بقلم الدكتور سلامة عبد الهادي محمد
أستاذ في علوم إدارة الطاقة وعميد سابق للمعهد العالي للطاقة بأسوان
القرآن... كتاب عظيم فصلت آياته من لدن حكيم عليم لتخاطب كل البشر فى كل العصور على اختلاف حضاراتاهم و ثقافاتهم و علومهم بالبراهين العلمية و العقلانية و
المنطقية كي تؤكد بما يبصرونه و يدركونه و يعلمونه أن الله سبحانه و تعالى هو الخالق الحق لكل شيء فى هذا الكون... و أنه هو الله الذي لا إله إلا هو.. بناهـا، هذه
التأملات أمام سبع آيات من سورة النازعات، حيث نتدبر فيهـا بعض من فيض العلم الرباني و الهدى الإلهي الجلي فى كل كلمة و كل حرف منها، حيث يقول الحق فى الآيات
من الآية 27 و حتى الآية 32(ءأنتم أشد خلقا أم السماء.. بناهـا، رفع سمكهـا .. فسواهـا، و أغطش ليلهـا... وأخرج ضحاهـا، والأرض بعد ذلك.. دحاهـا، أخرج منها
ماءهـا... ومرعـاهـا، والجبـال أرساهـا، متاعا لكم... ولأنعامكم ) هكذا تدحض هذه الآيات بأبلغ الكلمات والعبارات وبأدق الأدلة العلمية والعقلانية حجج من ينكرون قدرة الله
الحق على إعادة نشأة الإنسان، هؤلاء الذين يجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير... فيعقد الحق مقارنة بين إنشاء هذا المخلوق الضعيف أو شدة نشأته مع نشأة هذا
الكون المتسع الفسيح.
تبدأ الآيات بسؤال يوجهه الخالق إلى من ينكرون قدرة الخالق على نشأتهم مرة أخرى، باستفهام يثير الفكر ويختبر المعلومة ويطرح المشكلة فى الإطار الذي لا مرد له ولا قدرة
على إنكاره... ثم يأتي بالمعلومة الصادقة والمنطق العلمي والعقلاني الحق ليدحض كل حجج الكافرين والمتبجحين و المنكرين... إن من ينكرون قدرة الخالق على بعث
أجسادهم مرة أخرى يستحقون أن ينظر إلى كيانهم كمنشأ مـادي فقط و لا ينظر إلى كيانهم الآدمي الذي أكرمه الله... فلهذا تعقد الآيات مقارنة بين القدرة المطلوبة لإعادة هذا
المنشأ الآدمي بشدته المحدودة، والقدرة التي أنشأت وسخرت هذا الكون الفسيح كي يحيا ويستمتع فيه الإنسان... هذا الكون بسمائه وأرضه و ليله و نهـاره وجباله وأنهـاره
وسهوله ومراعيه... فجاالسماء.استفسار المنطقي والبلاغي فى كل كلمة بل كل حرف: ءأنتم أشد خلقـا... أم السماء ... هذه السماء فى امتدادها اللانهائي الذي تعجز أبصارنا
وعقولنـا عن تخيل امتدادهـا... هذه السماء فى انتظامهـا و بروجهـا ونجومهـا و حاراتهـا ... هذه السماء فى جمالهـا و بهـائهـا... هل قارنا حجم الأرض التي نحيا عليهـا
بحجم الشمس إلى نراها على هيئة كرة لا يزيد قطرها عن ¼ متر ... إن حجمهـا الحقيقي قدر حجم الأرض أكثر من مليون مرة.... هل تخيلنـا أن حجم الأرض قياسا لحجم
السماء التي نبصرها حولنا يعادل حجم حبة رمل واحدة بالنسبة لحجم صحراء إفريقيا بأكملهـا... هذه الأرض التي يحيا عليهـا كل هؤلاء البشر ببحارها ومحيطاتها و جبالها
وقاراتهـا مجرد حبة رمل فى صحراء كبرى قياسا بحجم الأرض بالنسبة للسماء... من أشد خلقـا وأكبر حجمـا و أعظم بنيانا... ثم يضع الخالق أمامنا هذه الحقيقة القاطعة، إن
هذه السماء التي نراها أشد خلقـا هو وحده الذي وضع لبناتهـا و نظم بنيانهـا بأمره بكلمة واحدة واضحة .بنـا...حتى لا تتيه العقول ولا تنحرف الأفكـار فى نظريات... يعلن
الحق أنه هو الذي خلقهـا من العدم و وزع لبناتهـا فى الكون بكل الدقة والانتظام فجاء بنيانها شديداً متراصاً بانتظام لا يتغير و لا يتبدل... بناهـا.نظريات العلمية فإن هذا الكون
قد ابتدأ محدوداً للغـاية ثم جاءت إرادة خالق قدير وضعت لبناته الأساسية بهذا الأمر البين... بناهـا ... ثم أخذ هذا البنيان يتمدد ويتوسع ليملأ هذا الامتداد اللانهائي... وتسمى
هذه النظرية بتمدد الكون... ولا تجد هذه النظرية العلمية مفراً من الاعتراف أن هذا التمدد تم بيد وإرادة خالق واحد لأنه جاء موحداً بنفس اللبنات و القوانين والذرات
والعناصر والمركبات.. خامات واحدة نشأت منهـا جميع النجوم... مجرات متشابهة وحارات متكررة وقوانين ثابتة ونماذج مقلدة... وهكذا صاغ الله هذه الحقيقة بوضوح كامل
و دقة فائقة... جاءت بقول الحق... رفع سمكهـا... أي أن الله هو الذي زاد ومد ورفع سمك هذه السماء أو عرضهـا بقدرته و حكمته و أمره... وعلى قدر علومنا فإن هذا
الامتداد قد جاء من توسع المدارات والمجرات والحارات فى هذا الكون الفسيح... وكي يحتفظ هذا التمدد الكوني بثباته واستقراره، فلابد أن تتزن وتتساوى قوى الجذب والتنافر
أو الطرد والشد بين مكوناته من نجوم وكواكب ومجموعات ومجرات وأبراج، كي تصير حركة الأفلاك فى السماء إلى ما صارت إليه من انتظام دون إخلال... ومن ينظر
إلى الحسابات الفلكية التي تقوم بهـا الشهور والفصول والمدارات، فيجد أنهـا جميعاً تعتمد على استقرار و ثبات هذه الأفلاك ، لا بد وأن يشعر أن هناك ميزاناً إلهيـاً قد ساوى
بين هذه القوى وأحكم إخضاعهـا للقوانين التي سنهـا فاستوت على ما حدد لهـا من أفلاك والتزمت على ما يسر لهـا من مسارات وما هديت إليه من مجريات ... فصار
للسمـاء هذا الكمال و الاتزان... فسواهـا.اء القرآن بما يقر ما ذهبت إليه فطرتنا وعلومنا واعترافنا بوجود هذا الميزان الإلهي فى كل أرجـاء هذه السماء بهذا القول الفصل..
فسواهـا ... نعم، لم يحفظ لسمائنا هذا الاستقرار والكمال بالرغم من اتساعها و امتدادها إلا أن الخالق غمرها برحمته و حكمته و قدرته... .. فسواهـا... فسواهـا.يحفظ
لسمائنا هذه الأمن فى أرجـائهـا والاستواء فى أركانهـا بالرغم من لانهائيتها إلا أن الله غمرهـا بعدله وسننه ولطفه... فسواهـا ... و الآن... ءأنتم أشد خلقـا ؟