المستقبل بين الأحلام والواقع
د . سلمان بن فهد العودة
إن طبيعة الإنسان تأرز به إلى تطلع المستقبل واستشرافه، ومحاولة استشفاف الحجب المضروبة أمام عينيه عما ينتظره في مقبلات الأيام، خصوصاً حينما يعاني هذا الإنسان من الحرمان والبؤس أو يشتكي المظالم العالمية التي تجعل الواقع مظلماً أمامه، فيطرق أسباب الغيب حينما تغلق في وجهه أسباب الشهادة وأبوابها، وهذه فطرة إنسانية، وأستار غيب الله دون العواقب، فالإنسان الساذج في الأزمنة السحيقة كان يستخدم الكهانة والسحر والعرافة والتنجيم والحظ والضرب وقراءة الفنجان وضروب الشعوذة لتلمس أخبار الغيب والمستقبل وأسراره، ولا يزال عوام المسلمين وكثير منهم يتبع أشكالاً من المبالغة في التنبؤ بالمستقبل، وحتى الذين ينشغلون بتفسير الرؤى والأحلام يتعدون الاعتراف الطبيعي المعتدل بالرؤى وتفسيرها إلى الاحتراف، أي: جعل ذلك حرفة تهدر فيها الأوقات والأيام وتشغل فيها العقول دهراً طويلاً.
وهناك نوع من استشراف المستقبل يعتمد على الرؤية الفكرية والتحليل والدراسة الاستراتيجية، من خلال معطيات الواقع ودلائله لفتح آفاق المستقبل وطرح الخيارات والبدائل ودراسة الإمكانيات، وكيفية التعامل مع ذلك كله، وهذا الأخير هو أعمق ما نحتاجه في هذا العصر، لبناء عالم واقعي يعتمد على أسباب الأرض ويرتجي بركات السماء ليمارس عملية إنقاذ الأمة على مكث وأناة.
وليس ذلك إنكاراً للرؤى والأحلام، بل وضع لها في موضعها الشرعي والطبيعي، والناس إزاء الرؤى والأحلام أنواع:
الأول: من لا يؤمن بالرؤى ولا يعترف بها أو يجعلها محصورة في زمان وأشخاص، وهذا الرأي تردُّه نصوصٌ كثيرة، أصرحها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا من الله) أخرجه البخاري ومسلم.
الثاني: الذي يغرق في موضوع الرؤيا والحلم فيجعل ذلك عادة له، ويتتبع كل مناماته، ويستوضح عنها، وربما سأل عنها أكثر من مفسر، وذلك نوع من المبالغة والإشغال للنفس والناس بأشياء في أحسن أحوالها تسرّ ولا تغر -كما يقول أحد السلف-.
الثالث: الذي يتعامل مع الرؤى تعاملاً معتدلاً، فليس هناك إنكار لها، أو مبالغة بشأنها، فما من إنسان إلا ورأى رؤيا بعضها وقع وبعضها لم يقع، ونوع منها إيجابي وآخر سلبي، وأكثر المنامات تتوزع بين حديث النفس وأضغاث الأحلام والحلم الذي من الشيطان ليبث فيه الرعب والتشويش والإشغال، وقليل منها يقع في دائرة "الرؤيا" التي تحتاج إلى تفسير، وحتى هذا النوع الأخير فهو مساعد على معرفة الواقع، وليس عاملاً رئيسياً في التعامل مع هذا الواقع.
ذكر بعض أصحاب التراجم قصة عن أحد الفقهاء أنه جاءه أحد المسلمين وأخبره بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام يقول له بأن شعبان هذه السنة تسعة وعشرون يوماً، فقال الفقيه ببديهته وذكائه: إن الذي رأيته في مناك رآه الصحابة في واقعهم وقال لهم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين).
إننا يجب أن نقيم اليقظة قبل أن نقيم المنام فأوقاتنا في الواقع أهم بكثير من المنام، فيحتاج المسلم أن يستثمر وقته في قراءة ونفع وعمل صالح وعلم نافع وحوار جاد وتفكير مثمر، أما أن تذهب يقظتنا أدراج الرياح في غير فائدة بينما نعطي هذه الأهمية لأحلام المنام فهذا بخس لأنفسنا وللناس.
إن هذه الأزمات العظام والمظالم الكبار التي تطال الأمة الإسلامية فتحيل وجهها عبوساً كئيبا تولّد كمًّا هائلاً من الرؤى والأحلام والاهتمام بها، فكل مكروب لا يجد في الواقع موطئ قدم، ولا يرى أملاً رحيباً يلجأ إلى كل ألوان الخيال وأحلام اليقظة وأحلام المنام بدل أن يسعى نحو النجاح الشخصي والعلمي والواقعي.. هذا على المستوى الفردي والجماعي بل والأممي، ولذلك ترى اهتمام السجناء المعزولين بذلك، يقول أحدهم:
خرجنا من الدنيا ونحن من اهلها
فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة
عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا
ونفرح بالرؤيا فجلُّ حديثنا
إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
فإن أحسنت لم تأت عجلى وأبطأت
وإن قبحت لم تحتبس وأتت عجلى!
وقد يستغل الشيطان الأحلام ليبث فيها تخويفه وتخريفه للمسلمين، يقول تعالى: "إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا..".
ولو أن الناس يسألون عن أحكام الشريعة كما يسألون عن الرؤى لأصبحوا فقهاء، ولو كانوا يسألون في القضايا السياسية لأصبحوا محللين ناجحين.
وبعض المعبرين مع الزمن يتحولون من معبرين فقط إلى مستشارين في قضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية، وقد يتحول بعضهم إلى فقيه أو إلى محلل، وهذه إحدى المشكلات الموجودة في المجتمع، فافتقاد الحس التخصصي يصنع فكرة "الشيخ الشمولي" الذي تسند له كل أمور الحياة التي يعرفها أولا يعرفها، فقد يكون الإنسان فتح له في جانب معين وبقدر معين، لكن الناس بطريقتهم في التعامل مع القضايا والأشخاص ينقلون هذا الإنسان إلى أفق قد لا يطيقه فيرتكب فيه أخطاء واضحة، والناس بدورهم يوسعون دائرة عمله مع الوقت ليصبح رجلاً ملحمياً يحدثك عن الجمل وما حمل وعن النقير والقطمير.
إن علينا الاعتراف بالرؤيا وأنها من عند الله، و تحض على الخير في الواقع كما أن علينا -في الوقت ذاته- عدم احتراف ذلك والاشتغال به حتى لا تضيع علينا فرص الواقع المتاحة, ورسولنا صلى الله عليه وسلم في حجه إذا وجد فجوة نصّ، أي: أسرع، ففجوات الواقع المعاصرة تحتاج إلى الكثير من السرعة واستغلال الوقت لتحقيق طاعة الله ورسوله أولاً، وعمارة الأرض ثانياً، ونفع الناس والمسلمين.
salman@islamtoday.net
15/8/1427