رأيتُ أن أخُوض غِمَارَ هذه المشكلةِ التي تعترينا جميعًا على فترات، تطُول عند البعض منا، وتقصُر عند البعض الآخر؛ خاصةً ونحن على أعتاب الشهر الكريم المبارك، الذي نبدأ فيه بأرواح تُلامِسُ السَّحابَ، وهممٍ تُدافِع الجبال، وقلوبٍ محترقة شوقًا لبلوغ العَنان؛ المساجدُ مملوءةٌ بالقائمين والعاكفين والرُّكَّع السُّجُود، والمواصلاتُ تَعِجُّ بآلاف القارئين للقرآن، والمتحرِّين ألا يقع أحدُهم في حرام، ولو كان نظرةً عابرة تجرح صيامَه.
ثُم ما يلبث الأمرُ أن يخِفَّ، فيضيعُ ثلثُ المسجد، وتتحول المصاحف إلى أذكار وأوراد خفيفة، ثم نتراخَى أكثرَ وأكثر.
ونتساءل ونتحسَّر وتُسمع مصمصاتُ الشِّفَاهِ على قُوَانا الدينية التي تتضاءلُ وتَضيع، ويتدخَّلُ الوُعَّاظُ لقول كلمتهم، ويُرجِعون ذلك لضعْف الوازِع الدينيِّ وكثرةِ الذُّنوب، وعمومِ البَلْوى التي حلَّتْ بالإنسانية كلِّها.
غيرَ أنَّ الأمرَ ليس على هذا النحْوِ فحَسْبُ؛ بلْ نودُّ الوقوفَ على تفصيلات الأمر كلِّه؛ إنَّ هناك أكثرَ مِن جانبٍ يجب أنْ نتوخاه للرجوع إلى أوْجِ عزِّنا التعبُّديِّ:
أولاً: الاستعانةُ بالله تعالى؛ إذْ بدونه لا يملِك المرءُ لنفسِه هِدَاية للتعبُّد؛ يقول تعالى: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118].
ثانيا: العزيمة القوية والاستعداد للطاعات؛ تقول السيدة عائشة عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا دخل العشْرُ أحْيا الليلَ وأيقظَ أهلَه، وجَدَّ، وشدَّ المِئْزَرَ)).
ثالثًا - وهو بيت القَصِيد في مَقالِنا -: وجودُ منهجٍ في العبادة:
يصيبنا جميعًا هذا الفتورُ المعهود من الرَّتابة اليومية التي اعتدناها، وكثيرًا ما نتغافل عن هذه الرتابة، ونحاول كسْرَ قواعدِه ونتمرَّد عليه؛ ولا يبقَى الحِفاظ على هذه الرتابة إلا لضرورةٍ مُلِحَّة يَصعُب التغافلُ عنها؛ فترْك العمل يؤثِّر سلبًا على الدَّخْل والعيش، وتركُ العبادة يؤثِّر قطعًا على الحساب ودخول الجنة؛ ولذا يبقى المرء هذه الرتابة، سواءٌ في العبادة أو غيرها مُرْغَمًا؛ لكنْ ينْتابُه هذا التراخي.
ولن يزولَ هذا التراخي إلا إذا تحوَّل الأمرُ إلى منهج ومشروع مخطَّطٍ له؛ بمعنى أنَّك إذا حوَّلْتَ هذه العبادةَ إلى خُطَّةِ مشروعٍ، به أهدافٌ فرعية أو جزئية؛ بمعنى أنْ تَقْسِم عبادتَك في رمضانَ أو غيرِه إلى مراحلَ تنتظر لكلِّ مرحلةٍ نتيجةً ما، وثمرةً تَذُوق حلاوتَها وتطْمَح بَعْدها لهدفٍ أسمى، وتضعُ لذلك خطةً زمَنية، وتقسِم جدولك إلى ثوابتَ ومتغيراتٍ؛ ستجد حلاوةَ ذلك كلِّه وثمرتَه في آنٍ معًا، ويكون على النحو التالي:
1- وضعُ هدفٍ عامٍّ وأهداف فرعيةٍ:
أنت تريد أن تكون حافظًا للقرآن ومحافظًا على الصلاة في المسجد، وتاركًا للمعاصي قدْرَ المستطاع؛ لتصل إلى درجة تكون فيها حبيبًا لله يمنَعُك ويحميك من المعاصي، ويصْرِف عنك الأذى والشرور، ثم تفوز بالجنة؛ ولذلك أنت تحتاج إلى خطوات أو أهداف فرعية للوصول للهدف الأكبر.
من هذه الأهدافِ: أن يكون لك وِرْدٌ قرآنيٌّ تحافظ على قراءته ثم حِفْظِه، أنْ تأخذ حظَّك من الحديث الشريف وحفْظه، أن يكون لك لحظةُ وِصالٍ تشعر فيها بقربك من حبيبك الأعلى وقرب مناجاتك له؛ ولذلك ننتقل إلى النقطة الثانية.
2- وضع خطة زمنية، وانتظار النتائج:
ومثالُه ما يدعو إليه الرسولُ الكريم في قوله: ((من أدرك تكبيرةَ الإحرامِ أربعين يومًا كانت له براءة مِن النار وبراءة من النفاق)).
الحديثُ حدَّد لك النتيجةَ المتوقَّعةَ والخطَّةَ الزمنية؛ فماذا بعدَ ذلك؟ بعدَها لا يمكنك تحديدُه الآنَ لأنَّك ببساطةً لستَ مؤهَّلاً لرؤية ما هو فوق ذلك؛ مَن استطاع المثابرةَ على ذلك يستطيعُ تلَمُّسَ طريقِه بنفْحَةٍ عُلْيا لا يدركها إلاَّ مَن وصل إليها؛ لكنْ ليس أقلَّ مِن أن أرتضِيَ برؤيتيَ القاصرةِ فأحدِّدَ طموحاتٍ مَا صغرى؛ أنت تريد حفظ القرآن، والقرآن 30 جزءًا؛ لتكُنْ بدايتُك في رمضانَ وهو شهرٌ كامل (زمنٌ محدَّد) أنتظر بَعده أن أحفظ جزءًا أو أكثر أو أقل، وهي حصيلة تلك المرحلة.