حين تعرض الآيات القرآنية على الكافرين فإنهم يتولون مدبرين بطرق شتى.
قال تعالى: وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا {الإسراء: 46}، وقال تعالى: فما لهم عن التذكرة معرضين (49) كأنهم حمر مستنفرة (50) فرت من قسورة {المدثر: 49- 51}، وقال تعالى: وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون {فصلت: 26}.
فهم في حقيقة الأمر يسمعون القرآن والمواعظ وذكر القبر والنار وعذاب الآخرة قوارع مانعة من الفجور والظلم والمعصية، فيعرضون عن سماعها ومجالسة أهلها، لئلا تؤثر فيهم، قال تعالى: بل يريد الإنسان ليفجر أمامه {القيامة: 5}، وقال تعالى: كلا بل لا يخافون الآخرة {المدثر: 53}، فقوارع القرآن ترهبهم وتخيفهم وهم يتقونها بالهروب منها، فمن يقيهم من قوارع النار يوم القيامة؟ وهذا حال الكافرين الغافلين كحال أبي جهل وأمثاله، قال تعالى: ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا {الإسراء: 60}، قال أبو جهل عندما قرعت آية الزقوم أذنيه: إنها من ثريد وزبد، لئن رأيتها لأزقمنها زقمًا، فأنزل الله تعالى في وصفها: إن شجرت الزقوم (43) طعام الأثيم (44) كالمهل يغلي في البطون (45) كغلي الحميم إلى قوله تعالى: ذق إنك أنت العزيز الكريم {الدخان: 43- 49}.
التخويف بالآيات
ومن أجل تخويف العباد وحثهم على دعاء الله تعالى وحده وسؤاله، واللَّجَأ إليه والاستغاثة به والإنابة إليه، أرسل الله تعالى الآيات البينات، الدالة على صدق الرسل، قال تعالى: ...وما نرسل بالآيات إلا تخويفا {الإسراء: 59}، فمن كذبها عوقب بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة كما عوقب بالطوفان قوم نوح وقوم فرعون بالغرق، وقوم هود بالصيحة، وأخذ أصحاب الأيكة عذاب يوم الظلة، ورفعت قرية سدوم في السماء فجعل عاليها سافلها... إلخ. ثم منع الله تعالى نزول الآيات بعد ذلك حتى لا يحل بالناس نقمة الله تعالى، قال تعالى: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون... {الإسراء: 59}، ولكنه تعالى أبقى علامات لعلها تزلزل القلوب والأنفس، قال تعالى: هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال {الرعد: 12}، وأبقى خسوف الشمس والقمر تخويفًا للعباد، فهي علامة دالة على غضب الله على بعض عباده، داعية إلى طلب رضاه والفزع إليه والصلاة بين يديه، لتزول الغمة وتنكشف الكربة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الله". {متفق عليه رواه البخاري (999)}
ولا تزال الآيات تترى مؤذنة باقتراب الساعة، حتى إذا طلعت الشمس من مغربها لا ينفع الخوف ولا تفيد القربة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل
{متفق عليه وهذا لفظ البخاري 4359}
عتاب الله للمؤمنين
الخشية من الله تعالى طريق العلم، والعلم لا يكون إلا مقترنًا بالخشية، قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء {فاطر: 28}، وقال صلى الله عليه وسلم : "فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية". {متفق عليه، رواه البخاري 5750}
الخوف الذي تقشعر منه الأبدان وتلين له الجلود وتدمع الأعين ينبع من الإيمان فإذا خلا الإيمان من هذه الشمائل فهذا أمر يقتضي العتاب، عن ابن مسعود قال: "ثم ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله إلا أربع سنين. {رواه مسلم} والعتاب باقٍ لكل متغافل عن نفسه. فالعودة العودة إلى الله وإلى دينه، كما يحب الله للعبد أن يعود، وليعرض كل منا نفسه على القرآن والسنة وآثار الصحابة فتلك الموازين الثابتة.
الخوف عبادة واجبة
كيف لا يخاف من قلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء وهو لا يدري أيسبق عليه الكتاب فيكون من أهل الجنة أم يسبق عليه الكتاب فيكون من أهل النار؟ وكيف لا يخاف أهل البدع النفاة المعطلون لصفات الله حين يعجزون عن نشر الحجج وتفصيل الأعذار بين يدي الله؟ وكيف لا يخاف أهل المظالم حين يعجزون عن الوفاء والقضاء؟ وكيف لا يخاف من زال ملكه وانقطع أمله؟ وكيف لا يخاف أهل المعاصي والشهوات وقد يؤخذون بغتة فلا يمهلون للتوبة؟ وكيف لا يخاف من اقترب أجله وجاءه النذير وقد قل زاده، وكيف لا يخاف من هجم عليه المال من كل صوب وفتحت عليه النعم من كل حدب وهو مستدرج مطرود؟ وكيف لا يخاف من لا يدري أَقُبل عمله أم لم يقبل؟ وكيف لا يخاف من لا يدري إلى الجنة هو ذاهب أم إلى النار وارد؟ فهل أمن هؤلاء بالعهود الموثقة أم ملكوا الجنة والنار؟
هيهات هيهات أن ينجو مغرور أو يفلح كافر وهو يساق إلى العذاب أو يرجع نادم إلى الدنيا ليصلح ما فات.
أريد أن أخاف
أريد الخوف من الله ومن معاصية وعذابه، وقد حالت الحوائل وكثرت الشواغل فكيف السبيل؟ فقد جمدت الدموع، وقست القلوب.
والجواب: لا سبيل إلى الخوف إلا بمعرفة الله أولا وذلك بمعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله وفهم معانيها ومعرفة آثارها لينضبط سلوك العبد، ثم تدبر القرآن وفهم آياته، ثم الإكثار من ذكر الله بالقلب واللسان، ثم قيام الليل سيما وقت السحر، ثم صحبة الأتقياء الخائفين، ثم زيارة المقابر، ثم تعاهد ذكر الخوف من الله دائمًا وسماع أخبار الخائفين، ثم ذكر النار وعذابها وصراخ أهلها، وذكر طعامهم وشرابهم ولباسهم، وعظم خلق أهلها ليذوقوا العذاب، وانقطاع أملهم في النجاة، ثم ذكر دركات النار وسوادها وعمقها وقعرها وخزنتها وزبانيتها وحيَّاتها وعقاربها وحرها وزمهريرها، فإن ذلك يقطع الآمال الواهية، ويضرب المعاصي المتمكنة، ويلين القلوب القاسية، سيما إذا أكثر الداعي سؤال الله تعالى الخوف منه في السر والعلن، فيقول كثيرًا: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك". وعلامة سلامة القلب وصدق رجائه أكل الحلال، وترك الشبهات، وكثرة البكاء، وحب الصالحين.
فاللهم يا مؤمن الخائفين، هذا حالهم في الدنيا مشفقون ومن العذاب خائفون، كما أحييتهم على تلك الحال فتركوا الحرام، وزهدوا في الزينة والمتاع، ورابطوا على الثغور ابتغاء الدرجات، وصاموا في يوم شديد حره يتقون به سوء العذاب، وصلوا بالليل والناس نيام، يدعون ربهم خوفًا وطمعًا، فامنن علينا وعليهم بالنجاة من العذاب وأدخلنا وإياهم الجنة مع المتقين الأبرار.
وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.