بدموع الإيمان نستقبل شهر رمضان
الحمد لله الذي وفق العاملين لطاعته, فوجدوا سعيهم مشكوراً, وحقّق آمال الآملين برحمته فمنحهم عطاءاً موفوراً, وبسط بساط كرمه على التائبين فأصبح وزرهم مغفوراً, وأسبل من نعمه على الطائعين وابلاً غزيراً, وأشهد أن لا إله إلا الله جعل لكل شيءٍ قدراً مقدوراً, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: " أفلا أكون عبدا شكوراً؟ " وصلى الله عليه، وعلى آله وصحبه أياماً ودهوراً.... أما بعد:
إخوة الإيمان:
بشراكم بقدوم شهر رمضان المبارك, وحق لكل قلب أن يستبشر بمقدم الضيف العزيز، فقد وفد علينا وحلّ بدارنا بعد طول غياب، وعظيم شوق، فهو ضيف ليس كالضيوف, وحبيب ليس كالأحبة.
إنّ الواحد منّا عندما يغيب صديقٌ له - ولو لمدة شهر - ثم يعلم بقدومه إليه؛ لا تسأل عمّا يفعله من أجل هذا الضيف، من حفاوة وتكريم. فكيف بأعز حبيب نفقده، ولمدة سنة كاملة؟!.
فما أجمله من لقاء, وما أعظمها من فرحة, اللّهمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، واغفر لنا كل قبيح سلف وكان, وأعتقنا فيه من نفحات الجحيم والنيران, وأعنّا على الخير، يا من إذا أُستُعِينَ أعان.
وإنّها لنعمة كبيرة أن نبقى أحياء حتى نعانقك يا رمضان؛ وأن نعيش أيامك ولياليك في رحاب روحانية ليس لها مثيل, وحُقَّ لكل مسلم أن تذرف عيناه دموع الفرحة بمقدمك، بعد أن بعدت الشقة، وحلّت بفرقك المشقة, ولا نُلامُ إذا انهملت الدموع على الخدود, وجادت بأغلى ما لديها.
يا عيوناً أرسلت أدمعها ما بذا بأس لو أرسلت الدما
فما عسانا نقدم لك أيها الضيف العزيز؟! وهل سنوفيك حقك؟!.
والله لو كانت القلوب سليمة لهزّها الشوق للقائك، ولأعددت العدة لاستقبالك.
والله لو لم يكن فيك إلا طرب القلب، والوقوف عند باب الرب، والانطراح بين يدي الخالق, لكفى.
وجاء رمضان بعد عام، لا ليقول للبطون: جوعي، ولكن ليقول للقلوب: استقيمي, وللوجوه: استنيري, وللجوارح: استكيني, وللعيون: بمائك جودي.
وحقٌّ لعين أن تريق دموعها ولا خير في عين بذلك تبخل
جاء رمضان، لا ليعذب الناس, ولكن ليقول: إني شهر الرحمة والمغفرة، والعتق من النار, جاء رمضان ليرسم لنا طريق التقوى، وليغرس الإيمان في قلوبنا، ويبعث النشاط في نفوسنا.
اشرأبت لك يا رمضان أعناق المؤمنين, وطارت إليك أفئدة المخبتين, نستقبلك يا رمضان بقلوب مفعمة بالسرور، والسعادة والحبور, فحللت أهلاً، ووطئت سهلاً، وحياك الله.
مرحبا أهلا وسهلا بالصيام يا حبيباً زارنا في كل عـام
قد لقينـاك بحـب مفعم كل حبّ في سوى المولى حرام
فاقبل اللهم ربي صومنـا ثم زدنـا عطايـاك الجسـام
من منّا لا تؤنسه لحظات العناق؟! ومن منّا لا تسرّه ساعات اللقاء؟! بدموع الفرحة نستقبلك يا شهر الرحمة.
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معًا
إنّ من عرف مكانتك وأنزلك منزلتك، جدير به أن يعمر أيامك ولياليك، وأن يتقي الله فيك, فأنت فرصة لمحبيك, وغنيمة لصائميك, ومكسب لقائميك.
يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنّ من صامك وقامك إيماناً واحتساباً " غُفرَ له ما تقدم من ذنبه ". متفق عليه.
فهنيئا لمن صامك وقامك على الوجه المطلوب, فهو الفائز بالغفران, والداخل من باب الريان في جنات الرضوان, ويا خسارة من فرّط في إكرامك، وارتحلت ولم يغفر له بإدراكك, يقول عليه الصلاة والسلام: "رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف. قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك رمضان فلم يُغفر له". رواه مسلم وأحمد
حق الرغام، ودسّ الأنف في الركام؛ لكل من حللت ولم يبال بمقدمك, ووفدت ولم يقدر هيبتك, إنك الشهر الذي فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران, وتُصفّد فيه مردة الجانّ.
إنّك شهر الخيرات والبركات, تقال فيك العثرات, وتجاب فيك الدعوات, وتضاعف فيك الحسنات, وتغفر فيك السيئات.
إنّ رمضان مضمار السابقين، وغنيمة الصادقين, فيه تضاعف الأعمال, وتحط الأوزان, وفيه يجاب السؤال، ويغفر للمستغفر ويُقال, فهو ثمرة الدهور، ومصباح الشهور، وربيع المؤمن يقتطف فيه الأجور، وتزين فيه الجنان والقصور، فجد فيه بالطاعات، واهجر الفتور.
إن الواجب عليك أخي المسلم أن تستشعر نعمة إدراكك لهذا الشهر ونعمة العافية فيه, فكم من إنسان ثاوٍ تحت الجنادل والتراب، يتمنى أن يرجع إلي الدنيا ليتعبد الله! وكم من إنسان طريح الفراش يتمنى الصيام! وكم من إنسانٍ مقعد يتمنى القيام!.
وإننا بحاجة إلي معرفة معنى الصيام وآدابه، وماذا علينا فعله فيه, ولا نكتفي بأن نهنئ بعضنا لقدومه، ونظهر حزننا عند وداعه, إننا نريد أن نجعل من رمضان صفحة جديدة بيضاء، نسطر فيها الولاء لله، والتذلل بين يديه والافتقار إليه, إننا نريد أن تسمو أرواحنا في رمضان، ويسودها الفأل والأمل بموعود الله, فتغلّب على الشيطان، والنفس، والهوى، والدنيا, ونجعل هذه الحياة الدنيوية في أيدينا، لا في قلوبنا, وأن نتجه إلي الله بأفئدتنا وأرواحنا.
فزاد الـروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
فليس يضرك الإقتار شيئـاً إذا ما أنت ربك قد عرفتـا
إخوة الإيمان:
ليس الغرض من الصيام تعذيب النفس وتجويعها, وإنما الغرض أن نصل إلي التقوى، وتربية النفس وتهذيبها عن الدنس، وتعويدها على التحرر من شهواتها وملذاتها, وترويضها على الصبر، وتحمّل المشقة والآلام.
يقول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) سورة البقرة: 183. فإذا صام العبد صامت جوارحه, ومن أطلق لنفسه العنان، وأكل الحرام، وسمع الحرام، ورأى الحرام؛ فما فائدة الصيام؟!.
يقول صلى الله عليه وسلم" من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه". رواه البخاري.
إذا لم يكن في السمع مني تصاون وفي بصري غـضّ، وفي منطقـي صَمْتُ
فحظي إذاً من صومي الجوع والظما فإن قلتُ: إني صمت يومي، فما صُمْتُ
كان سلف الأمة إذا أتى رمضان استقبلوه بقلوب مسرورة، وعيون دامعة, يصومونه حقّ الصيام، ويقومونه حقّ القيام, يعيشون فيه بين خوف ورجاء, علموا ما في رمضان فتمنّوا السنة كلها رمضان, بل كانوا يدعون الله أن يبلغهم إياه قبل حلوله بستة أشهر.
ولنقف وقفة سريعة، ونطل إطلالة على عجل, ونرى كيف يستقبل الناس هذا الشهر الكريم؟!.
إنّ استقبال الناس لشهر رمضان يرجع إلى فهمهم لمعنى هذا الشهر, فقسم منهم طالما انتظروه، وازدادت فرحتهم بوصوله، فشمروا عن ساعدي الجد, واجتهدوا في أنواع العبادات, واستغلوه في تنويع الإعمال الصالحات ليملأوا سجلاتهم الأخروية بما يجدونه أمامهم بعد مفارقة الحياة, فكان رمضان لهم مدرسة ينهلون منها معارفهم، ويتربون فيها على كل خلق حسن, فرمضان بالنسبة لهم دورة تدريبية؛ يتدربون فيها على العمل الصالح، من صيام، وقيام، وإحسان، وبذل، وعطاء، وتوبة من جميع الآثام, فهؤلاء حريٌّ أن يقبل الله منهم الصيام والقيام. كيف لا؟! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه, ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه.
وقسم آخر لم يعرفوا لمواسم الخيرات قيمة، ولم يروا لها حرمة, فلم يكن شهر رمضان بالنسبة لهم موسماً للطاعة والعبادة, ولكن موسماً لتنويع المعاصي والسيئات وإسخاط الله.
وبعضهم جعل رمضان موسماً لتنويع المآكل والمشارب، والاستعداد بصنوف الأطعمة والملذّات, فصار الشهر لديهم مرتعاً للسمنة وأمراض المعدة, وإذا أردت أن ترى ذلك فانظر إلي الأسواق قبل رمضان بيوم أو يومين, فسترى التنافس الشديد على شراء المأكولات بشتى أنواعها, فكيف يحسّ الصائم بالجوع، ويتذكّر حال الفقراء والمساكين؟!.
وكلامي هذا لا أقصد به ترك شراء الأطعمة، ولكن أدعو إلي التوازن والوسطية, وأن لا يكون همنا في رمضان هو ملء البطن فقط.
ومنهم من جعله للعبث والسهر - ولا آتي بشيء من نسج الخيال - ولكن لك أن ترى استعداد الكثيرين، وتخطيطهم لإعداد الملاعب، وإقامة المباريات، أو لعب الورق، والجلوس أمام برامج التلفاز، أو متابعة القنوات الفضائية, فحرموا من قيام الليل، وصلاة التراويح!.
فهل تظن أنّ هؤلاء سيخشعون في صلاة، أو يشعرون بالتّذلّل والانطراح لله؟! كلا.
وآخرون أصبح رمضان عندهم للنوم، وترك الصلوات, فانقلبت عندهم الموازين, وكأن رمضان لم يأت إلا لننام النهار، ونستيقظ الليل, وياليتهم حينما يستيقظون يهبون إلي قيام الليل! ولكن الواقع يشهد أنهم يقومون قبيل المغرب ليأكلوا ويشربوا فقط, أما الصلاة التي هي عمود الدين فقد خلفوها وراءهم! فكيف يصحّ صيام بدون صلاة؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبعضهم صَوَّموا بطونهم عن أكل وشرب، ولكن أطلقوا لجوارحهم العنان لترتع في المنكرات؛ في سماع الغناء، وأكل الحرام، والنظر إلي النساء, ومنهم من لا يعرف الله إلا في رمضان فقط! فترى المساجد تكتظ بهم، فهؤلاء منافقون، معلومو النفاق, فبئس القوم هم! لا يعرفون الله إلا في رمضان!.
ومنهم من لا يعرف الله، لا في رمضان، ولا في غيره, فرمضان عندهم موسم من مواسم الدنيا، لا موسم من مواسم الآخرة, لذلك ينشطون فيه على البيع والشراء، وملازمة الأسواق، وهجر المساجد, فهم مستثقلون لهذا الشهر, يعدّون ساعاته ودقائقه، منتظرين رحيله بفارغ الصبر، لأنه حبسهم عما ألفوه! فأفٍّ لهم، ورغمت أنوفهم.
فإلى هؤلاء كلهم أقول: اتقوا الله في رمضان، فقد جاء ليوصلنا إلي التقوى، ويهذّب نفوسنا، ويروّضها على طاعة الله, فتوبوا إلي الله، فأنتم على شفا جرف, إن لم تستيقظوا من غفلتكم فإنه يوشك أن ينهار بكم! وفرق بينكم وبين من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً, فرقٌ كما بين الثرى والثريا!.
يُذكَرُ أنّ ولداً لهارون الرشيد كان غلاماً سفيهاً، فلما أقبل رمضان ضاق به ذرعاً وأخذ ينشد.
دعاني شهر الصوم، لا كان من شهـر ولا صمـتُ شهراً بعـده آخر الدهـر
فلو كـان يُستعدي الأنـام بقـوة على الشهر، لاستعديتُ قومي على الشهر
فأصيب بمرض الصرع، فكان يُصرع في اليوم عدة مرات, ومازال كذلك حتى مات قبل أن يصوم رمضان الآخر! فليكن عبرة لمن يستثقلون رمضان، وكفى!.
يا شهر رمضان! أين أرباب القيام؟ أين المحافظون على آداب الصيام؟ أين الذين يطعمون الطعام؟ أين المتهجّدون في جنح الظلام؟ أين الذين يهجرون المنام، ويتمنّون أن لو كان رمضان على الدوام؟ ذهبوا إلا القليل منهم، فعليهم السلام!.
عليك يا أخي أن تستغل فراغك، وتحفظ وقتك بما يعود عليك بالنفع في الدنيا والآخرة, واعلم أنك محاسب على كل دقيقة, يقول صلى الله عليه وسلم" نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ". رواه البخاري.
واعلم أنك إن لم تشغل نفسك فيه بما ينفعك شغلتك هي بما يضرك, ولذا أضع بين يديك بعض الأعمال التي ينبغي أن تتعاهدها، وتكسب وقتك بفعلها, فرمضان مغنم للطائعين، وميدان لتنافس المتنافسين.
م /ن