<div align="center">حقوق الإنسان بين الواقع والمثال
ــــــــــــــ الخطبة الأولى ــــــــــــــــــ
الحمد لله فالق الحب و النوى ، المطلع على الضمير و ما حوى ، رشد بفضله من رشد و غوى بعدله من غوى ، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم السر و النجوى ، و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله بلغ الرسالة و أدى الأمانة فما نطق عن الهوى ، صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله و أصحابه و التابعين و من سار على نهجهم و اهتدى .
أما بعد :
فيا أيها الناس اتقوا الله حق تقاته و اعملوا بطاعته و مرضاته .
أيها المسلمون : إن قدر الإنسان عند الله لعظيم ، و إن مكانته لرفيعة ، فهو كريم في الأرض كريم عند أهل السماء .
لقد نفخ الله فيه من روحه ، و جعله في الأرض خليفة ، و أسجد له ملائكته معترفة بفضله و تميزه : " إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " .
بهذا التكريم الإلهي و بهذه النفخة الربانية أصبح بشراً سوياً و على سائر المخلوقات متميزاً .
و إن نقائصه و أخطاءه لا تهدر كرامته و لا تلغي مكانته ، و لقد قالت الملائكة المقربون : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " فجاء الجواب من العليم الأعلى : " قال إني أعلم ما لا تعلمون " بهذه النظرة ، و على هذا التوجيه بدأت القافلة الإنسانية تشق طريقها في هذه الحياة و تمارس مهمتها في الخلافة .
فالبشر المنبثون في قارات الدنيا أسرة واحدة و أصل واحد لا مكان فيهم لتفاضل في أساس الخلقة و لا ألوانها و لا لغاتها " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " ، " كلكم لآدم و آدم من تراب ... " ، " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " .
و نظراً لما يصيب الإنسان من ضعف و يتعرض له من مزالق فقد تعاهده ربه بمنه و فضله بإرسال الرسل إليه تترى تدله على الحق و تهديه إلى سواء السبيل .
و حينما أشرقت الأرض بنور الإسلام في الجزيرة كان العالم فيها و من حولها قد عصفت به المظالم و أحاطت به الأرزاء و المغارم ، و كرامة الإنسان في تلك الأصقاع و ما وراءها قد شوهها الظلم و الاستعباد . فجاء المسلمون بدينهم ـ و بإذن ربهم ـ فكانوا هم القادرين على محو هذا المنكر و نشر الحق و المعروف :
" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " .
هم القادرون على بسط ألوان العدل و الكرامة و الخير و الفضيلة مما لم يكن معهوداً في أسلافهم .
لم يكن خروجهم غزواً متسلطاً و لم تكن فتوحاتهم سلباً و لا اجتياحاً ، و لكنه كان جهاداً و مجاهدة ، أثمر السعادة للبلاد المفتوحة قبل أن يثمر الخير للفاتحين . و لم تمض برهة من الزمن حتى كان النابغون من الأجناس الأخرى يتقدمون الصفوف و يؤمون في المحاريب و يعتلون المنابر و يتسنمون المناصب في القرى و المدائن ، و أبناء الفاتحين من تحتهم آذان صاغية و رعايا طائعة .
لقد تآخوا في دين الله ، اجتمعوا على صدق المودة ، و تعاونوا على لأوى العيش فلا يبغي قوي و لا يبخل غني ، و لا يظلم ذو جاه ، و كل مؤمن لأخيه كالبنيان يشد بعضه بعضاً ، يحملون رسالة الحق ، انتفت عن عقولهم الخرافة ، و زل عن صدورهم الغل ، و تطهرت نفوسهم من الرذائل . يرفضون الهوان و ينشدون العزة .
هذه هي الحقيقة ، و هذا هو التاريخ و تلك هي مسيرة الإنسانية فما حال الإنسان اليوم ؟ و من هو الإنسان الذي يشقى عالم اليوم المتحضر من أجل حقوقه و ينادي بكرامته و رفاهيته ؟ و ما هي الموازين لدى المنصبين على حقوق الإنسان من هيئات و منظمات و مجالس ؟؟؟ .
يعيبون علينا ـ أهل الإسلام ـ تحكيم شرع ربنا ، و ينبزوننا بتطبيق حدود الله و حفظ محارمه . و هم يعلمون كما نعلم أن مبادئهم و أنظمتهم قد عجزت بتقدمها و تقنية وسائلها أن توقف سيل الإحرام و إزهاق النفوس و تحفظ حقوق الناس ؟؟؟ .
أما نحن في شريعتنا و تطبيقنا فإن لنا في القصاص حياة ، حياة و أي حياة حياة أعم و أشمل حياة تشمل المجتمع كله في رحمة واسعة غير مقصورة على شفقة محدودة نحو مستضعف أو أرملة أو طفل ، و لكنها رحمة عامة للقوى و الضعيف ، و الفرد و الجماعة ، و الدولة و الأمة ، و القريب و البعيد .
و ما الأمن و الرخاء المبسوطان في هذه البلاد ، و لله الحمد و الفضل ـ إلا خير شاهدة على صدق طريقنا و شدة قناعتنا و الإصرار في تمسكنا و استمساكنا ، و لو عتبت علينا ـ أهل الإسلام ـ منظمة العفو الدولية فعتبها مردود .
لماذا يوجه اللوم و الغضب و الاتهام إلى عالم الضعفاء و فئاته و يغض الطرف عن عالم الأقوياء و ممارساته ، قتل و سرقة و غصب و خطف و قذف بالسوء ، فلا ترى إلا غضاً عن السوءات ، و تهويناً من الجرائم ، و اعتذاراً عن الأخطاء ، تدفن القضايا ، و تتلون الحجج و يتعسف في البراءة ، بل يتحول الظالم مظلوماً و الطالب مطلوباً . أما الضعفاء فمتهمون بشراسة الطبع ، و همجية السلوك ، و سفك الدماء ، و إهدار حقوق الإنسان .
اليهود في الأرض المحتلة ، و الصرب في أرض البلقان و الهندوس في كشمير و مجرمون آخرون في بلاد شتى ، كلهم يمارسون القتل و الذبح و الاغتصاب و السفك و التصفيات العرقية و الدينية و كل ما هو محرم انسانياً و حيوانياً ، يمارسون ذلك ضد المسلمين و الضعفاء في طول الأرض و عرضها لا لشيء سوى أنهم مسلمون و ضعفاء .
يطالبون غيرهم باحترام الإنسان و حقوقه و يدعون إلى النهج الأمثل في التعامل و يزعمون المؤتمرات الدولية و المجالس العالمية رافعين الصوت باحترام حقوق الإنسان و توفير الرفاهية للمجتمع و تحقيق الديمقراطيات في الحكم ، هكذا ينادون و لكنهم يعمون و يعجزون أن يروا ما يجري على أراضيهم من خطابات سياسية عنصرية ضد الأقليات في ديارهم و النازحين إليهم .
حقوق مزيفة و مبادئ ملفقة من خلال صور كثيرة من الديموقراطيات زائفة تفترض في الحكومات أحزاباً تلتمس المغانم لنفسها ، و تسوق المنافع لمؤيديها ، و تجر المغارم على معارضيها يغلب فيهم الساخط الناقد على الناصح المساعد .
أين هذا من دين محمد و شورى محمد و أصحاب محمد و أتباع محمد صلى الله عليه و سلم و رضي عن أصحابه و أتباعه ؟؟؟ .
إنها حقوقهم و ديموقراطياتهم لا يقبلونها إلا بمواصفات هم وضعوها تتحقق من خلالها مصالحهم فإذا ما اهتزت المصالح أو خالف المسار أهواءهم بحثوا عن كبش فداء يحملونه أوزارهم و ضوائقهم المالية و خساراتهم المادية و ألصقوا به التهم ما شاءوا من التجاوزات في حقوق الإنسان و مجافات الديموقراطية و البشاعة في الأحكام و الوحشية في تنفيذ في مقولات و مصطلاحات يصنفون بها سلوكيات الحكومات في مقولات و مصطلحات يصنفون بها سلوكيات الحكومات و الشعوب و الأنظمة من غير قاعدة ثابتة أو ناموس واضح . ثم أنزلوا سخطهم و أرعدوا و زمجروا و ملأوا أرجاء المعمورة ضجيجاً ، و أصموا الآذان عويلاً و بهذا يتهربون من مسؤلياتهم و فشلهم و تناقضهم في تحقيق مبادئهم المعلنة . و الهيئات و اللجان و المنظمات الدولية و الإقليمية تسبح بحمدهم و تبارك .
الله ـ أيها المسلمون ـ كم تغلي قلوب الأعداء حقداً ؟ و كم يعضون الأنامل غيظاً ؟ يريدون قطع دابر الدين كي تخور القوى و يتبع الهوى و نعم البلوى ؟ ؟ يريدون ألا يعز إسلام و لا يقوى يقين و لا يتم تمكين . يصرون على تمزيق أهل الإسلام قطعاناً في يقاع الأرض لا مرعى يجود و لا راع يذود و لا دولة تؤوي ، يعاملونهم كما يعاملون الأرقاء و لا ينالون حقوقهم إلا بطريق الاستجداء . و قد علموا أن المستجدي يسأل و لا يفاوض ، و يقبل و لا يعارض ؟ ؟ ؟ .
و بعد أيها المسلمون : فيعاد السؤال مره أخرى : من هو الإنسان الذي يشقى العالم المتحضر من أجل حقوقه و ينادي بكرامته و رفاهيته ؟ هل هو الإنسان المستقيم السوى الذي يرعى الحق و يجتنب الباطل ؟ ؟ أم هو المجرم الشر الذي لا يعرف حقاً و لا باطلاً عبد الدرهم و الدينار و رفيق المصالح الشخصية و الإنانية المستحكمة ؟ ؟ ألا ساء ما يحكمون .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل * والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الخطبة الثانية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين ، و العاقبة للمتقين ، و لا عدوان إلا على الظالمين ، أحمده سبحانه و أشكره، و أتوب إليه و أستغفره إله الأولين و الآخرين . أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن سيدنا و نبينا محمداً عبده و رسوله المبعوث رحمة للعالمين ، صلى الله و سلم و بارك عليه و على آله الطيبين الطاهرين و على أصحابه أجمعين و التابعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فأوصيكم أيها الناس و نفسي يتقوى الله عز و جل ، اتقوه حق تقاته ، اتقوا ما استطهتم ، اتقوه و قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم و يغفر لكم ذنوبكم و من يطع الله و رسوله فقد فاز فوزاً عظيماً .
أيها المسلمون : إن الأعداء يظهرون تحضراً و استمساكاً بالمبادىء و المواثيق حين تتحقق مصالحهم و تتأكد لهم الطمأنينة على رغباتهم و أهدافهم ، و لو اختل شيء من ذلك لما حفظوا عهداً و لما التزموا بميثاق ، و إن لهم من البراعة في تفسير النصوص و التواء العبارات و التلاعب بالمصطلحات ما يوجدون فيه لأنفسهم ألف مخرج و مخرجاً ناهيكم بما يضمرونه في أنفسهم من احتقار لأبناء الشعوب الأخرى . و إنك لترى التمييز و ذلك الاحتقار يتنفس بقوة من خلال المجالات السياسية و الميادين الإقتصادية و التصنيفات الإجتماعية .
ألا فاتقوا الله رحمكم الله واستمسكوا بدينكم و اعتصموا بربكم فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا .
لفضيله الشيخ الدكتور/ صالح بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام
</div>