بقلم: د. سامح عباس
أحداث متلاحقة تشهدها الساحة الليبية فى ظل حالة الكر والفر بين قوات الثوَّار الليبيين ونظام الرئيس الفاقد للشرعية معمر القذافي الذي لم يرتدع أو يتوانى عن استخدام كافة الوسائل والأسلحة المدمرة لإبادة شعبة وتشريده، مستوحياً سفكه للدماء وقتله للأبرياء من أقرانه السفاحين وقتلة الشيوخ والأطفال من قادة الكيان الصهيوني.
ومع تطابق وجه الشبه بينهما من حيث القتل والوحشية، واستمرار المواجهات العسكرية فى ليبيا بدأت تطفو مؤخراً على سطح الأحداث ملامح العلاقة السرية التى تربط بين القذافى وقيادات الكيان الصهيوني، خاصة بعد الأنباء التي تؤكد وجود كميات من الأسلحة المدمرة"إسرائيلية" الصنع استخدمتها قوات القذافي فى حربها الشرسة ضد الثوار فى بني غازي وفى أنحاء متفرقة أخرى من ليبيا؛ وربما هذه العلاقة التى ظل القذافي متكتما عليها لسنوات أبى الكيان الصهيوني الصمت على كشفها، ليثبت للعالم أن "إسرائيل" تقف إلى جانب القذافي، الخادم الوفي للغرب ومصالحه الاستراتيجية لمدة تزيد عن الـ 40عاماً، وذلك عندما كشف التليفزيون "الإسرائيلي" فى أوج المواجهات المسلحة فى ليبيا عن زيارة سرية قام بها وفد ليبى لتل أبيب إلتقى خلالها عدد من الشخصيات السياسية رفيعة المستوى فى الحكومة الصهيونية لنقل رسالة خاصة من معمر القذافى بهدف تحسين صورته عالمياً بمساعدة "إسرائيل"، فى مقابل قيامه بصرف تعويضاً لليهود الذين غادروا ليبيا وتركوا ممتلكاتهم فيها.
ورقة ضغط
هذه الصفقة المشبوهة لا يمكن استبعادها خاصة بعد التدخل الإيطالي وسعي رئيس وزرائها سيلفيو بيرلسكوني لوقف عمليات حلف الناتو ضد نظام القذافي. وربما زيارة الوفد الليبي لمدينة "نتانيا" الساحلية التى تضم عدداً كبيراً من اليهود ذوي الأصول الليبيين، لاستخدامهم كورقة ضغط على الحكومة الصهيونية للوقوف إلى جانب القذافي فى مواجهة الثوار، يفضح أبعاد الصفقة بين القذافي وقادة الكيان الصهيوني.
وفى محاولة للتغطية على تلك الزيارة بعد أن فُضح أمرها زعم مسئول أمنى صهيوني إن إقامة علاقات مع القذافى فى الوقت الراهن أمر غير مطروح أمام الحكومة "الإسرائيلية" لقتله أبناء شعبه بشكل بشع ونصبه المجازر هناك، واصفاً القذافى بالمنبوذ من العالم.
لقاء القذافي باليهود
ولم تكن تلك الزيارة هى الأولى من نوعها التى يرسل فيها القذافي مبعوثين عنه لتل أبيب، الأمر الذي يؤكد على وجود علاقات سرية تربطه بالكيان الصهيوني، حيث سبق له أن أرسل وفدا سرياً قبل عام ونصف لمساومة حكومة بنيامين نتنياهو لصرف تعويضات لليهود من أصل ليبي فى مقابل المساهمة فى تحسين صورته بين الدوائر الصهيونية فى الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما أكده يعقوب حجاج- وهو مؤرخ يهودي من أصول ليبية مقيم في "إسرائيل" ورئيس معهد دراسات وأبحاث يهود ليبيا- كاشفاً عن لقاء سري تم بين يهود ليبيين والقذافي مؤخراً في إيطاليا، لمناقشة إمكانية عودتهم للبلاد مرة أخرى، أو الحصول على تعويضات عن ممتلكاتهم التي تركوها في ليبيا، قبل رحيلهم عنها.وربما هذا يفسر الدور الذي تلعبه إيطاليا حالياً لوقف عمليات الناتو فى ليبيا.
الموساد والقذافي
لكن السؤال المطروح حالياً، هو إلى أي مدى وصلت العلاقات السرية بين القذافي و"إسرائيل"؟ وهل فعلاً الأخيرة تعمل على إنقاذه بهدف تنفيذ الصفقة المزعومة سالفة الذكر ؟ الإجابة على هذا السؤال ربما يكشفه لنا بوضوح حادث مقتل رئيس أركان جيش الثوار الليبي اللواء عبد الفتاح يونس، الذي لقى مصرعة بعد أقل من 48 ساعه من كشفه عن وجود علاقات سرية بين الكيان الصهيوني ونظام القذافي، وأن "إسرائيل" تمده بالسلاح والعتاد العسكري. الغريب هو أن قتل اللواء يونس جاء بشكل مفاجئ دون أن يتعرض لتهديدات مسبقة، خاصة وأنه يقيم وسط الثوّار، ولم تكشف أية تفاصيل عن الحادث أو منفذيه، وهو ما يثبت ضلوع الموساد الصهيوني فى تنفيذه كإحدى الخدمات المتفق عليها التى تقدمها تل أبيب للقذافي الذي تمنى قتل يونس بعد أن ترك منصبه كوزيراً للداخلية فى نظامه الاستبدادي، وكان انضمامه للثوار ضربة موجعة للقذافي نفسه؛ يؤكد ذلك تقرير نشره موقع ديبكا الالكتروني العبري المقرب من دوائر الموساد الصهيوني والذي زعم فيه أن قتل اللواء عبد الفتاح يونس تم بأوامر مباشرة من قائد الثوار الليبيين مصطفى عبد الجليل، ويمكننا تفسير ذلك على أنه محاولة مفضوحة من الموساد لتحقيق ثلاث أهداف رئيسية :
· إبعاد الأنظار عن إمكانية تورط الموساد فى تنفيذ عملية الاغتيال ، خاصة وأن عملية قتل يونس تشبه عمليات أخرى قام بها عملاء الموساد فى عدة دول أخرى.
· أغتيال اللواء عبد الفتاح يونس يمنح القذافي نصراً معنوياً يجعله أكثر إصراراً على مواصلة حملة الإبادة ضد شعبه، والصمود فى مواجهة الضغوط الدولية عليه للتنحي من منصبه.
· بث الفرقة والإنقسام بين قيادات الثورة الليبية، حيث أن توجيه أصابع الإتهام لأحد قيادات الثوار بقتل يونس كفيل بإجهاض الثورة الليبية المباركة، خاصة بعد الانجازات التى حققتها سواء على أرض الواقع بتحرير مساحات كبيرة من الاراضي الليبية وتطهيرها من قوات القذافي ، أو بحصولها على اعتراف دولي من جانب عدد كبير من دول العالم.
وربما الدقة التى انفرد بها موقع ديبكا فى وصف عملية اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس تثير الشكوك حيال تورط الموساد فى اغتياله، خاصة الإدعاء بأن عبد الجليل قرر اغتيال يونس لعدم مزاحمته له فى المفاوضات المزمع إجراؤها بين الثوار وحلف الناتو ومعمر القذافي حول إمكانية تسليم السلطة فى طرابلس.
تراجع أوروبي
ومما يكشف أبعاد التعاون بين الكيان الصهيوني والقذافي فى إجهاض الثورة الليبية زعمت دراسة صهيونية صادرة عن المركز الأورشليمي للدراسات العامة والسياسية بأن هناك شبه إجماع أوروبي على إبقاء القذافي فى موقعه، خاصة فى ظل غياب حل دبلوماسي وحسم عسكري للأوضاع الحالية فى ليبيا. وقالت الدراسة التى أعدها تسيفي مزائيل الخبير الاستراتيجي بالمركز وحملت عنوان "الغرب أمام ليبيا وسوريا" :"أن الغرب أصبح فى ورطة حقيقية اليوم فى ليبيا، بعد عدم تدخله العسكري فى سوريا التى يمارس فيها بشار الأسد مجازر وحشية يومية شعبه، وأن هناك أسباب عديدة قد تدفعه لسحب قوات الناتو التى أسهمت مع بداية عملها فى وقف تقدم قوات القذافي على الثوار، أبرزها أن الأوضاع السياسية فى كل من فرنسا وبريطانيا اللتان تقودان عمليات الناتو فى ليبيا لن تسمح بالتدخل البري هناك لإنهاء الوضع لصالح الثوار، خاصة وأن فرنسا – حسبما يقول الخبير الصهيوني فى دراسته- يقترب فيها موعد الانتخابات الرئاسية المقرر لها فى إبريل القادم، وأن الرئيس نيكولاي ساركوزي مهتم بخوض تلك الانتخابات وهو يحمل فى جعبته حل سلمي للأوضاع فى ليبيا، لاسيما وأنه هو الذي بادر بالحل العسكري فى ليبيا".
أخيراً نشير إلى أن هناك عدة حقائق لا يمكن استبعادها أو حتى إغفالها فى الوقت الراهن تؤكد على إمكانية وجود تعاون وثيق بين القذافي والكيان الصهيوني، وربما يكون اغتيال الموساد للواء عبد الفتاح يونس جزء منه، أبرزها استعداد القذافي- وطبقاً لتصريحاته- استعداده للتعاون حتى مع الشيطان لوقف ثورة الشعب الليبي ضده، وربما هذا الشيطان هو "إسرائيل"، إلى جانب الاتصالات التي سبق لنجله سيف الاسلام القذافي إجراؤها مع مسئولين "إسرائيليين" للوقوف إلى جانب والده فى هذه المرحلة الحرجة من حكمه. وهنا لا يمكننا إغفال الدور الذي يقوم به اليهود من أصل ليبي للتوسط بين الحكومة الصهيونية ونظام القذافي حتى قبل اندلاع الثورة الليبية، والذين تعاظمت أمالهم بالعودة إلى ليبيا والحصول على تعويضات مالية ضخمة بعد اندلاع الثورة، سواء بقى القذافي أم رحل.