كتب الشيخ الشاعر مصطفى قاسم عباس مقالا في جريدة الفداء عنوانه :
(ومن الشّعر ماأضحك) هذا نصه:
الفداء الثقافيالثلاثاء: 30-9-2008
عندما يذكر الشعر الظريف... فكلنا يتذكر الشاعر الشاب الظريف، وعندما يذكر الشعراء الذين غرسوا البسمة على وجوه من حضرهم، فلابد من ذكر أبي دُلامة والحطيئة وغيرهم من الشعراء. فأبو دلامة شاعرٌ يضحك القوم، ويدغدغ مشاعرهم.
فقد «دخل على المهدي وعنده اسماعيل بن علي، وعيسى بن موسى ، والعباس بن محمد، وجماعة من بني هاشم ، فقال له المهدي: والله لئن لم تهج واحداً ممن في هذا البيت لأقطعن لسانك، فنظر إلى القوم وتحيّر في أمره، وجعل ينظر إلى كل واحد ، فيغمزه بأن عليه رضاه، قال أبو دلامة، فازددت حيرةً، فما رأيت أسلم لي من أن أهجو نفسي، فقلت:
ألا أبلغْ لديك أبا دُلامهْ
فلستَ من الكرام ولاكرامهْ
جمعت دمامةً وجمعت لؤماً
كذاك اللؤم تتبعه الدّمامهْ
إذا لبس العمامة قلت قرداً
وخنزيراً إذا نزع العمامهْ
فضحك القوم ، ولم يبق منهم أحد إلا أجازه» «1» وأصبحنا نرى في الشعراء من يتحدث عن داره ومصائبها، بطريقة ساخرة مضحكة، كابن الأعمى ومنهم من يتحدث عن زوجته وصولتها، أوعن ثوبه البالي، أو عن حماره وفرسه ومايعانيه، أو حتى من الاصطبل «فصفيُّ الدين الحِلّي يُضمّن من معلقة امرئ القيس في قصيدته فيقول:
رأى فرسي إصطبل عيسى فقال لي:
«قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل»
به لم أذق طعمَ الشعير كأنني
«بسقطِ اللوى بين الدخول فحومل»
تقعقعُ من برد الشتاء أضالعي
«لما نسجتها من جنوبٍ وشمأل»
وبعضهم يقول في وصف امرأة:
لها جسمُ برغوثٍ وساقا بعوضةٍ
ووجٌه كوجهِ القرد بل هو أقبحُ
إذا عاينَ الشيطان صورةَ وجهها
تعوّذَ منها حين يمسي ويصبحُ
فنحن نعلم أننا نتعوذ من الشيطان الرجيم وشرّه، لكنّ الشاعر جعل الشيطان نفسه يتعوذ منها صباح مساء!! حتى دخول الحمام حوّله بعض الشعراء إلى صورة مصغرة لدخول سقر، وفيها المجرمون ولم ينس الاقتباس عندما يقول:
وحمّامٍ دخلناه لأمرٍ
حكى سقراً، وفيها المجرمونا
فيصطرخوا يقولوا:أخرجونا
فإنْ عدنا فإنا ظالمونا»«2»
- كما أنّ لشعراء العصر الحديث نصيباً وافياً في هذا اللون الشعري، فأنت عندما تقرأ معي القصيدة التالية لابد أن ترتسم البسمة على وجهك، هذا إن لم يغلبك الضحك، فقد «كان للأستاد عثمان لبيب» حمارٌ يركبه في ذهابه إلى المدارس بالقاهرة، فسرقه اللصوص، وبلغ الخبر «محمود سلامة» صاحب جريدة «الواعظ» فرثى الحمار المسروق، وواسى صاحبه بقوله
: قفْ بسوق الحمير وانظر مليّا
هل ترى أدهماً أغرّ المحيّا
خلسته يد اللصوص صباحاً
موكفاً ملجماً معدّاً مهيّا
فخلا اصطبله وأصبح قاعاً
صفصفاً خاوي العروش خليّاً
كان ياحسرتا عليه صبوراً
قانع النفس راضياً مرضيّا
كم ليالٍ على الطّوى قد طواها
حامداً شاكراً ولم يشكُ شيّاً
ليت شعري! أين الأمان وهذا
جحشُ عثمان قد عدمناه حيّا؟!
كان عوناً له إذا رام ظعناً
وخليلاً لدى المقام صفيّا
كان إن قلت «هِشْ» أجابك طوعاً
وإذا قلت «حا» انتضى سمهريّا
لك فيه العزاءُ عثمان أمّا
سالبوه فسوف يلقون غيّا«3»
فلله درّ الشاعر! حيث جمع بين سلاسة الشعر الظريف المضحك، وبين رصانة التركيب، وجزالة الألفاظ. والشاعر محمود غنيم عندما سرقت محفظة صديقه، واساهُ بهذه المصيبة، التي جعلها خطباً جللاً، ومصيبة من أعظم المصائب ، فأتى بهذه الأبيات اللطيفة معزيّاً صديقه الشاعر:
هوّن عليك وجففْ دمعك الغالي
لايجمع الله بين الشعر والمال
من أين أصبحت ذا مال فتسلبه
ياأشبه الناس بي في رقّة الحال
فيالها صُرّةً من جيبك انطلقتْ
وأنت أحوجُ مخلوقٍ لمثقال
عوّذ نقودك واعقد حولها عُقداً
وثيقة تتحدى كلّ حلال
قالوا: خلتْ يده من كل ماملكتْ
فقلت: بل رأسه من عقله خالِ
ياليت شعري!! ماذا أنت صانعهُ؟!
أتزمع الصوم حتى شهرك التالي
أقسمت: ماسلبت تلك النقود يدٌ
لكنها أبقتْ من جيبك البالي
الذئب لايشتهي لحم ابن جلدته
فكيف أوقع نشّال بنشّال؟!«4»
فكان لهذه القصيدة أثرٌ عظيم في تخفيف المصيبة، والرضا بقضاء الله وقدره، فكيف لو كانت المصيبة أعظم من ذلك؟!! وهكذا كنا في جولة مع قصائد مضحكة، سلّتنا عما نحن فيه من هموم العيش، وضنك الحياة، ولابد أن نتذكر أخيراً قول الله تعالى في كتابه العزيز: «وأنه هو أضحك وأبكى» النجم«43»
مصطفى قاسم عباس
1- المستطرف في كل فن مستظرف، بهاء الدين الأبشيهي، ط:3، 1428-2007م- دار صادر: ص:317
2- المصدر السابق،ص:319-320 بتصرف 3- الجواهر والدرر فيما نفع وندر، محمد خير رمضان يوسف ط:1 ،1428-2007م- دار البشائر الإسلامية، ص405 4- المصدر السابق، ص406