حرب إسرائيلية بقفازات أمريكية!
الكاتب الدكتور سفر عبدالرحمن الحوالي
تتساءل الأمة -جماعات وأفراداً ليلاً ونهاراً- تساؤلات كثيرة، وكلما اقتربت نذر انفجار الحرب كثرت التساؤلات وتضاعفت.
ويمكننا أن نجملها ونحددها في أمرين:
- ما حقيقة ما يجري ؟
- وما واجبنا نحـوه ؟
وعلى هذين يدور محور حديثنا في هذا المقال، ولنبدأ أولا بتحديد السبب الحقيقي المباشر في حملة أهل الكتاب (أو التتار الجدد) على العراق، ومن ثم على المنطقة كلها!.
بدون إطالة نقول إن هناك تعليلات تحوم حول الحقيقة، لكنها لا تطابقها بشكل مباشر، أما الحقيقة التي بلغت لدينا مرتبة اليقين فهي أن الهدف الثابت المباشر- الذي لا يتغير والذي يفسر كل المواقف والمشروعات- هو المحافظة على أمن الدولة اليهودية، ورفاهيتها، وتفوقها في القوة على كل دول المنطقة.
ولا يمكن أن تجد طريقا لتفسير التقلب -وربما التناقض- في السياسة الأمريكية (والأوربية أيضا) تجاه العالم الإسلامي، إلا بأن تربط ذلك بوضع إسرائيل وبأهدافها المرحلية، ثم تأتي الأهداف الأخرى تبعاً أو ضمناً، وهي تتغير في حقيقتها وفي مسائلها بحسب هذا الهدف الثابت، وبذلك أيضاً يمكن أن تفسر التباين في منهج السياسة الأمريكية بين تعاملها مع العالم الإسلامي وتعاملها مع غيره.
إذاً القاعدة في هذا:هي أنه حيثما تكون إسرائيل تكون أمريكا، بغض النظر عن المصالح المادية وغيرها، وكلما كان الوضع في إسرائيل مريحا -بالتفوق العسكري والتقدم الاقتصادي والاستقرار السياسي- كان منهج السياسة الأمريكية مع العرب أقرب إلى المنطق والنفعية، والاهتمام بالمصالح القومية للأمريكان، وفتور الحملات الإعلامية على العرب والعكس بالعكس!.
إن عرضاً تاريخياً موجزاً لمراحل الصراع يكشف لنا معالم واضحة لهذه القاعدة :-
1 - ما بين حرب (حزيران) وحرب رمضان كانت أمريكا أقرب إلى العقل والمنطق، نقول أقرب لأن ذلك لم يكن منهجها الثابت أبداً، ثم أثناء حرب رمضان حين اضطرب الوجدان الإسرائيلي -وتبعا لذلك اضطرب التفكير الأمريكي- كان الجسر الجوي والضغط الشديد على الدول العربية والحملة الإعلامية الكثيفة ضدهم.
2 - بعد اتفاقيات (كامب ديفيد) عاد لها شيء من العقل، وشرعت في تقوية علاقاتها بالعرب، حتى وظفتهم في حربها على السوفيت في أفغانستان باعتراف مهندس العملية (بريجنسكي)، وكذلك في حربها على الثورة الإيرانية!!.
3 - بعد مقتل السادات – الذي يعني رفض الشعوب للاتفاقية – ظهر مشروع تفتيت المنطقة إلى دويلات، وهو مشروع غير منطقي بالنظر للأهداف الأمريكية، لكنها أيدته ضمانا لتفوق إسرائيل، كما أيدتها في أعمال منافية للشرعية، مثل احتلال لبنان وضرب المفاعل العراقي.
4 - عندما تفجرت الانتفاضة الأولى – انتفاضة الحجر – وازدادت المقاومة في جنوب لبنان، وبدأت دول النفط العربية تحقق تقدما اقتصادياً، قررت أمريكا الدخول المباشر في المنطقة لغرض الهيمنة اليهودية، وجاء احتلال الكويت ليهيَّأ لها تدمير العراق كله، ثم أعلنت النظام العالمي الجديد، وعقدت مؤتمر مدريد، وأيدت اتفاقية أوسلو، كل ذلك لتهيئة النجاح لمشروع (الشرق أوسطية) الصهيوني، وعندما بدأ المشروع يؤتي بعض ثماره في المؤتمرات الاقتصادية والعلاقات الدبلوماسية، واقتنع العرب بالتفوق المطلق لعدوهم، ورضخوا للمشروع، بدأت أمريكا تتعامل معهم بمنهج عقلاني نفعي، وشرعت في إدراج المنطقة ضمن المجال الحيوي للأمركة، المسمى (العولمة)، واختفى مشروع تفتيت دول المنطقة، ليحل محلَّه مشروع الولايات المتحدة الشرق أوسطية.
وقد عكَّر ذلك العمليات الاستشهادية سنة 1417هـ1996م، لكن أمريكا هرعت لنجدة العدو، وبادرت بعقد مؤتمر (شرم الشيخ)، وحشدت فيه ثلاثين دولة، وأوقفتها صفاً واحداً لتأييد إسرائيل في الحرب على الإرهاب -كما يدعون-!.
و حدث بعد ذلك فترة من الهدوء النسبي في المنطقة، بلغت فيها الدولة الصهيونية أوج قوتها وأمنها ورفاهيتها، كما عاشت العلاقات الأمريكية العربية عرسها التاريخي، وشرعت الشركات الأمريكية العملاقة في مسيرة العولمة، واستجابت الدول العربية لذلك بإعلان الخصخصة وفتح الأبواب للاستثمار الأجنبي !.
5 - وعندما حدثت الانتفاضة الأخيرة فجأة، وظهرت آثارها الواضحة على أمن إسرائيل ورفاهيتها وتفوقها، تخلت أمريكا عن عقلانيتها، وتجاهلت كل مصالحها، وأجَّلت مشروع العولمة، وبدأت تخطط للدخول المباشر في المعركة إلى جانب ربيبتها المدللة، واستغلت الهجمات عليها في أيلول(سبتمبر)؛ لإعلان الحرب الصليبية على الإسلام باسم الإرهاب، ثم حولت الحملة الصليبية عن هدفها الأول المعلن وهو القضاء على الإرهاب في مناطق كثيرة من العالم، إلى القضاء على محور الشر الثلاثي والعراق تحديداً.
وهكذا أعادت إلى الأذهان مشروعاً أوشك على الخروج من بنود الاستراتيجية الأمريكية في فترة الهدوء، حينما انفتحت أكثر الدول على العراق حتى أقربها إلى أمريكا، وحظيت الشركات الأمريكية بعقود ووعود هائلة للإعمار و التنقيب فيه، وانقطع وجود المفتشين الدوليين فيه، وخفت الحديث -حتى كاد ينقطع- عن أسلحة العراق وعن خطر العراق على جيرانه! .
6 - عندما أخفق شارون في القضاء على الانتفاضة، وأخفق عرفات والعرب في إيقافها، وارتفعت وتيرة القلق في إسرائيل، أصبح الحديث عن تدخل أمريكا المباشر علنياً، ولم يعد شارون وغيره يخفون إلحاحهم على أمريكا بضرب العراق، وبدون تردد يجب أن نعلم أن وراء ذلك مشروعاً صهيونياً يراد تنفيذه في غمرة انشغال المنطقة بالشأن العراقي أو بعده مباشرة.
هذا المشروع قد يكون التهجير الجبري إلى الوطن البديل، وقد يكون عملية إبادة فظيعة (قيل إنها قد تقع في نابلس أو غزة) و قد يكون المشروع متجها إلى عرب الداخل، وهو على أي حال مرتبط بالخريطة الجديدة التي يراد رسمها بعد احتلال العراق، وتشمل الجوانب السياسية والسكانية والاقتصادية وغيرها لكل المنطقة!!.
والمقصود أن هذا هو جوهر الصراع، ولب المشكلة الذي يجب أن يكون واضحا لدينا. وتحديد ذلك و دوام العلم به يقودنا - تلقائيا - إلى تحديد الواجب علينا وهذا هو الأهم.
وهكذا لا ينبغي الآن إضاعة الوقت في الخوض في الاحتمالات، مثل: هل سيكون مشروع التقسيم أو لا ؟ وهل يريدون النفط وسيلة أو غاية في إعادة تركيب بنية المنطقة ؟ فكل هذا يتضح من خلال طبيعة العدوان على العراق وطبيعة المقاومة له، والمهم هو أن كل الاحتمالات ممكنة، والذي يحدد في النهاية هو وضع إسرائيل ورغبة إسرائيل، وماذا سوف تستقر عليه الأمور في إسرائيل.
أما أمريكا في ذاتها فلا يوجد لها أي مشكلة في المنطقة، نعم لا يوجد لها أي مشكلة في المنطقة. لا شيء من مصالحها يتعرض للأذى من قبل الحكومات العربية، ولا شيء من مطالبها يقابل بالرد، ولا مشكلة بينها وبين أي دولة من دول المنطقة، لو كان الأمر يتعلق بها وحدها، بل إن المشكلات الكبرى والعواقب الوخيمة على مصالحها وعلاقاتها إنما تأتي أو تكبر بعد تدخلها وعدوانها على المنطقة، بل الملاحظ أن أي مشكلة لأمريكا مع الاتحاد الأوربي، أو روسيا، أو الصين، يمكن التفاهم فيها بالدبلوماسية الهادئة، إلا إذا كان الأمر له علاقة بإسرائيل، مثل قضية هجرة اليهود إليها، أو بيع السلاح لها، فهنا تختفي لغة الحوار، ويظهر التشدد الأمريكي لتحقيق ما تريده إسرائيل من هذه الدول.
لقد قرأنا للمرشح الديمقراطي السابق للرئاسة الأمريكية (لاروش) قوله بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر): "إن هناك أشخاصاً يملكون سلطة هائلة، يقفون وراء الكواليس في حكومات مختلفة في بريطانيا وأمريكا وإسرائيل، وهؤلاء مصممون على أن تنقل الولايات المتحدة الصراع الحالي -بين إسرائيل وجيرانها- إلى مستوى أعلى تدخل الولايات المتحدة فيه في حرب (جيوبوليتيكية) في الشرق الأوسط ".
ونحن الآن لا نستدل بهذا الكلام، بل نستدل عليه بالأحداث التالية والحقائق الماثلة، تلك الحقائق التي جعلت الرأي العام العالمي يقف في جهة، والإدارة الصهيونية في واشنطن تقف في الجهة الأخرى، وليس معها سوى الدولة (المجذومة) إسرائيل والتابع المطيع (بلير). (هذا الوصف لإسرائيل ليس من عندي بل هو لكاتب إسرائيلي بارز سيرد بنصه).
وقبله قرأنا كتاب (يد الله، لماذا تضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل) للكاتبة الأمريكية (غريس هالسل) مؤلفة كتاب (النبوءة والسياسة) وفيه تنقل الكاتبة عن أحد موظفي الخارجية الأمريكية سابقا، ورئيس تحرير (تقرير واشنطن عن شؤون الشرق الأوسط) سنة 1995 قوله: "إن ما قدمته أمريكا لإسرائيل حتى تلك السنة أكثر من 83 مليار دولار، أي ما يعادل أكثر من 14000 دولار سنويا لكل إسرائيلي".
والسؤال هو لماذا تضحي أمريكا بهذه المليارات؟ وفي أي شيء تنفقها إسرائيل؟!
والجواب -بلا ريب- أن هناك ماهو أعظم من العلاقة المصلحية والتعامل النفعي، وذلك هو النوع الخاص من العلاقة الذي عبّر عن الإيمان به سبعة رؤساء أمريكيين في جملة واحدة دينية: "من يبارك إسرائيل يباركه الله ومن يلعن إسرائيل يلعنه الله" ثم جاء ثامنهم (...) ليعلنها حربا صليبية!.
والشواهد هنا لا تُحصر، والمقصود أنه إذا اتضحت حقيقة العلاقة الدينية الحميمة بين أمريكا وإسرائيل، واتضحت كذلك العلاقة العميقة بين المشروعين الصهيوني والصليبي، وبلوغها درجة التطابق، فلننطلق بناءً على ذلك إلى تقييم الانتفاضة ووضعها في مكانها اللائق بها، في المعركة الطويلة المستمرة بين دين التوحيد وكفر أهل الكتاب.
هذا وأسأل الله -تعالى- أن يتقبل منا ومنكم أعمالنا وأقوالنا، وأن يقرّ أعيننا بنصرة ديننا، وأن يكفّ بأس الذين كفروا، والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.