الكاتب
عبدالعزيز بن محمد العبداللطيف
كتب الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - مقالاً ماتعاً وطريفاً عن الحجاب استهلَّه بهذه الديباجة: «ليطمئن السيدات، فليس الكلام عن حجاب النساء، ولكن عن حجاب الأمراء، وإن كان الصنفان يتشابهان في أمور كثيرة:
- في الحروف (امرأة - أمراء) كلها من (أ، م، ر)، وأثقل القول على النفس فِعْل الأمر.
وفي أنَّا إن خضعنا للنساء طَغَيْن طغيان الأمراء، وإن لِنَّا للأمراء (تدلَّلوا) دلال النساء.
وفي الحجاب الذي يغري ولا يغطي، ويُطمِع ولا يطعم، يلبس النساء العديد من الثياب ولكنها ثياب لا تستر جسداً، ويتخذ الأمراء الواسع من الأبواب ولكنها لا تُدخِل أحداً.
والحجاب عند الصنفين زينة وفخر، ولو تعرَّى الأمراء عن الشارات والزينات والأبواب والحجاب لخسروا أغلب هيبة الحكم...»[1].
وقد أشار الشوكاني - رحمه الله - إلى هذه البَهرَجة والتهويل في إيوانات السلاطين، وأن رسولاً قدم من بلاد نائية إلى أحد خلفاء بني العباس، وعاين هذه التهاويل والعجائب، فامتلأ قلبه مهابة وروعة، وتعاورته أسباب التعظيم والانبهار من كل حدب وصوب، فما إن وقعت عين هذا البائس على الخليفة حتى قال: أهذا الله؟ فقالوا: لا. بل هذا خليفة الله. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً[2].
وبيَّن صدِّيق حسن القنوجي - رحمه الله - أن إيوانات السلاطين التيمورية بالهند على هذا المنوال، وأن الرِّعدة تعتري أجسام الأقوياء، ويلحقهم الذهول والاندهاش إثر معاينة التزويقات والزينات[3].
ولئن كانت هذه الأبهة والتهويل ترسِّخ تأليهاً وتعظيماً للسلاطين، وتثبيتاً للوثنية السياسية، فإن الغلو في القبور بإسراجها والبناء عليها يجلب وثنية الأضرحة وعبادتها، وقد أوضح الشوكاني ذلك بقوله: «لا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما زيَّنه الشيطان للناس: من رفع القبور، ووضع الستور عليها، وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسين، فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بُنيَت عليه قبة فدخلها، ونظر على القبور الستورَ الرائعة، والسرجَ المتلألئةَ، وقد سطعت حوله مجامر الطيب، فلا شك أنه يمتلئ قلبه تعظيماً لذلك القبر، ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية»[4].
ومهما يكن الحجاب للمرأة والأمير، فإن للفقراء (الصوفية) حظاً وافراً من هذا الحجاب؛ ولا سيما أن الفقراء لهم صِلات حميمة بالأمراء وأصحاب النفوذ في القديم والحديث، ومن ذلك أن صوفياً وعظ أحد الأمراء الظَّلَمة فأعطاه شيئاً فقبله، فقال الظالم: كلنا صيَّادون، وإنما الشباك تختلف[5]، بل ربما أفضى بهم الحال إلى تأييد الأعداء والمستعمرين.
وقد وصف ابن تيمية الصوفية قائلاً: «بل أكثرهم يكرهون متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهم مِنْ أبعد الناس عن الجهاد في سبيل الله، بل يعاونون أعداءه ويدَّعون محبته»[6].
ومن ذلك أن صوفية داغستان جاهرت بتأييدها للزعيم الشيوعي «لينين»، وصوفية العراق باركت الاحتلال الأمريكي للعراق، وصوفية مصر تقيم المظاهرات لأجل تأييد حسني مبارك[7].
كما أن للصوفية ولعاً بالنساء؛ حتى استحلَّ بعضهم مؤاخاة النساء والخلوة بهنَّ[8]. والقوم تحرِّكهم العاطفة والسماع، ويؤثرون التواجد والرقص كالنساء، ويعشقون الأصوات الحسنة والصور الجميلة[9].
وسأكتفي بمثالين على حُجُب الصوفية:
أولاهما: أن أبا الحسن الباهلي (تلميذ أبي الحسن الأشعري) كان يحتجب عن الرجال، فكان تلاميذه كالباقلاني وابن فورك يحضرون درسه، وقد أرخى الستر كي لا يروه! ولما سألوه عن ذلك، أجاب: إنهم يرون السُّوقة (وهم أهل الغفلة) فيروني بالعين التي يرون أولئك بها[10].
وهذا أنموذج لفساد الورع والتعبُّد المتنطَِّع، وإلا فقد كان سيد المرسلين – صلى الله عليه وسلم - يعاين الكفرة كفرعون هذه الأمة أبي جهل وغيره من أئمة الكفر، ويغشى أسواق قريش، ويطوف بالكعبة وحولها ستون وثلاثمائة صنم.
وثانيهما: ما ادَّعاه أبو حامد الغزالي في إحيائه حيث قال: «مقصود الرياضة تفريغ القلب، وليس ذلك إلا بالخلوة في مكان مظلم، فإن لم يكن مكان مظلم فيلفُّ رأسه في جبَّة، أو يتدثر بكساء أو إزار، ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق، ويشاهد جلال حضرة الربوبية».
وقد تعقَّب ابن الجوزي هذا الصنيع فقال: «انظر إلى هذه الترتيبات، والعَجَب كيف تصدر من فقيه عالم! ومن أين له أن الذي يسـمعه نداء الحـق، وأن الذي يشـاهده جـلال الربوبيـة، وما يؤمِّنه أن يكون ما يجده من الوساوس والخيالات: الماليخويا[11]، وقد يسلم الإنسان في مثل هذه الحالة من الوساوس؛ إلا أنه إذا تغشى بثوبه وغمض عينيه تخايل هذه الأشياء.. نعوذ بالله من هذه الوساوس والخيالات الفاسدة»[12].
وخيالات وأوهام الغزالي - عفا الله عنه - تعكس نكوصه عن نوازل عصره، وتنصُّله عن الالتفات إليها، فإن «الإحياء» ألَّفه زمن الحروب الصليبية الأولى.. ومع ذلك فالغزالي غارق في خلواته، متيَّم بالتدثر. فلم يُقِم لهذه الحروب وزناً ولا أثراً.
ثم إن هذه الأحوال لا تحقق علماً نافعاً، ولا عملاً صالحاً، وإنما هي أوهام وسلوب لا حقيقة لها في الأعيان.
وما أجمل ما حكاه ابن تيمية قائلاً: «غاية كلام الغزالي في السلوك ينتهي إلى التعطيل؛ ولهذا ذاكرني مرة شيخ جليل له معرفة وسلوك وعلم في هذا، فقال: كلام أبي حامد يشوقك فتسير خلفه منزلاً من منزل، فإذا هو ينتهي إلى لا شيء»[13].
والناظر إلى أحوال الصوفية وسلوكهم، يجد أن كثرة التنقلات هو دأبهم، وأن تفسُّخ العزائم ونقض الهمم غالب عليهم مع كثرة دعاويهم المثالية الجامحة.. فقد تشددوا في العبادة ثم أعقب ذلك التحلل والفجور، وتنطعوا في دقائق الورع ثم انهمكوا في أكل أموال الناس بالباطل كما هو مبسوط في موضعه، وكذا الحجاب والاستتار، فقد آل الأمر بمتأخريهم إلى التجرُّد من الثياب وكشف العورات كما في مجاذيبهم؛ فمنهم من أطربه السماع، فمزق الثياب، وخرج عارياً إلى الصحراء[14]، ومنهم « شعبان المجذوب كان عرياناً لا يلبس إلا قطعة جلد يغطي قُبُله ودُبُره فقط.. وكانت الخلائق تعدُّ رؤيته عيداً»[15]!
ومن بوائق زنادقة الصوفية أن «الفاجر» التلمساني يجيز نكاح المحارم، ويقول: الجميع عندنا حلال - يعني نكاح الأم والأجنبية - ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام. فقلنا: حرام عليكم[16].
وهكذا جعل هذا الزنديق المأفون لزومَ الشرع المنزَّل حجاباً.
إن الحجاب حقيقة هو الإعراض عن محبة الله - تعالى - وقصده وعبادته، وتنكُّب سبيل السُّنة والاتباع.
كما شرحه ابن القيم قائلاً: «إذا دعى الله عبده إلى معرفته ومحبته وشكره، فأبى العبد إلا إعراضاً وكفراً، قضى عليه بأن أغفل قلبه عن ذكره، وصدَّه عن الإيمان به، وحال بين قلبه وبين قبول الهدى، وذلك عدلٌ منه فيه، وتكون عقوبته بالختم والطبع والصدِّ عن الإيمان كعقوبته له بذلك في الآخرة مع دخول النار، كما قال - تعالى -: {كَلاَّ إنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّـمَحْجُوبُونَ {15} ثُمَّ إنَّهُمْ لَصَالُوا الْـجَحِيمِ} [المطففين: 15 - 16] فحجابه عنهم إضلال لهم وصد عن رؤيتهم وكمال معرفته، كما عاقب قلوبهم في هذه الدار بصدِّها عن الإيمان» إلى أن قال: «وقوله - تعالى -:
{ وَإذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا } [الإسراء: 54]، والمعنى: جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجاباً يحول بينهم وبين فهمه وتدبُّره والإيمان به «فالحجاب يمنع رؤية الحق»[17].
«فنسأل الله - تعالى - علماً نافعاً فهو الأصل؛ فمتى حصل أوجب معرفة المعبود - عز وجل - وحرك إلى خدمتـه بمقتضى ما شرعه وأحبه، وسلك بصاحبه طريق الإخلاص، وأصل الأصول العلم. وأنفع العلوم النظر في سير الرسول – صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 81]»[18].
=========================================
[1] فكر ومباحث، ص122 = بتصرف يسير.
[2] ينظر: فتاوى صديق حسن، ص107، والمنتظم لابن الجوزي: 13/174.
[3] ينظر: فتاوى صديق حسن ، ص108.
[4] شرح الصدور بتحريم رفع القبور، ص17.
[5] ينظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي، ص207.
[6] منهاج السنة: 5/329.
[7] انظر تفصيل ذلك في كتاب التصوف للمقدي، ص81 - 93.
[8] انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي ص421، ومجموع الفتاوى لابن تيمية: 11/405، 505، 537. 32/248.
[9] انظر الاستقامة: 1/305 - 319.
[10] انظر: طبقات السبكي: 3/369.
[11] مرض عقلي يورث فساداً في التفكير، وخللاً في التصورات.
[12] تلبيس إبليس، ص323 = باختصار.
[13] النبوات: 1/387.
[14] رؤية شرعية في الطبقات الكبرى للشعراني لأكرم عصبان، ص219.
[15] المرجع السابق، ص244.
[16] انظر: الجواب الصحيح: 3/201.
[17] شفاء العليل، ص 185، 201 = باختصار.
[18] صيد الخاطر لابن الجوزي، ص 83.