الفكر الاسلامي في مواجهة التحديات السياسية
(دراسة في التجربة)
حسين الشامي
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامُع وبيعُ وصلواتٌ ومساجدُ يذكُر فيها اسمُ الله كثيرا، ولينصرنّ اللهُ من ينصرُهُ إن الله لقويٌ عزيز (سورة الحج40)
يمتاز الفكر الاسلامي بحركية واسعة وشمولية مستوعبة بحيث تمكنه من التأثير على ساحة الاحداث بقوة، فهو ليس فكراً تجريدياً يعيش عالم التنظير ويتحجم في حدود خاصة، انما هو ينطلق في آفاق الحياة ويدخل في كافة شؤون المجتمع والدولة، فيحدد موقفه من كل قضية ويقدم الحل البديل لكل مشكلة وطرح. وهذا هو العامل الكبير الذي جعله حياً متجدداً مع تطور الحياة في مساراتها التاريخية الطويلة.
إننا لا يمكن ان نتصور ان الفكر الاسلامي يمكن محاصرته في نطاق محدود أو فرض حواجز تحول دون إنتشاره وتقدمه، لان الفكر بصورة عامة حالة غير قابلة للحصار والتقييد. ولان الفكر الاسلامي بصورة خاصة يمتلك المؤهلات الكافية للوقوف بوجه التحديات، والصمود امام الهجمات المضادة، وهو فوق ذلك يمتلك القدرة الكاملة
____________________________________
1- حرب الخليج اوهام القوة والنصر / محمد حسنين هيكل.
على تحقيق الانتصار فيما لو أحسن القائمون عليه توظيفه بالطريقة المناسبة للظرف الاجتماعي والسياسي.
وعندما نستقرىء التجربة الاسلامية منذ عهد الرسول الاعظم<img src='style_images/1/p1.gif'> وطوال القرون التي تلت وفاته، نلاحظ بما لا يقبل الشك والارتياب.
ان الفكر الاسلامي كان الواجهة الاكبر والعامل الاساس في قوّة الاندفاع الاسلامي وانتصاره، واتساع رقعته، وتأثيره على حركة الزمن بحيث جعلها تتخذ قيما ايجابية معطاءة.
فمن خلال الفكر، والايمان بالعقيدة استطاعت الدعوة الإسلامية ان تفرض نفسها على الواقع الاجتماعي في مكة، في الوقت الذي كانت فيه المقدرات السياسية والاقتصادية بيد المشركين. لكن ادوات القمع لم تستطع ان تُنهي دور العقيدة الإسلامية.
كانت الآيات القرآنية ومعطياتها الفكرية والروحية تتثبت في القلوب والعقول وتنفذ إلى قلوب وعقول الآخرين، دون ان تتمكن السلاسل والقيود والحجارة والنار ان تمنع حركة الفكر وتيار العقيدة الجارف الصامد من التجذر والامتداد.
ولقد حاول المشركون ان يجعلوا المواجهة بينهم وبين الإسلام تتخذ طابعاً مسلحاً داخل مكة. وربما استفز ذلك بعض المسلمين، لكن الله سبحانه امرهم ان يحبسوا ايديهم عن السلاح كما يدل عليه قوله تعالى (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفّوا ايديكم واقيموا الصلاة واتوا الزكاة) (سورة النساء77).
فلم تكن الظروف آنذاك تسمح بالمواجهة المسلحة لوجود الفارق الكبير بين القدرات المادية للطرفين، والتي تجعل الكفة لصالح قريش، فتحقق بلا شك نصرها على المسلمين.
ان المواجهة العسكرية كانت في مصلحة قريش، وكانت المواجهة الفكرية في صالح المسلمين، وذلك شدد الرسول<img src='style_images/1/p1.gif'> على جماعته ان يمتنعوا عن الرد بالمثل، لان عوامل السياسة لا تسمح بهذه الاجراءات، بنيما هي تتطلب الاعتماد على الفكر والاسلوب الدعوتي العقائدي الذي ينسجم مع حقائق الزمن ومتغيراته الاجتماعية والسياسية.
وقد دفعت تلك المنهجية الفكرية الدعوة الإسلامية خطوات واسعة إلى الامام، وجعلت قريشاً تفقد ازمة الفعل السياسي المؤثر في ساحتها وعلى ارضها، فهي لم تواجه الإسلام بنفس الادوات والوسائل التي يعتمدها، انما اعتمدت ادوات ووسائل تصلح لمعارك من نوع آخر، لكنها لا يمكنها ان تكون حاسمة في مواجهة العقيدة والفكر. فكان ان صمد الإسلام كعقيدة ربانية راسخة وتحول إلى دولة قوية ممتدة، فيما خسرت قريش بعد ذلك الموقع السياسي وذابت في تيار الإسلام العظيم.
ان الذي يمكن ان نستفيده من تجربة الرسول «ص» ان الفكر كحالة عقائدية لا يكفي فيه ان يكون قائماً على الارض حتى يحقق النصر، ويصمد امام التحديات السياسية، بل لابد من بلوغ المستوى المطلوب من الثبات والارتكاز في النفوس حتى يمكنه ان يقف في مواجهة التحديات ويخوض الصراعات السياسية دون ان يتهدده خطر الانحراف أو الانحسار أو الضياع. وهذا ما نستوحيه من تجربة الخلافة التي ظهرت بعيد وفاة الرسول «ص»، ثم تحولت إلى مشكلة دائمة في حياة الاُمّة الإسلامية، حيث ظهرت اول ازمة سياسية خطيرة في حياة الدولة والمجتمع الاسلامي في مسألة من يخلف الرسول «ص» في قيادة الاُمّة وتولي امامة المسلمين.
وكان لغياب الفهم العقائدي دوره في حسم مسألة الخلافة بالشكل الذي حدث في سقيفة بني ساعدة، حتى آلت الخلافة فيما بعد إلى سلطة سياسية في ادارة الدولة، وصار الاسلوب السياسي هو الذي يقرر ويحسم من الذي يحكم المسلمين ويلي امورهم، لقد كانت الاُمّة الإسلامية آنذاك بحاجة إلى نضج فكري ورؤية عقائدية واضحة حتى يمكنها ان تتغلب على الحسابات السياسية الناشئة من موروث قبلي وجاهلي مستحكم في نفوس الكثير من المسلمين. وهذا ما كان يحسه ويدركه الرسول الاعظم «ص» فقد كان «ص» يؤجل الاعلان الحاسم لحكم ولاية الامام علي «ع» لما يتوقعه من ردة فعل قد يقودها البعض ضده فيما لو اعلن الحكم الالهي الصريح بتعيين الامام علي «ع» ولياً للمؤمنين. حيث كان من المتوقع ان ينقلب اولئك على الرسالة ويتهمونه بأنه يريد حصر القيادة بأهل بيته، وربما يتمادوا في معارضتهم السياسية فيطعنوا بالنبوة، ويصورونها بأنها سلعة سياسية وزعامة عاطفية، ولم يبلّغ الرسول «ص» هذا الحكم الخطير حتى انزل الله تعالى قوله: (يا أيّها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربّك وان لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس).
ومن هنا نكتشف ان القاعدة الفكرية لابد ان تصل إلى مستوى مستقر من النضج والوضوح والثبات حتى يمكنها ان تنهض بالمشروع السياسي وان تواجه طوارىء الزمن ومتغيرات السياسة التي تثار في حياة الناس الاجتماعية والثقافية والسياسية.
تجربة الدولة والثورة
خلال الفترة التي أعقبت وفاة الرسول «ص» نجد ان الامام علياً «ع» يعلن بصراحة وضوح انّه يجمد مطالبته بحقه الشرعي في الخلافة من أجل حفظ المسيرة الإسلامية، فهو ينسحب من ميدان المواجهة السياسية لانه «ع» يدرك ان الدخول في الصراع السياسي سيجر الاُمّة إلى خطر هائل يتمثل في ضياع مكاسب الإسلام العظيمة لذلك آثر مصلحة الإسلام والاُمّة على المطالبة بحقه الشرعي في الخلافة، فقال كلمته الرائعة «والله لاُسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه.
فالامة بحاجة إلى رصيد فكري ووعي عقائدي يضاف اليها حتى تستطيع ان تصمد بوجه التحديات السياسية.
وبعد ان جاءت إليه الخلافة، تميزت سياسته عليه السلام بالاهتمام بالاوضاع الداخلية، حيث اوقف حركة الفتوحات فلم تخض الجيوش اي معركة خارج حدود دار الإسلام، وانما اتجه علي «ع» إلى اعادة بناء الدولة داخلياً على اساس اسلامي صحيح، انّه عليه السلام يريد ان يعطي لحركة التاريخ مسارها الايجابي الصحيح الذي كانت على عهد الرسول «ص»، وقد عرضته الاصلاحات الداخلية إلى مواجهة ازمات متلاحقة «الجمل وصفين والنهروان» وقد اقترح عليه بعض ان يعطل اصلاحاته فلا يعزل معاوية مثلاً عن الشام. لكنه رفض تلك الاقتراحات لانها تتعارض مع مبادئه الإسلامية فهو عليه السلام يريد ان يركّز العقيدة ومبادىء الفكر الاسلامي على اسس قويمة وان يجعلها هي الاساس الذي تسير عليه سياسة الدولة، لا ان يجعل السياسة هدفاً، فيعطل دور العقيدة والفكر في بناء المجتمع والدولة، ولو فعل ذلك، وحاشا له ان يفعل فانه، سيساهم في تدهور القيم الفكرية الاصيلة ويفسح المجال لتفشي الفساد الاداري والسياسي ومظاهر الانحراف في حياة الاُمّة. لقد ظل الامام علي «ع» ثابتاً على مبادئه مُصراً على منهاجه، ارسى القواعد المتينة والمرتكزات الاساسية للحكم الاسلامي بعد الرسول «ص» حتى استشهد عليه السلام في المحراب قائماً لله وحده.
وبعد ذلك نجد الامام الحسين «ع» يقدم صورة للعمل الثوري القائم على اساس الموقف الشرعي والرؤية الفكرية فهو يحدد للثورة اساساً عقائدياً اصيلاً ويضعها في خط الفكر المتجرد عن حسابات المصالح السياسية المحدودة فلقد ركّز عليه السلام على التعبئة العقائدية، فكانت ثورته ثورة في النفوس والعقول وهزّة في الضمائر، وبذلك حقق اكبر مكسب فكري من خلال الثورة، حيث انتصرت في المواجهة العسكرية قيمه الإسلامية على آلة الحرب، وحفظت عطاءاته الخالدة مسيرة الإسلام التاريخية من التراجع أو الضياع.
الفكر والسياسية في حركة الاُمّة
عندما ندرس الادوار التي نهض بها ائمة اهل البيت عليهم السلام في الحياة الإسلامية، نلاحظ انهم اعطوا اولية متقدمة لرفع المستوى العقائدي والبناء الفكري للامة، والذي تعرض للتراجع والتصدع نتيجة الاضطرابات السياسية التي حدثت داخل الكيان الاسلامي، حيث كان من ابرز مظاهرها ظهور المدارس الكلامية والفلسفية، والحركات الفكرية المنحرفة والاتجاهات السياسية المختلفة. كل ذلك كان يعرض القاعدة الفكرية للامة الإسلامية إلى التصدع والتزلزل كما ان السلطة الحاكمة كانت تسعى لتسخير الفكر والفقه الاسلامي لصالحها، حتى ظهرت طبقة الوضاعين للحديث والرواية، وطبقة العلماء الذين يفرضون اراء وتأويلات منحرفة عن الاصول الإسلامية لارضاء الجهاز السياسي.
في ضوء تلك الاجواء والصراعات الفكرية والسياسية المعقدة اتخذ ائمة اهل البيت عليهم السلام موقفاً صارماً ازاء الاحداث، حيث اكدوا على ضرورة اعادة الاُمّة إلى اصالتها الإسلامية وقاعدتها الفكرية الراسخة واعداد اجيال من العلماء الواعين المتبحرين في علوم الشريعة والعقائد والافكار والمفاهيم الإسلامية.
وهذا ما تميز بوضوح خلال حياة الامام جعفر بن محمد الصادق «ع» ورغم ظهور الكثير من الحركات السياسية والثورية المضادة للحكمين الاموي والعباسي، إلاّ ان ائمة اهل البيت «ع» اتخذوا منها موقف التحفظ، بل انهم عليهم السلام حاولوا في بعض الحالات ثني القائمين على الثورة عن تنفيذ مشروعهم السياسي الثوري.
ان دراسة تلك الفترة والتأمل العميق في فهم مواقف ائمة اهل البيت «ع» يعطينا نتيجة محدودة في هذا الخصوص، وهي ان الائمة لم يكن غرضهم اسقاط سلطة والمجيء بسلطة اخرى، انما كان هدفهم رفع المستوى الفكري والروحي للامة بحيث تكون منسجمة في سلوكها الاجتماعي مع فكرها الاسلامي ومع الاصول العقائدية لرسالتها، وبذلك يقف المجتمع الاسلامي على ارض صلبة من الفكر والثقافة، والسلوك وهذا لو يتحقق فان المشروع السياسي سيكون بطبيعة الحال ناضجاً مستقراً ثابتاً لا يتأثر بالمتغيرات السياسية فينحرف عن نهجه ويتزلزل في مواقفه ويضطرب في مساراته.
وعلى هذا الاساس نستطيع ان نفهم ضرورة التوافر على قاعدة فكرية ثابتة ومتينة عند محاولة الانطلاق في العمل السياسي، باعتبار ان العمل السياسي مالم يستند على الرؤية الواضحة والقوة الفكرية، فانه يكون معرضاً للارتباك والانحراف. وقد يؤدي إلى غير الهدف المرسوم، ويفرز عوارض سلبية تحمل من الخسائر اكبر من المكاسب.
تجربة الاُمّة الفكرية في مواجهة العامل السياسي
استطاع الإسلام ان ينتشر على رقعة واسعة من العالم، وكان من الممكن ان يستمر في توسعه وانتشاره. لو ان حركة الفتوحات كانت تسندها اجواء مستقرة داخل الكيان الاسلامي، غير ان الدولة الاسلامية كانت تعاني من مشاكل داخلية كثيرة وتعيش حالة الصراعات السياسية التي صارت السمة البارزة لعلاقات الحكام في الاقاليم والولايات الإسلامية بمركز الدولة. فظهرت الدول والممالك والامارات، وتحولت الادارة المركزية في بغداد إلى سلطة رمزية خاضعة لاشراف البويهيين والسلاجقة والاتراك، مما جعل العامل السياسي يفرض وجوده على العامل الفكري، فلم تكن الدولة في حقيقتها تضطلع بمهمة فكرية رسالية كبرى انما تنشغل بالعامل السياسي المتمثل بالتنافس والتصارع المستمر، حتى حدثت الانتكاسة الكبرى اواسط القرن السابع الهجري بخضوع الدولة الإسلامية إلى سلطة كافرة هي سلطة المغول التي دمرت الكثير من معالم الفكر والحضارة الإسلامية، وكانت انتكاسة هائلة في التاريخ الاسلامي وفي حياة المسلمين، واخذت حركة الزمن تتجه بصورة معاكسة لما كانت عليه سابقاً ولو ان الحياة الفكرية الإسلامية لم تستند على خلفية قوية وتراث متماسك، لانهارت قلاع الفكر مثلما انهارت قلاع السياسة.
غير ان الفكر الاسلامي استطاع في تلك المرحلة، ان يحافظ على مواقفه، بل استطاع ان يعوض الانهيار السياسي، بالتقدم الفكري والثقافي، فكانت تلك الفترة المظلمة سياسياً، مشرقة فكرياً، حيث صدر نتاج فكري وعلمي ضخم من قبل العلماء والمفكرين المسلمين. وهي ظاهرة تستحق الدراسة والبحث. باعتبار ان قساوة الصدمة وشراسة الغازي المحتل كان من الممكن ان تؤدي إلى شلل عام في مفاصل الحياة الإسلامية بما فيها الفكر، إلاّ ان ذلك لم يحدث بل انطلق وربما بصورة افضل من السابق.
وكان الانجاز الاكثر اهمية، هو تحول المحتل المنتصر إلى العقيدة الإسلامية واعلان الإسلام ديناً رسمياً في اجهزة السلطة المغولية، وهكذا حقق الإسلام نصراً حضارياً، رغم كون المسلمين خسروا المعركة خسارة فادحة مدمرة.
ربما كانت هذه التجربة نادرة في التاريخ البشري، باعتبار ان المحتل يعمد إلى فرض معتقداته على البلاد المدحورة ويسلب شعوبها ارادتهم الفكرية اما ان يترك المحتل عقيدته إلى عقيدة الشعب المقهور عسكرياً فهذا امر استثنائي فيه دلالة واضحة على قوّة التأثير الاسلامي في مجال الفكر والعقيدة.
ان هذا التحول العقائدي كان في حقيقته انهاء حالة الاحتلال لان السلطة المحتلة ذابت عقائدياً في البلاد التي احتلتها، واصبحت من الناحية الفكرية العقائدية جزء من الاُمّة الإسلامية الكبرى. وربما كانت هذه المسألة هي واحدة من الاسباب النفسية والتاريخية في عدم ظهور نزعة التحرر من المغول واعلان التمرد عليهم.
ان الاحداث التي عاشها العالم الاسلامي في تلك الفترة كانت تسير في السياقات العامة السائدة آنذاك، والمتمثلة في قلق سياسي عام، حيث ظهرت الصراعات السياسية على مراكز السلطة، تطبع الحياة الإسلامية. حتى ظهرت الدولة العثمانية التي كان لها دور هام في توحيد الكثير من الاقاليم الإسلامية تحت سلطتها المركزية، وفي اعادة حركة الفتوحات الإسلامية باتجاه اوروبا. وكان لتلك التجربة دورها في اعطاء العامل السياسي بعداً فكرياً وعقائدياً، حيث كانت السياسة الخارجية الإسلامية تتحدد في ضوء المحتوى الفكري للدولة.
لكن هذا التقدم لم يستمر طويلاً اذ سرعان ان دخل العامل المذهبي في تحديد الاتجاه السياسي للدولة، وذلك من خلال الصراع العثماني ـ الصفوي الذي استمر طويلاً، مستنزفاً قوى الدولتين، وكان المحرك الكبير له هو الاختلاف الفكري بين الدولتين في المجال المذهبي والطائفي.
وكانت النتيجة ان توقفت الفتوحات الإسلامية، وضعفت القوى. اي ان العامل الفكري لم يكن عند الطرفين من النضج بحيث يسيطر على العامل السياسي ويستوعب تعقيداته. وهذا ما يجعلنا نتذكر ما قررناه سابقاً بأهمية التوافر على قاعدة فكرية متماسكة وصلبة حتى لا يحدث الاضطراب والتخلخل عند ممارسة النشاط السياسي.
التجربة المعاصرة
مع تزايد الضعف في البلاد الإسلامية، وهو ضعف شامل سيطر على الفكر والسياسة والاقتصاد. اصبحت البلاد الإسلامية موضع طمع القوى الغربية وصراعاتها السياسية. حيث اتفقت ضمناً فيما بينها ان احتلال اقليم اسلامي من قبل احدى الدول الاستعمارية، لابد ان يتبعه احتلال آخر لاقليم ثان من قبل دولة استعمارية اخرى وهكذا حتى لا تختل معادلة التوازن السياسي فيما بينها.
وبذلك اصبح العالم الاسلامي جزء من الموازنات الدولية الاستعمارية واتفق الغرب على انهاء الدولة العثمانية باعتبارها تمثل رمز الوجود الاسلامي، فكانت الحملة شرسة ظالمة ضد البلاد الإسلامية.
لقد استفادت الدول الاستعمارية من التجارب التاريخية، لذلك عمدت غزو العالم الاسلامي إلى اعتماد منهجية شاملة تتحرك على المجالات الثقافية والسياسية والعسكرية. فهي لم تسع إلى الاحتلال العسكري أو السيطرة السياسية فحسب، انما ارادت إلى جانب هذا وذاك، استفراغ المحتوى الاسلامي الفكري والمعنوي من البلاد الإسلامية، وتعزيز السيطرة السياسية، بغزو ثقافي مكثف، بحيث تنسلخ الاُمّة عن هويتها الفكرية وتتخلى عن انتمائها الاصيل للاسلام، وبذلك تتخلص الدول الغربية من مصدر التحريك والوعي الكامن في النفوس.
لقد كانت الهجمة الفكرية والثقافية هي الاخطر التي تعرضت لها بلدان العالم الاسلامي، حيث استطاعت الدوائر الاستعمارية ان تفرض فكرها وثقافتها على اجيال الاُمّة وفق اساليب منهجية مدروسة، ونجحت في ذلك إلى حد كبير، بحيث ان روح التحرر التي كانت تظهر في الاقاليم الإسلامية، كانت لا تخرج عن دائرة الافكار الغربية. فقد استطاع الغرب ان يستبدل الشعور الاسلامي العام بالمشاعر الوطنية والقومية والعرقية المحدودة.
ونتيجة لذلك اصبحت الثقافة السائدة في المجتمعات الإسلامية ثقافة اجنبية، وظهر الكثير من المثقفين والكتاب والمفكرين الذين يدافعون عن الغرب ويدعون إلى نبذ الافكار والمناهج الإسلامية، والتمسك بالتيار الغربي، ولاقت تلك الدعوات رواجاً كبيراً بفضل الدعم والتوجيه من الحكومات الاقليمية. حتى عاد الإسلام غريباً بين اهله.
لقد كانت هذه الهجمة جزء من برنامج فكري وسياسي طويل تريد الدول الاستعمارية فرضه على بلاد المسلمين، انطلاقاً من حقيقة تؤمن بها، مفادها ان السيطرة السياسية لايمكن ان تكون مستقرة وطويلة الامد مالم يرافقها غياب الفكر الاسلامي الاصيل عن الساحة. ورغم ان هذه الفترة ومنذ منتصف القرن الحالي تميزت في ظهور حركات فكرية اسلامية واسعة، شخصت واقع المسلمين بدقة، فمارست نشاطاتها لمواجهة الانحراف الفكري في المجتمعات الإسلامية بقوة وحققت في الازمنة الاخيرة انجازات ضخمة، رغم ذلك كله إلاّ ان اثار الغزو الثقافي لم تنته بعد، وهذا ما يستدعي مواصلة البناء الفكري والتثقيف العقائدي الواعي لابناء الاُمّة ورصد المتغيرات الثقافية والسياسية بدقة، من اجل الاحاطة بالمخططات المضادة، وتقديم البدائل لأبناء الاُمّة حتى لا تمر عليهم محاولات التضليل والاسقاط الثقافي.
ولعل من الوقفات المؤثرة في حركة زمن الصحوة خلال هذه الفترة من الصراع، المنهاج الرائد الذي خطط له ونفذه الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر «ص» حيث كثّف جهوده المباركة من اجل التأثير على المجتمعات الفكرية السائدة في المجتمع، حيث كانت له المبادرة القوية في تحويل الفكر الاسلامي من الدفاع إلى الهجوم من خلال طرح افكاره الاصيلة، ومشاريعه الإسلامية الثقافية والسياسية التي هاجم بها الطروحات الفلسفية الوضعية في الاقتصاد والاجتماع والفلسفة والآفاق الاخرى للمعرفة الإنسانيّة. اضافة إلى تركيز جهوده من اجل تقديم الإسلام كبديل حضاري بصورة حركية واعية تعالج مشاكل الإنسان والمجتمع والدولة برؤى عصرية واقعية.
فلقد جعل الفكر يقف بوجه مشاريع السياسة المضادة ويسجل عليها الانتصار الرائع حتى استشهاده رضواه الله عليه.
ان الذي نؤمن به بقوة ونتوقع حدوثه بوضوح ان التطور والتغير الذي شهده العالم في علاقاته ومعادلاته الدولية سيفرز نمطاً جديداً من التحدي لامتنا الإسلامية وان التضليل الفكري سيتخذ ابعاداً واشكالاً متجددة تستهدف تحجيم الصحوة الإسلامية والعودة بالمجتمعات الإسلامية إلى مرحلة ما قبل الوعي.
ان المرحلة التي نعيشها هي صراع حضاري بين الإسلام وقوى الضلال العالمي، وهو صراع خطير ومصيري، لان الغرب تفرّد في الساحة الدولية بعد انهيار الكتلة الشيوعية، وهذا مايجعله يخطط لعالم جديد دائم يخدم مصالحه، ولاشك ان العالم الجديد لا يكتمل بناؤه إلاّ على اساس العالم الاسلامي البعيد عن منابع فكره وأصالته وقيمه.
لقد اكتشف الغرب نقطة القوة في الشعوب الإسلامية، وتيقن ان الوعي الاسلامي الجديد بامكانه ان يتحداه ويصنع الكثير، وان يواجه ابناء الاُمّة بالاتجاهات المناهضة لكل ما هو استعماري وفي الخندق المعادي للاسلام بل ان الوعي الاسلامي بامكانه ان يختصر مسافات الزمن، فيصنع الموقف الحاسم المؤثر في الساحة.
وعلى هذا فلابد ان يستهدف الاستعمار الغربي مصادر الوعي والنهضة وعناصر التأثير في الجسم الاسلامي فيواجهها بالقوة المناسبة من اجل محوها من الميدان حتى يمكن لبرامجه السياسية ان تجد طريقا إلى التطبيق دون خطر أو تهديد وحتى يستطيع الغرب ان يعود بالزمن إلى ما قبل مرحلة وعي الشعوب.
ان الذي ندعو إليه في ختام هذه الدراسة إلى اهمية التأكيد على البناء الفكري للامة الإسلامية، باعتبار ان القوة الفكرية هي التي تستطيع ان تواجه المخططات والمحاولات المضادة، وهي التي تتمكن من رسم مناهج الحاضر والمستقبل برؤى شمولية واضحة تفهم الحاضر بدقة وتقرأ المستقبل بوضوح.
(ولا تهنوا في ابتغاء القوم ان تكونوا تألمون فانّهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليماً حكيماً) «سورة النساء آية 104».
ومن الله نستمد العون والقوة
****
من الحكمه أن تكون غبياً في بعض المواقف ..