بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله،والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه،أما بعد:
فإن من طريقة أهل السنة والجماعة الاستدلال على أمور الدين العلمية والعملية بكتاب الله-تعالى- وسنة رسوله--،والتسليم المطلق لهما،والحذر والتحذير من مخالفتهما؛امتثالاً لقوله-تعالى-:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماً"[النساء:65]؛" هذا شامل لكل فرد في كل حكم...،وهذا في حياته --، وأما بعد موته، فتحكيم الكتاب والسنة، وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة، أو في أحدهما. وكان يعقل ما يردّ عليه من حجج الكتاب والسنة"."فتح القدير"1/483-484.
وامتثالاً لقوله-تعالى-:"وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً"[الأحزاب:36]؛و"هذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إِذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته، ولا اختيار لأحد هنا، ولا رأي ولا قول"."تفسير القرآن العظيم"/.
ولقوله-تعالى-:"فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم"[النور:63].
فطريقتهم سليمة من الاعتراض على ما في الكتاب والسنة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-:"وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة،فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن لا برأيه ولا ذوقه ولا معقوله ولا قياسه ولا وجده؛فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول--جاء بالهدى ودين الحق،وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم"ا.هـ."مجموع الفتاوى"13/28.
وهذا الاعتراض"ثلاثة أنواع سارية في الناس،و المعصوم من عصمه الله منها:
النوع الأول:الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشبه الباطلة -التي يسميها أربابها قواطع عقلية،و هي في الحقيقة خيالات جهلية،و محالات ذهنية اعترضوا بها على أسمائه و صفاته -عز و جل-،و حكموا بها عليه،و نفوا لأجلها ما أثبته لنفسه،و أثبته له رسوله،و أثبتوا ما نفاه،و والوا بها أعداءه،و عادوا بها أولياءه،و حرفوا بها الكلم عن مواضعه،و نسوا بها نصيباً كثيرا مما ذكروا به،و تقطعوا لها أمرهم بينهم زبراً،كل حزب بما لديهم فرحون-....
النوع الثاني:الاعتراض على شرعه و أمره،و أهل هذا الاعتراض ثلاثة أنواع:
أحدها:المعترضون عليه بآرائهم و أقيستهم المتضمنة تحليل ما حرم الله-سبحانه و تعالى-،و تحريم ما أباحه،و إسقاط ما أوجبه،و إيجاب ما أسقطه،و إبطال ما صححه ،و تصحيح ما أبطله،و اعتبار ما ألغاه،و إلغاء ما اعتبره،و تقييد ما أطلقه،و إطلاق ما قيده.
و هذه هي الآراء و الأقيسة -التي اتفق السلف قاطبة على ذمها،و التحذير منها، و صاحوا على أصحابها من أقطار الأرض،و حذروا منهم،و نفروا عنهم.
النوع الثاني:الاعتراض على حقائق الإيمان و الشرع بالأذواق و المواجيد و الخيالات و الكشوفات الباطلة الشيطانية المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله،و إبطال دينه -الذي شرعه على لسان رسوله--،و التعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان،و حظوظ النفوس الجاهلة-....
النوع الثالث:الاعتراض على ذلك بالسياسات الجائرة -التي لأرباب الولايات التي قدموها على حكم الله و رسوله-صلى الله عليه و سلم-،و حكموا بها بين عباده،و عطلوا لها و بها شرعه و عدله و حدوده-:
فقال الأولون:"إذا تعارض العقل و النقل قدمنا العقل".
و قال الآخرون:"إذا تعارض الأثر و القياس قدمنا القياس".
و قال أصحاب الذوق و الكشف و الوجد:"إذا تعارض الذوق و الوجد و الكشف و ظاهر الشرع قدمنا الذوق و الوجد و الكشف".
و قال أصحاب السياسة:"إذا تعارضت السياسة و الشرع قدمنا السياسة".
فجعلت كل طائفة قبالة دين الله و شرعه طاغوتاً يتحاكمون إليه:
فهؤلاء يقولون:"لكم النقل،و لنا العقل".
و الآخرون يقولون:"أنتم أصحاب آثار و أخبار،و نحن أصحاب أقيسة و آراء و أفكار".
و أولئك يقولون:"أنتم أرباب الظاهر،و نحن أهل الحقائق".
و الآخرون يقولون:"لكم الشرع،و لنا السياسة".
فيا لها من بلية عمت؛فأعمت،و رزية رمت؛فأصمت،و فتنة دعت القلوب؛فأجابها كل قلب مفتون،و أهوية عصفت؛فصمت منها الآذان،و عميت منها العيون،عطلت لها –و الله-معالم الأحكام كما نفيت لها صفات ذي الجلال و الإكرام،و استند كل قوم إلى ظلم و ظلمات آرائهم،و حكموا على الله و بين عباده بمقالاتهم الفاسدة،و أهوائهم،و صار لأجلها الوحي عرضة لكل تحريف و تأويل،و الدين وقفاً على كل إفساد و تبديل.
النوع الثالث:الاعتراض على أفعاله و قضائه و قدره،و هذا اعتراض الجهال،و هو ما بين جلي و خفي، و هو أنواع لا تحصى،و هو سار في النفوس سريان الحمى في بدن المحموم،و لو تأمل العبد كلامه و أمنيته و إرادته و أحواله لرأى ذلك في قلبه عياناً،فكل نفس معترضة على قدر الله و قسمه و أفعاله إلا نفساً قد اطمأنت إليه،و عرفته حق المعرفة -التي يمكن وصول البشر إليها-؛فتلك حظها التسليم و الانقياد و الرضا كل الرضا"."."مدارج السالكين"2/71-74،وانظر:"الصواعق المرسلة"3/1051،1562. </B>