بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على إمام العلماء، وقدوة الدعاة والمجاهدين، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أمابعد،،،
إن من جوانب تدبر القرآن الكريم: تتبع السنن والعقوبات التي وقعت على الأمم، بسبب انحرافها عن الصراط المستقيم، وهذه العقوبات كثيرة متنوعة قص الله بعضها في كتابه، وأمر بتدبرها، وأخذ العبرة حتى لا نقع فيما وقعوا فيه، فيحلّ علينا ما حلّ بهم. وذكر سبحانه بعض العوامل التي إذا أخذ بها الأفراد والمجتمعات والأمم؛ رفعت عنهم العقوبات ودفعت، قال سبحانه:{ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ[137]}[سورة آل عمران].
ولما قص لنا حال الأمم الماضية أمرنا بأخذ العبرة وعدم السير على طريقهم ومنهجهم، فقال سبحانه: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[69]}[سورة التوبة].
إن الأمة في الأزمنة المتأخرة تعرضت لعقوبات ربانية -وهي في ازدياد- ونحن نعيش مرحلة صعبة، ومن تدبر حال الأمة وحالها مع هذه الأزمات، يأخذه الخوف والعجب من صنعها ومواقفها، وإن المخرج من هذه الفتن لن يكون إلا بالعمل بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ففيهما النور والهدى، ومن خلال تدبر كتاب الله في معرفة الأسباب والعوامل لدفع العقوبات عن الأمم نخلص إلى أهمها، وهي كالتالي:
السبب الأول:الإيمان بالله وبوعد الله: وعد الله أن أي أمة آمنت بالله حق الإيمان، ولم تفرط بهذا الإيمان الذي هو سر قوتها ونصرها على أعدائها، وعدها بالنجاة وقت الأزمات، فقال:{ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ[103]}[سورة يونس]. ويقول سبحانه:{ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ[18]}[سورة فصلت].
السبب الثاني: الإصلاح، والدعوة إلى الله، ومحاربة الفساد: قال سبحانه: [فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون]هود[116-117] وتدبر هذا السبب العجيب للنجاة [النهي عن الفساد والإصلاح ] ولايمكن إصلاح من غير نهي عن الفسادوهذا بنص القرآن. ، والإصلاح يبدأ من أنفسنا فإذا صلحت استطعنا إصلاح غيرنا فالله الله بتقوى الله عزوجل فإن لن يغير حالنا وينجينا إلا إذا بادرنا بإصلاح أنفسنا قال سبحانه:{...إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...[11]}[سورة الرعد].
والخطير في الأمر أن سبب هلاك الأمم السابقة هو ردّ ورفض دعوة المصلحين والناصحين، قال سبحانه:{ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى[48]}[سورة طه]. فالعذاب على من أعرض، ولم يستجب للناصحين. وقال سبحانه:{ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ[14]}[سورة ص]. وقال سبحانه:{ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ[136]}[سورة الأعراف].
السبب الثالث: البعد عن الغفلة واللهو والعبث، والاستمرار على الطاعة والذكر: قال سبحانه:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[96]أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ[97]أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ[98]أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ[99]}[سورة الأعراف].
ويقول سبحانه مبينًا أن الغفلة والنسيان سبب من أسباب العقوبة:{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ[44]}[سورة الأنعام].
قال الحسن رحمه الله:' مكر بالقوم ورب الكعبة أُعطوا حاجتهم، ثم أُخذوا'. ويقول قتادة رحمه الله:' بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغِرّتهم ونعمتهم فلا تغتروا بالله، إنه لا يغتر إلا القوم الفاسقون'.
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ[44]}[سورة الأنعام].]رواه أحمد.
السبب الرابع:التوبة والاستغفار من الذنوب، والإقلاع عنها فرادى وجماعات، وعدم المجاهرة والإعلان بما يغضب الله؛ فإن المعاصي نذير شؤم على الأمة كلها: يقول سبحانه:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[33]}[سورة الأنفال]. قال ابن عباس في تفسير هذه الآية:'كان فيهم أمانان: النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم، وبقي الاستغفار'.
والرسول صلى الله عليه وسلم لما سألته زوجه رضي الله عنها، فقالت: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ قَالَ: [ نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ]رواه البخاري ومسلم. والخبث هو كل ما يغضب الله من المعاصي والموبقات والجرائم التي يعلن بها ويسر.
السبب الخامس: الدعاء والتضرع والاستغاثة بالله: فإن الله لا يرد من سأله:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ...[62]}[سورة النمل]. ويقول سبحانه:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ...[60]}[سورة غافر]. وقد بين سبحانه أن سبب هلاك بعض الأمم تركها التضرع واللجوء إليه وقت الأزمات والحاجات، فقال سبحانه:{ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[43]}[سورة الأنعام].
ويقول سبحانه:{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ[94]}[سورة الأعراف]. يقول الحافظ ابن كثير:'وتقدير الكلام: أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا فما فعلوا شيئاً من الذي أراد الله منهم '. والدعاء من أعظم مظاهر عبودية المؤمن لربه، وفيها يظهر حاجته وعجزه وذلته بين يديه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل عند نزول النوازل والحوادث يهرع لدعاء ربه، والتضرع بين يديه .