و هذه أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية – رضي الله عنها - ، التي بايعت مع من بايع رسول الله – صلى الله عليه و سلم – بيعة العقبة الثانية ، و هي تعلم أنها إنما تبايع الله بيعة لا تنقطع بغيبة رسول الله – عليه و آله الصلاة و السلام – عنهم ، فهو حين يضع يده في أيديهم مبايعاً ، فإنما يبايع عن الله : ﴿ إِنَّ الَّذينَ يُبايِعونَكَ إِنَّما يُبايِعونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْديهِمْ .. ﴾ .. { الفتح : 10 } (( و هو تصوير رهيب جليل للبيعة بينهم و بين رســول الله – صلى الله عليه و سلم - ، و الواحد منهم يشعر و هو يضع يده في يده ، أن يد الله فوق أيديهم ، فالله حاضر البيعــة ، و الله صاحبها ، و الله آخذها ، و يده فوق أيدي المتبايعين . و إن هذه الصورة لتستأصل من النفس خاطر النكث بهذه البيعة – مهما غاب شخص رسول الله صلى الله عليه و سلم – فالله حاضر لا يغيب ، و الله آخذ في هذه البيعة و معط ، و هو عليهـا رقيب )) .
ها هي نراها تدافع و تصد عن رسول الله – صلى الله عليه و سلم – و نصرة لدين الله ، فقد شهدت أحداً هي وزوجها وابناها ; وخرجت معها شن لها في أول النهار تريد أن تسقي الجرحى ، فقاتلت يومئذ وأبلت بلاءً حسناً ، فجرحت اثني عشر جرحاً بين طعنة برمح أو ضربة بسيف .
و ها هي تحكي قصتها و تقول : (( قد رأيتني وانكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بقي إلا نفير ما يتمون عشرة وأنا وابناي وزوجي بين يديه نذب عنه والناس يمرون به منهزمين . ورآني لا ترس معي ، فرأى رجلاً مُوَلِّياً معه ترس فقال يا صاحب الترس ألق ترسك إلى من يقاتل فألقى ترسه فأخذته فجعلت أترس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم )) .
و ها هو ابنها عبد الله بن زيد يقول : (( شهدت أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما تفرق الناس عنه دنوت منه وأمي تذب عنه فقال يا ابن أم عمارة قلت : نعم . قال ارم فرميت بين يديه رجلاً من المشركين بحجر وهو على فرس فأصبت عين الفرس فاضطرب الفرس حتى وقع هو وصاحبه وجعلت أعلوه بالحجارة حتى نضدت عليه منها وقرا ، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر ويتبسم فنظر إلى جرح بأمي على عاتقها فقال أمك ، أمك اعصب جرحها ، بارك الله عليكم من أهل بيت مقام أمك خير من مقام فلان وفلان ومقام ربيبك - يعني زوج أمه - خير من مقام فلان وفلان . ومقامك لخير من مقام فلان وفلان رحمكم الله أهل البيت قالت ادع الله أن نرافقك في الجنة . قال اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة . قالت ما أبالي ما أصابني من الدنيا )) .
و قال أيضاً : (( جُرحت يومئذ جرحاً في عضدي اليسرى ، ضربني رجل كأنه الرقل ولم يعرج علي ومضى عني ، وجعل الدم لا يرقا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعصب جرحك . فتقبل أمي إلي ومعها عصائب في حقويها قد أعدتها للجراح فربطت جرحي والنبي صلى الله عليه وسلم واقف ينظر ثم قالت انهض يا بني فضارب القوم . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة ؟ قالت وأقبل الرجل الذي ضربني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ضارب ابنك قالت فأعترض له فأضرب ساقه فبرك فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم حتى بدت نواجذه ثم قال استقدت يا أم عمارة ثم أقبلنا إليه نعلوه بالسلاح حتى أتينا على نفسه . قال النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي ظفرك وأقر عينك من عدوك ، وأراك ثأرك بعينك )) .
و هذا ابنها حبيب بن زيد الذي أخذه مسيلمة الكذاب الحنفي ، صاحب اليمامة ، فجعل يقول له أتشهد أن محمداً رسول الله ؟ فيقول نعم فيقول أفتشهد أني رسول الله ؟ فيقول لا أسمع فجعل يقطعه عضواً عضواً حتى مات في يده لا يزيده على ذلك إذا ذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن به وصلى عليه وإذا ذكر له مسيلمة قال لا أسمع ، فخرجت إلى اليمامة مع المسلمين فباشرت الحرب بنفسها ، حتى قتل الله مسيلمة .
و قد أُتي عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - بمروط فكان فيها مرط واسع جيد فقال بعضهم إن هذا المرط لثمن كذا وكذا ، فلو أرسلت به إلى زوجة عبد الله بن عمر صفية بنت أبي عبيد - وذلك حدثان ما دخلت على ابن عمر . فقال أبعث به إلى من هو أحق منها ، أم عمارة نسيبة بنت كعب . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد يقول ما التفت يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني .
فلله دَرُّ هذه المرأة ما أعظمها ، و لله در تلك الصحابيات اللواتي تربين في مدرسة النبوة و كانت لهن تلك المواقف المشرقة في مسيرة النصرة المباركة .
فأين نحن اليوم أخواتي المؤمنات من هؤلاء النساء الرائدات ، و ماذا قدمنا نصــرة لله و رسوله – عليه و آله الصلاة و السلام - ؟ ، سؤال لابد من طرحه استثارة للهمم و تذكيراً بالدور الكبير الملقى على عاتق كل مسلمة ، فانهضي أختاه .. و شقي طريقك .. و خذي موقعك في هذه المسيرة المباركة ، فأمتنا تنتظر منا الكثير ، و تحتاج منا الكثير .
أختاه معترك المصير يشدنـا *** أبداً إلى الغمرات في الميدان
مُدّي يد الإسعاف نحو جراحنا *** لا تبخلي بلطائف الإحسـان
فإليك يا ابنة خديجة و أسماء و سمية ، و يا من فاطمة الزهراء قدوتها ، و يا من تُعقدُ عليها آمال و أماني ، كانت هذه الكلمات ، و هذه الوقفات المضيئة مع نساء النصرة الأول ، فكوني خير محضن لأشبال الدعوة .. و خير مدرسة لتربية النشأ المسلم .. و خير نبع لمعاني التضحية و الفداء .. فمن بين يديك يخرج الرجــال المؤمنون الذين سيعيـــدون المجد ، و يحررون الأرض ، و يسترجعون الكرامة بإذن الله تعالى .
يا ابنة الإسلام يا نسل الأول سطّروا الأمجاد بالفتح المبيــن
فتَّحوا الأقفال في وجه الضحى أسعدوا الإنسان في دنيا و دين
فجَّروا تلك الينابيع التي تستقي منها قلوب المؤمنيـــــن
بَشِّري يا أُخْتُ بالفجر الذي سوف يـأتي في عيون القادميـن
اللهم أعِنّا على نصرتك و نصرة نبيك و نصرة شريعتك ، و عاملنا بفضلك و برفقك .. اللهم آمين ، و الحمد لله رب العالمين .
من المواضيع التي اعتز بنقلها راقت لي ----