[align=center]
مولده ونشأته :
هو أمير المؤمنين أبو جعفر هارون بن محمد المهدى بن عبد الله المنصور بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس رضى الله عنهما .
فأبوه هو أمير المؤمنين المهدى وجدّه أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور وأخوه أمير المؤمنين موسى الهادى , وأمّه هى أم ولد تسمّى الخيزران , فكان رحمه الله من عائلة مترفة وكلهم أمراء المؤمنين .
أحد قصور العباسيين فى بغداد المحتلة ..
وُلد هارون الرشيد رحمه الله بالرىّ – مدينة بجانب طهران اليوم - عام 148هـ , وكان رحمه الله طويلا , جميلا , أبيضا , قد وخطه الشيب , وعاش هارون الرشيد فى كنف والده المهدى وكانت له حال عجيبة فى نشاطه للغزو والجهاد على صغر سنه !!
فى عام 165هـ , قاد هارون الرشيد جيوش المسلمين لغزو بلاد الروم ووصل بجيوش المسلمين الى خليج القسطنطينية الى حيث لم يصل اى قائد من الدولة العباسية قبله ولا بعده .
ففى يوم السبت لإحدى عشر ليلة بقيت من جمادى الآخرة عام 165هـ , خرج هارون الرشيد على رأس جيش لغزو بلاد الروم فى خلافة أبيه المهدى , وكان عدد جيوش المسلمين خمسة وتسعين الفا وسبعمائة 95700 ألف مجاهد , فأوغل هارون الرشيد فى بلاد الروم وأثخن فيهم , ووصل الى أهم مدن الروم قبل القسطنطينية وهى "المسالح" وعليها أميرهم "الدمستق" فاتردعت فرائصه من الرعب من الرشيد فهادنه وأعطاهم مائة ألف دينار وثلاثة وتسعين ألفا واربعمائة وخمسين دينارا 193450 ومن الفضة حوالى وحدا وعشرين ألف ألف درهم – 21 مليون درهم . !!
ثم تقدم هارون الرشيد رحمه الله الى ان وصل الى خليج القسطنطينة عاصمة بلاد الروم , وكانت على الروم إمرأة تسمى "إيريني" وتلقب بأغُسْطة , فجرى بينهم سفارات ورسل تطلب الصلح والموادعة , فتم الصلح على الفدية بمقدار سبعون ألف دينار 70.000 سنويا , وكانت الهدنة ثلاث سنوات , ثم قفل الرشيد راجعا الى بغداد .
عملة ذهبية للملكة "إيريني" ملكة الروم فى عهد الرشيد ..
قُتل فى هذه المعارك من الروم اربعة وخمسون ألفا 54 ألفا , وقُتل من الأسارى صبرا ألفان وتسعون أسيرا , وعمّ الخير على بلاد المسلمين من كثرة الغنائم حتى بيع البرذون بدرهم , والبغل بأقل من عشرة دراهم , والدّرع بأقل من درهم , والعشرين سيفا بدرهم .
والعجيب فى كل هذا ان هارون الرشيد يوم قاد جيوش المسلمين لتلك الملحمة لم يتجاوز عمره سبع عشرة سنة 17 فقط !!
الله أكبر ..
يقول مروان بن أبى حفصة فى هذه الوقعة :
أَطفْتَ بقُسطنطينةِ الروم مُسنِدا *** اليها القنا حتى اكتسى الذِّلَّ سورها
وما رِمْتَها حتى أتتك مُلوكُها *** يِجزْيتها , والحربُ تغلى قُدورُها
خلافة هارون الرشيد :
استخلف بعهد أبيه عند موت أخيه الهادى ليلة السبت لأربع عشرة بقيت من ربيع الأول سنة سبعين ومائة 170هـ وفى نفس تلك الليلة وُلد له ابنه عبد الله المأمون , ولم يكن فى سائر الأزمان ليلة مات فيها خليفة وقام خليفة وولد خليفة إلا هذه الليلة , وكان عمر هارون الرشيد لما ولى خلافة المسلمين 22 سنة فقط !!
وكان رأى النبى صلى الله عليه وسلم فى النوم فقال له : إن هذا الأمر قد صار اليك فى هذا الشهر. فاغز وحج ووسع على أهل الحرمين .
وكتب على قلنسوة له : غاز وحاج , وكان يسمى نفسه : الغازى الحاج , وكان نقش خاتمه : "كن مع الله على حذر"
درهم فضي من أيام هارون الرشيد رحمه الله ..
يقول الصفدي : كان يحب العلم وأهله , ويعظم حرمات الله فى الإسلام .
يقول الذهبي : كان من أنبل الخلفاء , وأحشم الملوك , ذا حجٍ وجهاد , وغزو وشجاعة ورأى .
يقول السيوطي : كان أمير الخلفاء وأجلّ ملوك الدنيا , وكان كثير الغزو والحج . وقال ايضا : وكان يحب العلم وأهله ويعظم حرمات الإسلام ويبغض المراء فى الدين والكلام فى معارضة النص .
يقول ابن كثير : كان من أحسن الناس سيرة وأكثرهم غزوا وحجا بنفسه .
يقول ابن العماد الحنبلي : قال ابن الفرات : كان الرشيد يتواضع لأهل العلم والدين , ويكثر من محاضرة العلماء والصالحين.
ويقول ابن العماد : وكان الرشيد رحمه الله يحب الحديث وأهله , وسمع الحديث من مالك بن أنس , وإبراهيم بن سعد الزهري , وأكثرُ حديثه عن آبائه , وروى عنه القاضى أبو يوسف والإمام الشافعي رضى لله عنهما . ذكر ذلك ابن الجوزى
وقال ايضا : وكان كثير البكاء من خشية الله , سريع الدمعة عند الذكر , محبا للمواعظ
يقول القرماني : وهو من أجل ملوك الأرض , له نظر فى العلم والآداب , وكان يصلى فى كل يوم وليلة مائة ركعة , وكان يحب العلم ويوقر أهله , وكانت أيام الرشيد كلها خيرا , كأن من حسنها أعراس .أ.هـ
وكان رحمه الله عابدا متهجدا , فكان يصلى فى خلافته كل يوم مائة ركعة الى ان فارق الدنيا لا يتركها إلا لمرض , وكان يتصدق كل يوم من صلب ماله بألف درهم , وكان إذا حجّ أحجّ معه مائة من الفقهاء وأبنائهم , وإذا لم يحج أحج فى كل سنة ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة رحمه الله .
وكان عنده من تعظيم الشرع شيىء عجيب وكان إذا ذُكّر بالله تذكر وإذا خُوف ازدجر ,وكان معظما لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , يقول أبو معاوية الضرير الإمام المحدث الكبير : ما ذكرت عنده – اى هارون الرشيد – حديثا إلا قال : صلى الله وسلم على سيدى , وإذا سمع حديثا فيه موعظة بكى حتى يبل الثرى .
أحد قصور العباسيين فى بغداد ..
ودخل عليه يوما الإمام أبو معاوية الضرير وعنده أقوام من وجوه قريش , وكان مجلسه يُقرأ فيه حديث رسول الله , فحدثه أبو معاوية عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة حديث (احتج آدم وموسى) وذكر الحديث , فقال عمّ الرشيد : أين لقى آدم موسى !! , فغضب الرشيد ونادى بالنطع والسيف وقال : زنديق والله يطعن فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم !! , فما زال الإمام أبو معاوية يسكنه ويقول : كانت منه بادرة يا أمير المؤمنين ولم يفهم .
وفى رواية أخرى ان عمّ هارون الرشيد قال : وأين التقيا يا ابا معاوية ؟ فضغب الرشيد من ذلك غضبا شديدا , وقال : أتعترض على الحديث ؟ علىّ بالنطع والسيف , فأحضر ذلك فقام الناس اليه يشفعون فيه , فقال الرشيد : هذه زندقة , ثم أمر بسجنه وأقسم أن لا يخرج حتى يخبرني من ألقى اليه هذا , فأقسم عمّه بالأيمان المغلظة ما قال هذا له أحد , وإنما كانت هذه الكلمة بادرة منى وأنا استغفر الله وأتوب اليه منها . فأطلقه !!
المدرسة المستنصرية ببغداد , بناها المستنصر العباسي ..
الى هذا الدرجة من تعظيم الشرع رحمه الله , وكان محببا اليه سماع الاحاديث لا سيما عن الجهاد !!
يقول أبو معاوية الضرير : حدثت هارون الرشيد بهذا الحديث , يعنى قول النبى صلى الله عليه وسلم : ((وددت أنى أقتل فى سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل .. )) الحديث , فبكى هارون الرشيد حتى انتحب رحمه الله !!
ومما روى من الاحاديث :
قال الصولي : حدثنا عبد الرحمن بن خلف , حدثني جدى الحصين بن سليمان الضبي , سمعت الرشيد يخطب فقال فى خطبته : حدثنى مبارك بن فضالة , عن الحسن , عن أنس ققال : قال النبى صلى الله عليه وسلم : اتقوا النار ولو بشق تمرة .
حدثنى محمد بن على عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن علىّ بن أبى طالب قال : قال النبى صلى الله عليه وسلم : نظفوا أفواهكم فإنها طريق القرآن .
قلما نسمع عن خليفة للمسلمين له رواية للحديث , لله دره !!
صفحة من المصحف فى العهد العباسي الأول ..
يقول الذهبي : وكان يحب العلماء , ويعظم حرمات الدين , ويبغض الجدال والكلام , ويبكى على نفسه ولهوه وذنوبه لا سيما إذا وعظ . أ.هـ
يقول الخطيب البغدادي : وكان يحب الفقه والفقهاء , ويميل الى العلماء . أ.هـ
عن أبى معاوية ايضا قال : أكلت مع الرشيد يوما , ثم صبّ على يدى رجل لا أعرفه , ثم قال الرشيد : تدرى من يصب عليك ؟ قلت : لا , قال : أنا , إجلالاً للعلم , قال أبو معاوية : فدعوت له , فقال : إنما أردت تعظيم العلم.
ويروى بعضهم : دخلت على هارون الرشيد وبين يديه رجل مضروب العنق والسياف يمسح سيفه فى قفا الرجل المقتول , فقال هارون الرشيد : قتلته لأنه قال القرآن مخلوق , فقتله على ذلك قربة الى الله عز وجل .
وبلغه عن بشر المريسي القول بخلق القرآن , فقال : لئن ظفرت به لأضربن عنقه .
أحد قصور العباسيين فى بغداد ..
وأخرج ابن عساكر عن أبن علية , أخذ هارون الرشيد زنديقا , فامر بضرب عنقه , فقال له الزنديق : لم تضرب عنقى ؟ , فقال الرشيد : أُريح العباد منك , فقال الزنديق : فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله كلها ما فيها حرف نطق به !!
فقال الرشيد : فأين أنت يا عدو الله من أبى اسحق الفزاري , وعبد الله بن المبارك , فينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا !!
دخل عليه يوما ابن السمّاك الواعظ فاستسقى الرشيد فأتى بقلة فيها ماء مبرد فقال لابن السماك : عظني , فقال : يا أمير المؤمنين بكم كنت مشتريا هذه الشربة لو منعتها ؟ فقال : بنصف ملكي , فقال : اشرب هنيئا , فلما شرب قال : أرأيت لو منعت خروجها من بدنك بكم كنت تشتري ذلك ؟ فقال : بنصف ملكي الآخر , فقال : إن ملكا لا يساوى شربة ماء وخروج بولة لجدير الا ينافس فيه , فبكى هارون الرشيد رحمه !!
وروى أنه لما لقى الفضيل بن عياض هارون الرشيد , فقال الفضيل : يا حسن الوجه أنت المسؤول عن هذه الأمة , حدثنا ليث عن مجاهد ((وتقطعت بهم الاسباب)) قال : الوصل الذى كان بينهم فى الدنيا , فجعل هارون الرشيد يبكى وينتحب رحمه الله !! , وكان يأتي بنفسه بيت الفضيل بن عياض
ويقول منصور بن عمار : ما رأيت أغزر دمعا عند الذكر من ثلاثة : فضيل بن عياض , وأبو عبد الرحمن الزاهد , وهارون الرشيد .
وكان هارون الرشيد من جملة دعائه : يا من خشعت له الأصوات بأنواع اللغات يسألونه الحاجات , إن من حاجتي إليك ان تغفر لى ذنوبي إذا توفيتنى , وصُيرت فى لحدي , وتفرق عنى أهلي وولدي , اللهم لك الحمد حمدا يفضل كل حمد كفضلك على جميع الخلق , اللهم صل على محمد وعلى آل محمد صلاة تكون له رضا , وصل عليه صلاة تكون له ذخرا وأجزه عنا الجزاء الأوفى , اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء واجعلنا سعداء مرزوقين , ولا تجعلنا أشقياء مرجومين ...
يقول محمد بن منصور البغدادي : لما حبس الرشيد أبا العتاهية جعل عليه عينا يأتيه بما يقول , فرآه يوما قد كتب على الحائط :
أما والله إن الظلم لؤمٌ *** وما زال المسيء هو الظلومُ
الى ديان يوم الدين نمضى *** وعند الله تجتمع الخصومُ
فأُخبر الرشيد بذلك فبكى , أحضره واستحله !!
دينار ذهبي فى عهد الدولة العباسية ..
وكان للرشيد تعظيما بالغا لأبى بكر وعمر ويحب سيرتهما ,وكان يسأل عنهما , سأل الرشيد احد العلماء يوما عن منزلة أبى بكر وعمر عند النبى صلى الله عليه وسلم , فقال له : كانت منزلتهما فى حياته منه منزلتهما فى مماته , فقال : كفيتني ما أحتاج اليه ..
وبلغ من بعض عمال يوما حسن سيرته وتحريه العدل والأمانة , فأرسل اليه الرشيد يستقدمه ليكافأه ويكون مقدما عنده , فدخل عليه الرجل , وكان الرشيد يأكل سفرجلا , وهو يقشره ويأكل منه , فقال له : يا فلان , ما أحسن ما انتهى الى مولاك عنك , ولك عنده ما تحب , وقد أمرت لك بكذا وكذا , ووليتك كذا وكذا , فسل حاجتك! , فتكلم الرجل بحسن سيرته وقال : أنسيْتهم والله يا أمير المؤمنين سيرة العمريْن !!
فغضب هارون الرشيد واستشاط غضبا , وأخذ السفرجلة فرماه بها , وقال : يا بن اللخناء , العمريْن! , العمريْن! , العمريْن ! هبنا احتملناها لعمر بن عبد العزيز , نحتملها لعمر بن الخطاب !!
وقال له بعض أهل العلم : يا أمير المؤمنين انظر الى هؤلاء الذين يحبون أبا بكر وعمر ويقدمونهما فأكرمهم بعز سلطانك , فقال الرشيد : أولست كذلك ؟ أنا والله كذلك أحبهما وأحب من يحبهما وأعاقب من يبغضهما .
وكان عظيم الخشية إذا وعظ ويبكى بكاء شديدا ...
فذكر محمد بن هارون , عن أبيه , قال : حضرت الرشيد , وقال له الفضل بن الربيع : يا أمير المؤمنين , قد أحضرت ابن السمّاك كما أمرتني , قال : أدخله , فدخل , فقال له : عظني , قال : يا أمير المؤمنين , اتق الله وحده لا شريك له , واعلم انك واقف غدا بين يدى الله ربك , ثم مصروف الى إحدى منزلتين لا ثالث لهما , جنة او نار . قال : فبكى هارون الرشيد حتى اخضلت لحيته.
قال الأصمعى : صنع الرشيد يوما طعاما كثيرا وزخرف مجالسه , وأحضر أبا العتاهية فقال : صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا فقال :
عِش ما بدا لك سالما *** فى ظل شاهقة القصور
فقال : أحسنت , ثم قال : ماذا ؟ فقال :
يسعى عليك بما اشتهيـ *** ـت لدى الرواح وفى البكور
فقال : أحسنت , ثم قال : ماذا ؟ فقال :
فإذا النفوس تقعقت *** فى ظل حشرجة الصدورِ
فهناك تعلم موقنا *** ما كنت إلا فى غرور
فبكى الرشيد , وقال الفضل بن يحيى : بعث اليك أمير المؤمنين لتسره فحزنته , فقال : دعه , فإنه رآنا فى عمى فكره أن يزيدنا ... رحمه الله !!
ولما حج هارون الرشيد يوما , دخل على الفضيل بن عياض , فوعظه الفضيل بن عياض موعظة طويلة جليلة , حتى بكى الرشيد وانتحب واغشى عليه , رحمه الله تعالى
الدولة الإسلامية فى عهد الرشيد ..
[/align]