات في تقوية ما يدعو إليه وما ينشره في الناس من علم .
كتب ابن تيمية بين العامة والخاصة
لابن تيمية كتب لا يفهمها إلا الجهابذة العباقرة كـ ( درء تعارض العقل والنقل ) ؛ فإن فيه من المسائل الشائكة ، وقوة الاستدلال ، وصعوبة العبارة ، ما يرد بها عل أهل الفلسفة وعلماء المنطق ، ونجده – وهو يرد على هؤلاء – يوغل ويسهب ويتعمق في مسائل لا يدركها العلماء العاديون أو صغار طلبة العلم، فضلاً عن العامة ، فهذه ميزة ابن تيمية ؛ يوجه الخطاب للناس على كافة المستويات ، فله كتب يخاطب بها خواص الناس ،وله كتب ميسرة سهلة ككتاب ( الواسطية ) أو منهاج السنة أو ( اقتصاد الصراط المستقيم ) أو ( الصارم المسلول على شاتم الرسول ) صلى الله عليه وسلم ،وغير ذلك ، فميزته أنه لكل الطوائف ؛ فمن أراد الإيغال والعمق والدقة فله كتب ، ومن أراد السهولة والشرح والبسط فله كتب ، وغالب رسائله وفتا ويه في ( الفتاوى ) تفهم من العامة إذا قرئت عليهم من أول وهلة ؛ لأنه يوضحها ويسهلها ويجلبها ويقربها ، بخلاف غيره من العلماء ، فإن بعضهم إذا ذهب وراء التخصص الدقيق كعلم المنطق أو الفلسفة أو أصول الفقه أغلق العبارة ، وتكلم إلى طائفة خاصة ، ثم لا يستطيع أن يخاطب العامة ، وبعضهم إذا تكلم للعامة بسط العبارة وشرحها ، ولكنه لايرتقي أسلوبه ليخاطب به خاصة أهل العلم والندرة الذكية منهم .
تابع