بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمــــة
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وأصلي وأسلـم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين .
أما بعد ، فهذه كلمات لعلها أن تكون مساهمة مني في وقت قلّ فيه المدافعون وكثر فيه الشاكُّون والمهاجمون . وبعد
فقد قال الله تعالى : (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا) ([1])
فإن من رحمة الله تعالى على عباده , أن أظهر لهم شرعه وبينه على لسان رسوله "صلى الله عليه وسلم " ولم يقبضه إلا بعد أن أدَّى الأمانة وبلغ الرسالة , واستشهد الناس في يوم الحج الأكبر فشهدوا على ذلك . وأمره بالبلاغ و ضَمِنَ له العصمة كما قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)([2])
ثم قام الصحابة رضوان الله عليهم على نفس الأمر بعد موته بنفس الفهم الذي أراده الله ورسوله من خلقه على أغلب ظنهم في غير أمور الاعتقاد ، فما اجتمعوا عليه فهو الحق الصائب , وما اختلفوا فيه فيجتهد فيه العلماء , وهكذا أحوال الناس فإن في طبائعهم الاختلاف , وقد قال عبد الله بن مسعود : (فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن) رواه أحمد في مسنده (1-3600) ، والطبراني في الأوسط (4-3602) ,
ثم تربى على أيديهم أناس بلَّغوا هذا الأمر وبلَغوا فيه الغاية ، ثم ظهر الأئمة وظهرت المدارس الفقهية وانعقدت الإجماعات وتمت الأصول والقواعد لهذا الدين وظل الأمر على ذلك حتى ظهرت الفرق التي كم فرَّقت بين المسلمين ، فقيض الله العلماء فردُّوا عليهم ودافعوا عن دين الله خير دفاع ، حتى توانَىٰ العلماء وقام الأعداء باحثين عن كل نقيصة في الدين ، ولكن هيهات ، هيهات عما يبحثون ثم قام من المسلمين أناس يتبعون هؤلاء يأخذون عنهم دينهم ، و كما كان أصل الفرقة في بادئ الأمر راجعا إلى اليهود والنصارى , كان كذلك أيضا في نهاية الأمر .
قال أبو الفرج ابن الجوزي : (اعلم أن إبليس يدخل على الناس في التلبيس من طرق منها ظاهرة ، ولكن يغلب الإنسان إيثار هواه فيغمض على علم يذلِلُه . ومنها غامض وهو الذي يخفى على كثير من العلماء"
وقد ركب المجدّون ركب النائمين , وخذل التابع المتبوع , تأخر المسلمون , وقد فُقِدوا حينما طُلبوا , وقد صار فيهم أناس أتباع لكل ناعق وصاروا بلا هوية تميزهم ، وطلبوا النجاة من الغرقَى والهلكَى فقام الكفار واستغلوا هذه النومة وهجموا في سبتةٍ من المسلمين وفازوا بجهل المسلمين وأصبحوا هم المعلمين وهم القدوة فردد المسلمون ما يقولون هؤلاء الأساتذة الكفار فما أقروا من ديننا ورضوا منه ومن الدين أقررناه ورضينا به ، وما يخالف ذلك خذلناه ورددناه .
فإن الطبع لص سارق فإذا تُرك مع أهل زمان سرق من طبائعهم فصار مثلهم ، فهؤلاء وللأسف قد سرقوا أسوأ ما يوجد في هؤلاء ، وهم سرقوا منا أحسن ما عندنا من النظم والمعاملات , ونحن أخذنا سوء الخلق والتقليد الأعمى والعُريّ والخلاعة والأفكار المسمومة , وأخذوا من عندنا العلم والأخلاق فانتفعوا بعلمنا وبأخلاق ديننا ، فهؤلاء وهؤلاء يتلذذون بالنظر لبعضهم البعض وأصبحوا إذا اجتمعوا كان هذا هو الفخر عندهم كما قال الشاعر:
يتكالبان على الحرام وأهله فعل الكلاب بجيفة اللحمان
وهكذا أصبح الأمر بعد أن كان الأسوة والقدوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح الغرب هم القدوة وقد قيل :
يا ويــحَ للشرق من أمر به لَبِكٌ كالـهمﱢ مُلتبسٌ في رأي حـيران
من كل معضلة ترمي بمعضلــة رمىَ النحوس لذي بؤسٍ بحرمان
وقد ضُيِّعت الأمانة ووُسِّد الأمر لغير أهله وتكلم الرويبضة في أمور العامة ، شُربت الخمور ورُفع العلم بموت العلماء الأفذاذ وبكثرة الكتب وتجرَّأ العوام على كتب أهل العلم ، واشتغل الناس عن الطلب بالتجارات فساد الجاهل و انتشر الجهل وكثرت الفواحش وأصبح الميزان في أيدي من لا خلاق لهم ولا مبدأ فخرجوا عن العدل وأصبحوا من القاسطين وتكلموا على الشرفاء ، فخوّنوا الأمين وكذَّبوا الصادق وجهَّلوا العلماء ، فكم من سفيه طَالَبَ بتنقيح البخاري وكُتُب السنة ، وكم من جاهل رد أحاديث السنة ليس إلاّ أن المقياس عنده هواه فما وافق قَبِلَه وما خالف فهو بزعمه استغفالاً للإمام البخاري رحمه الله وُضِعَ في غفلة منه فهؤلاء وأمثالهم في جريمة الذقن([3]) لما هم فيه من الغفلة ، فهذا إن أَظهر فإنما يُظهر ويوضح مدى الجهل والحمق الذي هم فيه ، وقد تكلم من لا خلاق له في بعض أحاديث السنة واستغلوا ما نحن فيه من غفلة المسلمين وجهلهم .
وظن هؤلاء بأنهم قد وقعوا على عورة الدين وجاءوا بما لم يأت به أحد من العالمين وعلموا ما لم يعلمه المسلمون .
المبحث الأول : الرضاع في الشريعة الإسلامية
تعريفة : هو التقام الرضيع بمص أو شرب أو سعوط (سعط : أدخله في أنفه)
حد الرضاع : هو وصول لبن آدمية بلعت سن الحيض ولو قطرة أو مختلطاً بغيره وإن قل دون الحولين بمص أو شرب أو سعوط بخمس مرات يقينًا عرفًا .
حكمه : الرضاع واجب للطفل في سن الرضاع مادام الطفل في حاجه إليه , وهو واجب في حق الأب , فإن قامت به الأم وجبت النفقة على الأب لمَ أرضعت له ولده , فإن رغبت الأم في إرضاع ولدها وجبت لها لقوله تعالى : (لا تضار والدة بولدها) .
المرضع : اسم من لها ولد ترضعه .
المرضعة: اسم يطلق على المرأة حال التقام الطفل لثديها .
حد الرضعة : يطلق اسم الرضعة (اسم مرة) على ما إذا التقم الطفل الثدي فامتص منه ثم تركه باختياره بغير عارض سواء شبع أم لم يشبع فإن أخذه وتركه مره أخرى ، فهذه تصبح رضعة جديدة.
شروط الرضاع المحرّم للزواج عند الفقهاء :
اشترط الفقهاء للتحريم بالرضاع الشروط الستة الآتية :
1- أن يكون لبن امرأة آدمية سواء أكانت عند الجمهور بكرًا أم متزوجة أم بغير زوج ، فلا تحريم بتناول غير اللبن كامتصاص ماء أصفر أو دم قيح ولا بلبن الرجل أو الخنثى المشكل أو البهيمة ، فلو رضع صغيران من شاه مثلاً ، لم يثبت بينهما أخوة ، فيحل زواجهما لأن الأخوة فرع الأمومة فإذا لم يثبت الأصل لم يثبت الفرع .
واشترط الحنابلة أن يكون بلبن امرأة صار لها لبن من الحمل ، فلو طلق الرجل زوجته وهى ترضع من لبن ولده فتزوجت بصبي رضيع فأرضعته حرمت عليه ، لأن الرضيع يصير ابنًا للرجل الذي ثار اللبن بوطئه .
واشترط الشافعي في المرأة أن تكون حيّة حياة مستقرة حال انفصال اللبن منها ، بلغت تسع سنين قمرية تقريباً ، وإن لم يحكم ببلوغها بذلك فلا تحريم برضاع المرأة الميتة والصغيرة ، أي أن لبن الميتة والصغيرة لا يحرم لكن لو حلبت المرأة لبنها قبل موتها وشربه الطفل بعد موتها حرم في الأصح لانفصاله منها وهو حلال محترم .
ولم يشترط الجمهور هذا الشرط فلبن الميتة والصغيرة التي لم تطق الوطء إن قدر أن بها لبناً يحرﱢم ، لأنه ينبت اللحم ، ولأن اللبن لا يموت .
2- أن يتحقق من وصول اللبن إلى معدة الرضيع ، سواء بالامتصاص من الثدي أو بشربه من الإناء أو الزجاجة ، وهذا شرط عند الحنفية فإن لم يتحقق من الوصول إلى المعدة ، بأن التقم الثدي ولم يُعلم أرضع أم لا ، فلا يثبت التحريم ، للشك في وجود سبب التحريم وهو الرضاع ، والأحكام لا تثبت بالشك .
واكتفى المالكية باشتراط وصول اللبن تحقيقاً أو ظناً أو شكًّا إلى الجوف من الفم برضاع الصغير ، فيثبت التحريم ولو مع الشك عملاً بالاحتياط ولا يثبت التحريم على المشهور بمجرد الوصول إلى الحلق فقط .
واشترط الشافعية والحنابلة وجود خمس رضعات متفرقات ، والمرجع في معرفة الرضعة إلى العرف ولا يشترط كونها مشبعة ولابد من وصول اللبن إلى الجوف .
3- أن يحصل الإرضاع بطريق الفم أو الأنف ، فقد اتفق أئمة المذاهب على أن التحريم يحصل بالوجور (وهو صب اللبن في الحلق ) لحصول التغذية به كالارتضاع ، وبالسعوط (وهو صب اللبن في الأنف ليصل الدماغ) لحصول التغذية به ، لأن الدماغ له جوف كالمعدة ، بل لا يشترط التغذية بما وصل من منفذ عال بل مجرد وصوله للجوف كاف في التحريم .
ولا يحصل التحريم عند الحنفية والشافعية في الأظهر والحنابلة في منصوص أحمد بالحقنة أو بتقطير اللبن في العين أو الأذن أو الجرح في الجسم لأن هذا ليس برضاع ولا في معناه فلم يجز إثبات حكمه فيه ، لانتفاء التغذية .
وقال المالكية : يحصل التحريم بحقنة تغذي أي تكون غذاء لا مجرد وصول اللبن للجوف عن طريق الحقنة وحينئذ يختلف ما وصل من منفذ عال فلا يشترط فيه الغذاء وما وصل من منفذ سفلى ونحوه فيشترط فيه التغذية .
4- ألا يخلط اللبن بغيره ، وهذا شرط عند الحنفية والمالكية ، فإن خلط بمائع آخر ، فالعبرة عند الحنفية والمالكية للغالب ، فإن غلب اللبن حرﱠم وإن غلب غير اللبن عليه ، حتى لم يبق له عند المالكية طعم ولا أثر مع الطعام ونحوه ، فلا يحرم ، لأن الحكم للأغلب ، ولأنه بالخلط يزول الاسم والمعنى المراد به وهو التغذية فلا يثبت به الحرمة ، ولا فرق عند المالكية بين الخلط بالمائع أو بالطعام .
واعتبر الشافعية في الأظهر والحنابلة في الراجح اللبن المشوب (المختلط بغيره) كاللبن الخالص الذي لا يخالطه سواه ، سواء شيب بطعام أو شراب أو غيره لوصول اللبن إلى الجوف ، وحصوله في بطنه .
ورأى أبو حنيفة خلافاً للصاحبين أن اللبن المخلوط بالطعام لا يحرﱢم عنده بحال سواء أكان غالباً أم مغلوباً ، لأن الطعام وإن كان أقل من اللبن ، فإنه يسلب قوة اللبن ويضعفه ، فلا تقع الكفاية به في تغذية الصبي ، فكان اللبن مغلباً معنى ، وإن كان غالباً صورة .
وإذا خلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى ، فالحكم للغالب عند أبى حنيفة وأبى يوسف ، فإن تساوى ثبت التحريم من المرأتين جميعاً للاختلاط .
وقال المالكية ومحمد وزفر : يثبت التحريم من المرأتين جميعاً سواء تساوى مقدار اللبنين أو غلب أحدهما الأخر وهذا هو الراجح والله أعلم ، لأن اللبنين من جنس واحد والجنس لا يغلب الجنس .
5- أن يكون الرضاع في حال الصغر باتفاق المذاهب الأربعة فلا يحرّم رضاع الكبير وهو من تجاوز السنتين وجماهير أهل العلم على ذلك ، وقال داود الظاهري : أن رضاع الكبير يحرم وكانت عائشة ترى أن رضاعة الكبير تحرم .
6- أن يكون الرضاع خمس رضعات متفرقات فصاعدًا ، هذا شرط عند الشافعية و الحنابلة ، و المعتبر في الرضعة العرف ، لو انقطع الطفل عن الرضاعة إعراضًا عن الثدي تعدد الرضاع ، عملاً بالعرف ، ولو انقطع للتنفس أو الاستراحة أو الملل أو الانتقال من ثدي إلى آخر أو من امرأة إلى أخرى أو اللهو أو النومة الخفيفة أو ازدراء ما جمعه من اللبن في فمه وعاد في الحال ، فلا تعدد ، بل الكل رضعة واحدة وإن رضع أقل من خمس رضعات فلا تحريم , وإن شك في عدد الرضعات بُنِيَ على اليقين ، لأن الأصل عدم الرضاع المحرم لكن في حالة الشك الترك أولى ، لأنه من الشبهات ، واستدلوا بأدلة ثلاثة :
أولها : ما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت (كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن فنسخن بخمس معلومات ، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن)([4]) والنسخ المقصود نسخ الحكم و التلاوة والإجماع منعقد على ذلك كما نقله النووي في شرح مسلم ( 10-27)
ثانيًا : أن علة التحريم هي شبهة الجزئية التي تحدث باللبن الذي ينبت اللحم وينشز العظام ، أي ينميه ويزيده وهذا لا يتحقق إلا برضاع يوم كامل على الأقل وهو خمس رضعات متفرقات .
ثالثًا : حديث (لا تحرم المصة والمصتان)([5]) وفى رواية (ولا الإملاجة والإملاجتان)([6]).
وقال المالكة والحنفية : الرضاع المحرم يكون بالقليل والكثير ولو بالمصة الواحدة للأدلة الثلاثة التالية :
1- عموم قوله تعالى : (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم)([7]) فإنه علّق التحريم بالإرضاع من غير تقرير بقدر معين فيعمل به على إطلاقه .
2- حديث (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)([8]) فإنه رباط تحريم بمجرد الرضاع ويؤكده آثار عن بعض الصحابة ، روى عن علي وابن مسعود وابن عباس أنهم قالوا : قليل الرضاع وكثيره سواء .
3- إن الرضاع فعل يتعلق به التحريم ، فيستوي قليله وكثيره لأن شأن الشارع إناطة الحكم بالحقيقة مجردة عن شرط التكرار والكثرة وتحقيق جزئية الرضيع من المرضعة بالقليل والكثير .
ويُعمل بهذا الرأي في مصر وليبيا ويعمل في سورية بالرأي الأول وهو الراجح والله أعلم ، لما فيه توسعة وتيسير على الناس ، فإثبات العدد كان بالسنة كما في حديث عائشة رضي الله عنها وعن أبيها وقد قيدت السنة هذا المطلق .
([1]) سورة النساء الآية (83)
([2] ) سورة المائدة الآية (67)
([3]) مثل يُضرب للبعير يحمل الحمل الثقيل فلا يقدر وينهض به فيعتمد على ذقنه .
([4]) رواه مسلم ( 2 - 1452 )
([5]) رواه مسلم ( 2- 1450 )
([6]) رواه مسلم ( 2 – 1451)
([7]) سورة النساء الآية (23)
([8]) رواه البخاري (2-2502 ) ، و مسلم ( 2 – 1445 ) .