ومن فقهه واجتهاداته التي تنمُّ عن رجاحة عقله وفطنته وسعة علمه ما يلي:
1- ترك الوضوء مما مست النار
يروي أبان بن عثمان -رحمه الله- أن عثمان أكل خبزًا ولحمًا، ثم مضمض وغسل يديه ومسح بهما وجهه، ثم صلى ولم يتوضأ.
وفي رواية قال عثمان: "أكلت كما أكل رسول الله، وصليت كما صلى رسول الله".
2- الإنصات للخطبة يوم الجمعة وإن لم يسمعها
يروي مالك بن أبي عامر أن عثمان بن عفان كان يقول في خطبته، قلما يدع ذلك إذا خطب: "إذا قام الإمام يخطب يوم الجمعة فاستمعوا وأنصتوا؛ فإن للمنصت الذي لا يسمع في الحظ مثل والسامع المنصت، فإذا قامت الصلاة فاعدلوا الصفوف، وحاذوا بالمناكب، فإن اعتدال الصفوف من تمام الصلاة". ثم لا يكبر حتى يأتيه رجال قد وكلهم بتسوية الصفوف فيخبرونه أن قد استوت فيكبر.
3- جواز صلاة الجمعة أو عدم صلاتها إذا وافقت يوم عيد وصلى العيد
يقول أبو عبيد مولى ابن أزهر رحمه الله: شهدت العيد مع عثمان بن عفان t فجاء فصلى، ثم انصرف، فخطب، فقال: "إنه قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان، فمن أحب أن ينتظر الجمعة، فلينتظرها، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له".
4- استتابة المرتد
يقول ابن مسعود : أخذ رجال بالكوفة يَغْشَوْن حديث مسيلمة الكذاب، يدعون إليهم، فكُتب فيهم إلى عثمان بن عفان ، فكتب عثمان أن اعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فمن قبلها وبرئ من مسيلمة، فلا تقتله، ومن لزم دين مسيلمة فاقتله. فقبلها رجال منهم فتركوا، ولزم دين مسيلمة رجال فقتلوا.
5- قضاؤه في عبيد الله بن عمر
وهي أول قضية حكم فيها عثمانt، وذلك أن عبيد الله غدا على ابنة أبي لؤلؤة قاتل عمر فقتلها، وضرب رجلاً نصرانيًّا يقال له حفينة بالسيف فقتله، وضرب الهرمزان فقتله، وكان قد قيل: إنهما تآمرا مع أبي لؤلؤة على قتل عمر. وكان عمر قد أمر بسجنه ليحكم فيه الخليفة من بعده، فلما ولي عثمان، وجلس للناس كان أول ما تحوكم إليه في شأن عبيد الله، فقال علي: ما من العدل تركه. وأمر بقتله، وقال بعض المهاجرين: أيُقْتل أبوه بالأمس، ويقتله هو اليوم؟ فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، قد برأك الله من ذلك، قضية لم تكن في أيامك فدعها عنك. فوَدَى (دفع الدية) عثمان t أولئك القتلى من ماله؛ لأن أمرهم إليه، إذ لا وارث لهم إلا بيت المال. والإمام يرى الأصلح في ذلك، وخلَّى سبيل عبيد الله.
ولا يوجد خلاف في الروايات والمصادر التاريخية على أن الخنجر الذي قتل به عمر بن الخطاب كان بيد الهرمزان وجفينة قبل الحادث، وقد شاهد ذلك اثنان من الصحابة وهما: عبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن بن أبي بكر، ورواية عبد الرحمن بن أبي بكر تفيد أن القاتل أبا لؤلؤة كان مع هذين الشريكين يتناجون ثلاثتهم، فلما باغتهم سقط الخنجر من بينهم، وبعد قتل عمر وجدوا أنه نفس الخنجر الذي وصفه الشاهدان، وبالتالي فالهرمزان وحفينة يستحقان القتل، أما ابنة أبي لؤلؤة الذي قتل نفسه ليخفي المشتركين معه، فهذه قتلت خطأ، ولا يقتل فيها أحد، وقد رأى عبيد الله أنها من المشاركين في القتل حيث كانت تخفي السلاح لأبيها.
8- جناية الأعمى
الأعمى مع قائده كالآلة، يتحرك بأمره، وهو مع مجالسه غفل يتحرك وهو قد يتردى في حركته أو يتضرر، فلا يتوقع أن يتحاشا إضرار غيره بحركته وهو لا يراه، ولذلك فإنه إذا ما جنى على قائده أو مَن جالسه دون قصد، فجنايته هدر، قال عثمان بن عفان : "أيما رجل جالس أعمى، فأصابه الأعمى بشيء، فهو هَدَر". أي باطل لا قصاص فيه ولا دية.
9- جناية المقتتليْن على بعضهما
قد يقع شجار بين الأشخاص فيجني كل واحد من المتشاجريْن على صاحبه، فإن حصل شيء من هذا فالواجب القصاص، لأن هذه الجناية عمد، إذ الظاهر أن كل واحد منهما حريص على أن ينال من صاحبه، قال عثمان بن عفانt: "إذا اقتتل المقتتلان، فما كان بينهما من جراح فهو قصاص".
10- الجناية على الحيوان
إذا وقعت الجناية على الحيوان فالواجب فيها الضمان بالقيمة، فعن عقبة بن عامر قال: قتل رجل في خلافة عثمان بن عفان كلبًا لصيد لا يعرف مثله في الكلاب، فقُوِّم بثمانمائة درهم، فألزمه عثمان تلك القيمة، وأغرم رجلاً ثمن كلب قتله عشرين بعيرًا.
11- الجناية على الصائل
إذا صال (اعتدى) شخص على مال شخص آخر، أو على نفسه، أو على عرضه، فقتله المصول عليه أثناء اعتدائه فدمه هدر، فقد روى ابن حزم في المحلى أن رجلاً رأى مع امرأته رجلاً فقتله، فارتفعوا إلى عثمان فأبطل دمه.
12- إقامة الحد على أخيه من أمه
عن حصين بن المنذر قال: شهدت عثمان بن عفان، وأتي بالوليد، فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها. فقال: يا علي، قم فاجلده. فقال علي: قم يا حسن فاجلده. فقال الحسن: وَلِّ حارَّها من تَوَلَّى قارَّها. أي: ولِّ شدتها وأوساخها من تولى هنيئتها ولذاتها، فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده وعليّ يعد حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك. ثم قال: "جَلَدَ النَّبِيُّأَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ"[1].
13- سرقة الغلام
لا يقام حد السرقة إلا إذا كان السارق بالغًا عاقلاً مختارًا عالمًا بالتحريم، وقد أُتِي إلى عثمان بغلام سرق، فلم يُقِم عليه الحد، وخلى سبيله.
14- إتمام الصلاة بمنى وعرفات
صلى عثمان بالناس بمنى أربعًا، فأتى آتٍ عبدَ الرحمن بن عوف، فقال: هل لك في أخيك قد صلى بالناس أربعًا؟ فصلى عبد الرحمن بأصحابه ركعتين، ثم خرج، حتى دخل على عثمان، فقال له: ألم تصل في هذا المكان مع رسول اللهركعتين؟ قال: بلى. قال: أفلم تصل مع أبي بكر ركعتين؟ قال: بلى. قال: أفلم تصل مع عمر ركعتين؟ قال: بلى. قال: ألم تصل صدرًا من خلافتك ركعتين؟ قال: بلى. قال: فاسمع مني يا أبا محمد، إني أُخْبرت أن بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان، هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين وقد اتخذت بمكة أهلاً، فرأيت أن أصلي أربعًا لخوف ما أخاف على الناس، وأخرى قد اتخذت بها زوجة، ولي بالطائف مال، فربما أطلعته، فأقمت فيه بعد الصدر، فقال عبد الرحمن بن عوف: ما من هذا شيء لك فيه عذر، أما قولك: اتخذت أهلاً. فزوجتك بالمدينة تخرج بها إذا شئت وتقدم بها إذا شئت، إنما تسكن بسكناك، وأما قولك: ولي مال بالطائف. فإن بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال، وأنت لست من أهل الطائف وأما قولك: يرجع من حج من أهل اليمن وغيرهم، فيقولون: هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين وهو مقيم. فقد كان رسول اللهينزل عليه الوحي والناس يومئذ الإسلام فيهم قليل، ثم أبو بكر مثل ذلك، ثم عمر، فضرب الإسلام بجرانه، فصلى بهم عمر حتى مات ركعتين. فقال عثمان: هذا رأي رأيته. قال: فخرج عبد الرحمن فلقي ابن مسعود فقال: أبا محمد، غير ما يعلم؟ قال: لا. قال: فما أصنع؟ قال: اعمل أنت بما تعلم. فقال ابن مسعود: الخلاف شر، قد بلغني أنه صلى أربعًا، فصليت بأصحابي أربعًا. فقال عبد الرحمن بن عوف: قد بلغني أنه صلى أربعًا، فصليت بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف يكون الذي تقول. يعني نصلي معه أربعًا.
إن عثمان صنع ما صنع من إتمام الصلاة في منى وعرفات شفقة على ضعفاء المسلمين أن يفتنوا في دينهم، فقد أبدى لفعله سببًا معقولاً حينما سأله عبد الرحمن بن عوف عن وعما دعاه إليه، فلما أطلعه عثمان على وجهة نظره أخذ عبد الرحمن بقوله وأتم الصلاة بأصحابه، وكذلك صنع عبد الله بن مسعود، وغيره من جمهور الصحابة فتابعوه ولم يخالفوه؛ لأنه إمام راشد تجب متابعته فيما لم يخرج عن حدود الشريعة المطهرة، ولو كان فيما جاء به عثمان أدنى شبهة لمخالفة نص شرعي ما أمكن مطلقًا جمهور الصحابة أن يتابعوه.
15- سن الأذان الثاني يوم الجمعة
عن السَّائِب بْن يَزِيدَ يَقُولُ: إِنَّ الأَذَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَ أَوَّلُهُ حِينَ يَجْلِسُ الإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِوَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلاَفَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ t وَكَثُرُوا، أَمَرَ عُثْمَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالأَذَانِ الثَّالِثِ، فَأُذِّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَثَبَتَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ.
ومن المعلوم شرعًا أن الحكم الشرعي يدور مع العلة سلبًا وإيجابًا، فالعلة في زيادة عثمان أذانًا ثالثًا لجمع الناس هو عدم بلوغ الأذان الأصلي إليهم وهم في السوق، أما وقد انتفت العلة الآن فليرجع الأمر إلى العهد الأول.
[1] مسلم: الحدود، باب حد الخمر (4554)، وأبو داود (4480), وابن ماجه (3291).