المشهد السادس عشر : الطريق إلى الحكم *
هذا المشهد يبرز رؤيا الملك وتعبيرها في لقطتين، ومن العجيب أن تكون سببا في خلاص يوسف من السجن ، ومن محن أخرى سواه ... ومن ثم الدخول في امتحان جديد ؛ إنه امتحان من نوع آخر ؛ امتحان السراء ؛امتحان النعم ، والتمكين في الأرض ، بعد الامتحان العسير، الذي نجا منه يوسف عليه السلام –بفضل من الله تعالى ونعمة - وخرج منه سليما معافى من امتحان الضراء .
هذه الرؤيا : تتعلق بمعضلة اقتصادية بالغة الأهمية ؛ تتعلق في أقوت الناس ؛ في وقت ليس بالقصير ؛ إن امتداده يصل إلى بضع عشرة سنة ؛ هذه المعضلة تحتاج إلى خبرة ليست بالقليلة ؛خبرة مبنية على أسس متينة ؛ عقدية وأخلاقية ، ومالية ... ومن صاحبها ؟ إن لم يكن يوسف عليه السلام ... ولكن أنّى ليوسف عليه السلام أن يتصدى لهذه المهمة وهو بعيد بعيد أنه ليس بعدا ينتظر ممن نأى به أن يوصله سفره ومسيره إلى الهدف ولو بعد حين ؛ إنه في غياهب السجن !وهذا في عالم الأسباب المادية يضل بعيدا كما هو! ولكنه في عظيم قدرة الله ولطفه قريب لقد تدخلت قدرة الله وتدخل لطفه سبحانه وتعالى فخرج يوسف عليه السلام في وقت قصير غير متوقع ؛ ليكون هو صاحب المهمة الراهنة وليجازى على إحسانه وصبره ... وليلج محنة السراء والجاه لتتصبح سيرته مكتملة ؛ تقوم على جناحي السراء والضراء فتكون نموذجا تربويا فريدا ...
اللقطة الأولى عبارة عن مجلس يضم الملك وقد جمع مستشاريه ، وأهل الحل والعقد في مملكته ؛ يطلب منهم تعبير رؤياه التي أقلقته ... ولكن قدرة الله تعالى تأبى وتخبئ تعبيرها وتأويلها ليوسف! ليخرج بسببها من السجن ! فقالوا : أضغاث أحلام ؛ لا علم لهم بتعبيرها وتأويلها ... وتنتهي اللقطة الأولى عند هذا الحد ...
وتليها اللقطة الثانية فتظهر السجين وهو يدل الملك على يوسف الصديق عليه السلام الذي أنساه الشيطان ذكر وصيتة له عند الملك بضع سنين أرسل ليأت لهم بتعبير الرؤيا وتأويلها ...قال تعالى يصور هذا المشهد { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ(43)قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ(44)وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي(45) }
وينتهي المشهد بلقطتيه وقد هيأ للمُشاهد صورة ذهنية يتملاها ؛ وهي الزمن الذي امتد بضع سنين قضاها يوسف عليه السلام في السجن ؛ بعد أن فارق السجينين إلى مجيء المشهد الذي يليه ليتملى الذهن في هذا الوقت الكبير الذي قضاه يوسف عليه السلام في السجن ما يعتبر غذاء مهما في عالم التربية ؛ إنه عمر طويل ، وميدان واسع للذهن .
أفياء وظلال تربوية وإعلامية من المشهد منها :
1- التطبيق العملي لفهم أسماء الله تعالى وصفاته من خلال الملاحظة والمشاهدة والممارسة العملية ؛ فاسم الله تعالى اللطيف يتجلى للدارس المتأمل كيف تجري ألطاف الله تعالى وتتناسق مع قدرته سبحانه وحفظه وتدبيره ؟ كيف كان تدبيره ليوسف عليه السلام في حفظه بقدرته القادرة وهو يمر بفتن لا يمكن أن ينجو منها بدون حفظ الله تعالى له ثم لطفه أن يخرج من بين تلك المحن سالما ليوصله ونجاته في الدنيا والأخرى ؛ دراسة الأسماء والصفات ينبغي أن تدرس دراسة عملية بجانب الدراسة النظرية بعيدا عن الفلسفة التي نأت بدراسة الأسماء والصفات إلى منحى معقد لا يؤتي ثمرته في الميدان التربوي كما أراد الله تعالى ... إن المتتبع للمنهج القرآني وهو يقرر هذه القضية يلمس أنه يدرس الأسماء والصفات على النحو الذي أشرت إليه ... وقد حاول بعض العلماء والباحثين أن يسلكوا هذا المنهج وأدت دراساتهم ثمرات تربوية مهمة( )
2- ملاحظة ين الاعتماد على الله تعالى و استخدام الأ سباب
وهي فضية طالما أخطأ فيها أناس؛ إن يوسف عليه السلام استخدم الأسباب وقال للذي نجا منهما أذكرني عند ربك مع أنه في أوائل المتوكلين كما هو معروف عن الأنبياء عليهم السلام وهي مسألة دقيقة تخفى على البعض ولما توانى المسلمون في مجال استخدام الأسباب سبقهم غيرهم إلى ميدان الحياة وكسبوا الجولة مع أن المسلمين الأوآئل هم الذين أسسواللعلوم ومن ضمن ذلك القصور الذي سجل على علماء الإ سلام في مجال الاتصال حيث جانبوا الخوض فيه فلم يتنبهوا إلا وقد فاتهم القطار
3- إتقان تخصص من التخصصات أو علم من العلوم أو مهنة من المهن يتقنها الداعية إلى الله تعالى يعتبر ذلك مدخلا من المداخل إلى نفسية المستقبل وبخاصة إذا صاحب ذلك تواضع وحب للآخرين ولقد كان يوسف عليه السلام كذلك ، وغالبا ما يحدث التأثير من خلال العبرة والعظة ، والقدوة الحسنة ،والأمر بالمعروف ، بالتوجيه الحسن والإرشاد المبني على الحكمة ، والقوة لمن لاتنفع معه إلا القوة..( )ويتأثر فهم البرامج بقدرة المستقبل على التمييز بين ما يحدث في الواقع و بين ما يحدث فى عالم الخيال والذين يتأثرون بالخيال أكثر من الواقع الأطفال ،( ) وأما غيرهم فإن البرامج الواقعية ,، و بخاصة التطبيقية منها،وبذل المعروف من أهمها ...
إن من المتاعب في طريق الدعوة أن يمثلها من لايتمتع بصفات الداعية الناجح التي اتصف بها الأنبياء عليهم السلام فيسيء إلى الدعوة وإلى المدعوين .
* أفياء المشاهد والفجوات ، د محمد بن ناجي مشرح