التربية الذاتية
د. محمد الدويش 16/4/1430
ماذا نعني بالتربية الذاتية
الحمد لله نحمدهونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، منيهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمد عبدالله ورسوله، أما بعد:
فأول مسؤوليات الإنسان هيمسؤوليته عن نفسه، ومن ثم فحري به أن يعنى بتربيتها وإصلاحها، لذا كان لابد منالحديث عن التربية الذاتية، وهو موضوع حديثنا هذه الليلة.
ماذا نعني بالتربية الذاتية:
عندما نتحدث عن التربيةالذاتية أو عن دور الشاب في تربية نفسه فإننا نقصد بها ذلك الجهد الذي يبذله الشابمن خلال أعماله الفردية، أو من خلال تفاعله مع برامج عامة وجماعية لتربية نفسه؛ فهي تتمثل في شقين: الأول : جهد فردي بحت يبذله الشاب لنفسه، الثاني :جهد فردييبذله من خلال تفاعله مع برامج عامة، وسيأتي مزيد توضيح لهذاالجانب.
لماذا التربية الذاتية؟
عندما نطالب الشاب بأن يدرك مسؤوليته عن تربية نفسه، ونطالب الشاب بأن يقوم بجهد في تربية نفسه،فلماذا هذه المطالبة؟ وما المبررات والمسوغات للحديث عن هذه التربية الذاتية؟
إننا نقول لكل شاب، بل نقول لكل مسلم صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً كان أم أنثى: لابد أن تتحمل مسؤوليتك في تربية نفسك، فالذي يدفعنا لذلك مبررات عدة،منها:
أولاً: مبدأ المسؤولية الفردية:
إن المسلم بل كل إنسانفي هذه الحياة مسؤول مسؤولية فردية يقول - جل وعلا - (ولا تزر وازرة وزر أخرى وإنتدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى). ، ويقول سبحانه (كل نفسٍبما كسبت رهينة).
إنك حين تقرأ في نصوص القرآن الكريم أو في نصوص السنة النبويةتجد التأكيد الواضح على أن كل فرد مسؤول مسؤولية خاصة عن نفسه، حتى ذاك الفرد يتعرضإلى الإضلال والغواية من خلال الضغط الذي يمارسه عليه غيره، سواء أكان ضغطاً نفسياًأم ضغطاً اجتماعيّاً -أيّاً كان مصدر هذا الضغط- لا يعفيه ذلك من المسؤولية، ونقرأفي القرآن الكريم في آيات عدة نماذج من الحوار الذي يدور يوم القيامة بين الذيناتَّبَعوا وبين الذين اتُّبِعوا، أو بين الذين استضعفوا والذين استكبروا، فيأتيالمستضعفون يطالبون أولئك المستكبرين الذين كانوا سبباً في إضلالهم وغوايتهم أنيتحملوا عنهم جزءاً من العذاب (وقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهلأنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواءٌ عليناأجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص). (ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً منالنار).
وقال صلى الله عليه وسلّم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور منتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان له من الوزر مثل أوزار منتبعه غير أنه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً". وفي الحديث الآخر: "ومن سن في الإسلامسنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهمشيئاً".
فهذا فلان من الناس اتبع زميله أو صديقه أو أباه، وسار وراءه وأصبحظلاًّ له، حتى قاده إلى طريق الضلالة والانحراف سيأتي يوم القيامة هذا الذي أضلهيحمل وزر نفسه ووزر هذا الذي أضله (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزارالذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون).
ولكن هذا المستضعف لن يعفيه ذلك منالمسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى، ولن يغنيه أن يتلفت يمنة ويسرة، تارة يطالبصاحبه الذي أضله ، وتارة يرجو منه أن يتحمل عنه جزءاً من العذاب (إنا كنا لكم تبعاًفهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار). ومع ذلك لا يعفيه من العذاب، أليس هذا وحدهدال على المسؤولية الفردية للإنسان، في أي بيئة وفي أي مجتمع وجد، وحتى لو سار وراءصاحبه وهو يظن أنه يحسن صنعاً فإن ذلك لا يعفيه أمام الله عز وجل، أرأيتم هذاالقطيع الهائل الذي يسير وراء مشايخ أهل الضلال والخرافة، أو وراء غيرهم من أصحابالبدع والانحراف والضلال، كم يظن أولئك أنهم يحسنون صنعاً؟ وكم يظن هؤلاء أنأسيادهم وعلماءهم وأئمتهم يقودونهم إلى الطريق المستقيم الذي لا طريق سواه، إنهمممن قال الله تعالى فيهم (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً* الذي ضل سعيهم في الحياةالدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).
لنأخذ مثالاً من السيرة يجلي لنا هذهالصورة تجلية واضحة، فحين نقض بنو قريظة العهد في غزوة الأحزاب، سار إليهم الرسولصلى الله عليه وسلّم بأمر الله سبحانه وتعالى حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ - رضيالله عنه - فحكم عليهم سعد رضي الله عنه أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم،فكانوا يكشفون عن عوراتهم فمن وجدوه قد أنبت قتلوه، فهل قتل ذاك الشاب الذي لايزالفي العقد الثاني من عمره ظلماً؟ كلا لم يقتل ظلماً وقد شهد عليه الصلاة والسلام علىهذا الحكم بأنه حكم الله من فوق سبع سماوات، إن هذا الشاب ولد في بيئة تربيه علىالكفر والضلال، أبوه يهودي وأمه يهودية، وسائر أقاربه وجيرانه كذلك، ومع ذلك فهويتحمل المسؤولية عن نفسه، كان عليه أن يبحث عن طريق الهداية والنجاة، وعن طريق الحقوالخير، وما كان ربك ليظلم أحداً سبحانه وتعالى وهو أحكم الحاكمين، فإذا كان هذاالشاب الذي عاش في هذا المجتمع الغارق في الانحراف والغواية تمارس تجاهه كل وسائلالتضليل، وتطمس عليه الحقائق وتصور له بغير صورها، ومع ذلك لم يكن معذوراً فغيره منباب أولى.
ثانياً: الحساب الفردي يوم القيامة:
إن من لوازمالمسؤولية الفردية أن كل إنسان سوف يحاسب يوم القيامة حساباً فرديّاً، قال عز وجل (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا همينصرون). وفي آية أخرى يقول عز وجل : (إن كل من في السموات والأرض إلا ءاتي الرحمنعبداً* لقد أحصاهم وعدهم عداً* وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً). , فكل إنسان سيقدمعلى الله فرداً وحيداً، وسيحاسب محاسبة فردية؛ فلابد أن يتحمل مسؤولية نفسه فيتربية نفسه وتزكيتها وقيادتها إلى طريق الخير والاستقامة.
وقال صلى الله عليهوسلّم :"ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان؛ فينظر أيمن منه فلايرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر تلقاءوجهه فيرى النار تلقاء وجهه؛ فاتقوا النار ولو بشق تمرة" . فلابد أن يصير المسلمإلى هذا الموقف وهو إما إلى إحدىحالين: إما أن يكون كما قال صلى الله عليه وسلّمفي حديث النجوى:"أما المؤمن فيدنيه ربه فيضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، فيقول: أتذكرذنب كذا وكذا؟ حتى إذا ظن أنه قد هلك قال: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرهالك اليوم، وأما الفاجر فينادى بذنوبه على رؤوس الخلائق".
ثالثاً: الإنسان أعلم بنفسه:
إن الإنسان أعلمبمداخل النفس، وأعلم بجوانب الضعف والقصور فها، ومن هنا فهو الأقدر على التعامل معنفسه، إنه يتصنع أمام الناس ويتظاهر أمامهم بالخير، أو يدعوه لذلك الحياءوالمجاملة، أما مافي نفسه فهو أعلم به من سائر البشر، حينئذ فهو أقدر من غيره علىعلاج جوانب القصور في نفسه.
رابعاً: البرامج الجماعية تفتقر إلى تفاعل الفردمعها:
تتاح للإنسان مناسبات وفرص جماعية تحقق له قدراً كبيراً منالاستفادة، لكنه لا يمكن أن يستفيد منها ما لم يتفاعل معها، قال عز وجل: (أنزل منالسماء ماءً فسالت أودية بقدرها).
فالماء النازل من السماء واحد، لكن الأدويةتتفاوت فيما تحمله منه؛ فكل واد يحمل على قدر سعته، وهكذا القلوب تتفاوت بما تتلقاهمن وحي الله جل وعلا، وتتفاوت في أثر هذا الوحي عليها كما تتفاوتهذه الوديان.
وشبه النبي صلى الله عليه وسلّم الوحي الذي أتى به وتلقي الناس منه تشبيهاًقريباً من ذلك، فقال:"مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصابأرضا، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادبأمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنماهي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثنيالله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
ويحدثنا القرآن الكريم عننماذج من نتاج تخلف التربية الذاتية (وضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأةلوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاًوقيل ادخلا النار مع الداخلين).. لقد كانت هاتان المرأتان زوجتين لنبيين من أنبياءالله، ولابد أن نوحاً ولوطاً عليهما السلام بذلا معهما جهداً في دعوتهما إلى الدخولفي دين الله تعالى، ولكن حين لم يكن منهما مبادرة ذاتية لم ينتفعا بذلك الجهد وتلكالدعوة.
ويبذل الرسول صلى الله عليه وسلّم جهده مع عمه أبي طالب حتى عند مرضالموت، وحين لم يكن من أبي طالب مبادرة ذاتية لم يستفد من الجهد الذي بُذل له.
وفي عصر النبي صلى الله عليه وسلّم كان هناك فئة من المنافقين يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلّم الجمعة، ويشهدون معه مجالس الخير، ويذهبون معه في السفروالإقامة، ويشهدون معه بعض الغزوات؛ فيعيشون مع النبي صلى الله عليه وسلّم كمايعيش معه سائر أصحابه، يتلقون من نفس القنوات التربوية التي يتلقى منها أصحابالنبي صلى الله عليه وسلّم ، بل لعل بعض المنافقين كانوا أكثر حضوراً لمجالسه صلىالله عليه وسلّم من بعض أصحابه، ومع ذلك لم ينتفعوا بشيء من ذلك أبداً.
فهباليوم أن شابّاً وجد في مجتمع تربوي في القمة، فهو في بيت محافظ وعند أستاذ وشيخيعتني به، لكنه لم يتفاعل ولم توجد منه مبادرة ذاتية، فلن يستفيد من هذه البيئة، بلربما أصبحت وبالاً عليه.
خامساً: تجاوز سلبيات المربي:
إن البشر أيّاً كانوا لايخلون من سلبيات وجوانب من القصور، فهذا أستاذ لي أثق فيه وألازمه وأصاحبه وأحضرمجلسه وربما أصاحبه في سفر وذهاب وإياب وأرى فيه قدوة ظاهرة أمامي وأتمنى أن أكونمثله أو أن أسير على خطاه ….أيعني ذلك أن يسلم من القصور والضعف؟ فقد يكون لديه نوعمن قسوة القلب، وقد يكون عنده نوع من سوء الخلق وعدم حسن التعامل مع الآخرين، قديكون إنساناً متعجلاً ، لابد أن تكون فيه صفة سلبية وجوانب قصور.
وحينما يكونالشاب مجرد ظل لغيره، فإنه سيحمل سلبيات من يربيه، بالإضافة إلى سلبياته هو، فحينيكون الشاب يعاني من صفة سلبية كالكسل مثلاً، ووجد وتربى في بيئة يكثر فيها الهزل،فسيجمع بين الصفتين، وهكذا في سائر الأمراض جوانب القصور.
وحين يعتني بتربيةنفسه تربية ذاتية، فإنه سيتجاوز كثيراً من سلبيات من يربونه، لتبقى لديه سلبياتهوجوانب قصوره الشخصية.
ولا نزال نسمع شكوى كثير من الشباب اليوم، وتبريرهملجوانب من القصور لديهم بأنهم نشأوا في أوساط تعاني من الضعف التربوي، أو تربوا علىأيدي مربين قصروا في تربيتهم، ولذلك كان لبعض تلك الشكاوى نصيب من الصحة، فكثيرمنها إنما هي أسلوب إسقاط، وهروب من تحميل النفس المسؤولية.
وأيا كان الأمر هذاأو ذاك، فالشاب يتحمل مسئوولية نفسه، ولو كان جاداً لاعتنى بها منذ البداية،ولتجاوز سلبيات الآخرين ومشكلاتهم.
إن هذه المسوغات تؤكد على أهمية الاعتناءبالتربية الذاتية، وحين نعود إلى واقعنا اليوم نجد الوقوع في الإفراط والتفريط فيهذه القضية، فتجد بعض الشباب يؤدي جهداً للآخرين، من خلال درس يلقيه، أو خطبة فيالمسجد، أو من خلال المشاركة في المركز الصيفي، تجد هذا الشاب ينشغل بالأمورالدعوية –ونعم ما انشغل به- لكنه يهمل نفسه وينساها، فيجد بعد فترة أن زملاءهوأقرانه قد فاقوه وأنه قد قصر في حق نفسه، هذه صورة.
والصورة المقابلة هي صورةذاك الشاب الذي يرفض أن يقدم، ويرفض أن يعمل، ويرفض أن يعطي الآخرين من وقته بحجةأنه يريد أن يربي نفسه، وهذا هو الآخر قد جانب الصواب، فلابد من التوازن، لابد أنيقوم الشاب بمسؤوليته فيخصص جزءاً نفيساً من وقته يعلم غيره ويربي غيره ويفيد غيرهويسهم في حفظ وقت غيره، ومع ذلك لا ينسى حظ نفسه، فيعتني بتربية نفسه وتعليمهاوإصلاحها.
جوانب التربية الذاتية
اتضح لنا فيماسبق أهمية التربية الذاتية، وحاجتنا للاعتناء بها، ولكن ما الجوانب التي ينبغي أنيعنى الشخص بتربية نفسه عليها؟ وسنشير هنا إشارة موجزة إلى أهم هذه الجوانب؛ إذالتفصيل يتطلب حديثاً موسعاً عن التربية لا يتسع له هذا الوقتالمحدود:
الجانب الأول:
الصلة بالله عز وجل: وهذا أهم الجوانبوآكدها، فكل مابعده إنما هو ثمرة ونتيجة له، ومن وسائل تحقيق ذلك: عناية الإنسانبالفرائض واجتناب المعاصي، ومحاسبة النفس على ذلك ومبادرتها بالعلاج حين التقصير،وبعد ذلك استزادته من النوافل كنوافل الصلاة، ونوافل الصدقة والصيام والتلاوةوالذكر.
الجانب الثاني:
العلم الشرعي: ووسائل تحصيله لا تخفىعلينا إما من خلال الدراسة النظامية، أو من خلال مجالس العلم وحلقاته المقامة فيالمساجد، أو من خلال الأنشطة الشبابية حيث تقام فيها دروس علمية وحلقات علمية، أومن جانب البحث الفردي الذي يبذله صاحبه، من خلال القراءة والإطلاع، أو من خلالالاستماع للأشرطة العلمية والدروس العلمية.
الجانب الثالث:
التربية على العمل: إن الإنسان فيحياته الخاصة حين يريد إتقان نشاط أو حرفة معينة، كالسباحة، أو قيادة السيارة - علىسبيل المثال- حين يريد ذلك فإنه لايقتصر على الجانب النظري، وعلى سؤال من يجيدونها،بل يعتني بالتدريب والممارسة، والمهارات الدعوية كذلك فهي تُتقن من خلال التدريبوالممارسة.
وسائل التربية الذاتية
الوسيلة الأولى: الصلة بالله عز وجل:
كما أن الصلةبالله عز وجل من الجوانب التي ينبغي أن يعنى بها المرء في تربيته لنفسه، فهي وسيلةمن وسائل تربية النفس.
وبالإضافة إلى ماذكرنا من الاعتناء بالفرائض والبعد عنالمعاصي، والاجتهاد بالنوافل لابد من من السعي لتطهير القلب من التعلق بغير الله عزوجل؛ فصلاح القلب مناط تربية الصلة بالله عز وجل، بل هو مناط النجاة يوم القيامة ،قال الله عز وجل على لسان إبراهيم عليه السلام (ولا تخزني يوم يبعثون. يوم لا ينفعمالٌ ولا بنون. إلا من أتى الله بقلبٍ سليم). في هذه الآيات يدعو إبراهيم عليهالسلام ربه أن يأتي يوم القيام بقلب سليم، وفي الآية الأخرى وصفه تبارك وتعالى بأنهجاء ربه بقلب سليم (وإن من شيعته لإبراهيم * إذ جاء ربه بقلب سليم). .
وأخبرصلى الله عليه وسلّم عن منزلة القلب وأن الجسد كله يصلح بصلاحه، ويفسد بفساده "ألاوإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهيالقلب".
وحين تصلح حال الإنسان مع الله، وتقوى صلته بربه تستقيم سائرأموره.
الوسيلة الثانية: القراءة والمطالعة:
وهذا أيضاً عنصرمهم من عناصر التربية الذاتية، فأنت تقرأ في كتب الرقائق ما يرقق قلبك ويزيل قسوته،وتقرأ في كتب الأخلاق والآداب ما يصلح سلوكك، وتقرأ في كتب أهل العلم مايزيدكعلماً، وتقرأ في تراجم العلماء مايزيدك حماسة للعلم والدعوة والبذل لدين الله عزوجل.
والقراءة تنمي أفق الإنسان، وتفكيره، وتزيد من قدرته على حل المشكلات،فالقراءة تنمي كافة الجوانب وإن كان يتبادر إلى الذهن أنها قاصرة على الجانب العلميوحده.
الوسيلة الثالثة: حفظ الوقت والاعتناء به:
ويتأكد هذاالأمر في حق من اشتغلوا بدعوة غيرهم وتربيتهم؛ فهذا العمل يأخذ عليهم زبدة أوقاتهم،لكن الاعتناء بتنظيم الوقت والحزم مع النفس في ذلك مما يعينهم على أن يوفروالأنفسهم قدرا من الوقت كان يضيع سدى؛ فيستثمروه في تربية أنفسهم والرقي بها، إناستغلال الوقت مهارة وقدرة يحتاج الشاب أن يربي نفسه عليها، وليست مجرد اقتناع منالإنسان بأهمية الوقت.
الوسيلة الرابعة: التفاعل مع البرامج العامة:
إن هناكبرامج عامة يتلقاها الشاب مع إخوانه، كالدرس العلمي والمحاضرة وخطبة الجمعةواللقاءات الجماعية …إلى غير ذلك، وهذه البرامج تحتاج منه إلى أن يتفاعل معها، منخلال التركيز والاستيعاب، ومن خلال أخذ النفس بالعمل والتطبيق بعد ذلك، وقد سبقتالإشارة إلى طوائف ممن كانوا يحضرون أعلى المجالس وأشرفها: مجالس النبي صلى اللهعليه وسلّم وكانوا لا يستفيدون من ذلك، بل كانت وبالاً عليهم.
الوسيلة الخامسة: الجماعية:
لابد من الجماعية فيالتربية الذاتية، وكيف يكون ذلك؟ ذكر الأستاذ محمد قطب حديثاً جميلاً في كتابهمنهج التربية الإسلامية حيث يقول :"وينبغي أن نذكر بصفة عامة أن التنمية النفسيةالصحيحة لا تتم في كيان فرد يعيش بمفرده في عزلة عن الآخرين وفي هذه الفترة بالذات – وهو يتحدث عن فترة الشباب الباكر – كيف يتدرب الإنسان على الأخوة إذا لم يمارسالأخوة بمشاعرها؟ مع الإخوة الذين يربطهم به هذا الرباط؟ كيف يتدرب على التعاون إذالم يقم بهذا الفعل مع أفراد آخرين؟ كيف يتعود أن يؤثر على نفسه إذا لم يكن هناك إلانفسه؟ إن الوجود في الجماعة هو الذي ينمي هذه المشاعر وهذه الألوان من السلوك،والشاب الذي يعيش في عزلة عن الآخرين وإن حاول أن يستقيم على المنهج السليم تنموبعض جوانب نفسه وتظل جوانب أخرى ضامرة؛ لأنها لا تعمل".
إن بعض الشباب يقول: عليأن أنعزل لوحدي لأهتم بتربية نفسي ، وهذا غير صحيح فالجماعية مهمة للتربية الذاتيةلأمور:
أولاً:هناك أمور جماعية لا يمكن أنتؤديها إلا من خلال الجماعة، كمشاعر الأخوة والتعاون والإيثار والصبر على جفاءالآخرين.
ثانياً:من خلال الجماعة تجد القدوةالصالحة وهي مهمة للتربية .
ثالثاً:من خلالالجماعة تجد القدوة السيئة وهي أيضاً مهمة للتربية؛ فحين ترى فرداً سيء الخلق تدرككيف يخسر الآخرين، ومن ثم تدرك شؤم سوء الخلق، وترى إنساناً كسولاً فتدرك أثر الكسلوالتفريط، إذاً أنت تحتاج إلى القدوة السيئة لا تلازمها وتعاشرها لكن عندما ترى هذاالنموذج تجتنبه.
رابعاً:اكتشاف أخطاء النفس،وترويضها؛ فالإنسان الذي يعيش في عزلة يكون في الأغلب إنساناً حاداً في تعامله معالآخرين، مثاليّاً في أحكامه وفي المشروعات التي يطرحها وعندما ينتقد الآخرينوعندما يوجههم، فهو مهما امتلك من القدرات تبقى لديه جوانب قصور واضحة، من خلالالعزلة والسياج الذي فرضه على نفسه، ومن هنا نقول لابد من الجماعة في التربيةالذاتية.
الوسيلة السادسة: الثقة بالنفس:
وذلك بأن يشعر الشابأنه قادر على أن يرقى بنفسه إلى درجات الكمال البشري، أما الكمال المطلق فلا يمكنأن يصل إليه البشر إطلاقاً، فالذي لايثق بنفسه لا يمكن أن يصنع شيئاً، ولا يمكن أنيرتفع بها أو يرتقي بها.
ولابد مع الثقة بالنفس من مقت النفس بجانب الله عز وجلحتى تتجنب طرفي الإفراط والتفريط، فالثقة بالنفس تعني أن يعلم الإنسان أنه قادر علىأن يفعل هذا الشيء، وأن يتحمل المسؤولية حين تقع عليه، لكن ذلك لا يعني أن يصاببغرور وإعجاب، بل ينبغي أن يعلم أنه مقصر وأنه مذنب وأنه مخطئ.
وحين أجمع بينالأمرين سيدفعني ذلك إلى بذل الجهد والمشاركة الدعوية ليكون في ذلك تكفيراً لذنبي،ورفعة لدرجاتي عند الله عز وجل.
افترض أني إنسان أعطاني الله عز وجل فصاحةوبلاغة أيمنعني هذا من أن أخطب الناس وأذكرهم بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليهوسلّم ، وإن كنت أشعر بأنني أرتكب المعاصي والذنوب، وهب أن أعطاني الله موهبة فيالتأثير على الآخرين وقدرة في التعامل مع الناس وكسبهم، هل يمنعني شعوري بالتقصيرمن استثمار هذه الموهبة دعوة الناس والتأثير عليهم، وهكذا أيًّا كانت هذه الموهبةألا يدعوني ذلك إلى أن أستغلها في طاعة الله على كل حال؟
الوسيلة السابعة: محاسبة النفس:
وذلك بأن يحاسبالإنسان نفسه قبل العمل وأثناء ه وبعده، وأن يداوم على محاسبة نفسه في كافة جوانبحياته؛ فالمحاسبة هي التي تُعرِّف الإنسان بعيوب نفسه وجوانب ضعفها، وهي التي تعينهعلى علاجها.
الوسيلة الثامنة: العزلة الشرعية:
ونعني بالعزلةالشرعية أن يكون للشاب حظ من الوقت يخلو فيه بنفسه، ويقبل فيه على الله عز وجل يقولابن القيم - رحمه الله - في مدارج السالكين تعليقاً في قوله صاحب المنازل في درجاتالإيثار قال: ألا يقطع عليك طريق السير والطلب إلى الله جل وعلا مثل أن تؤثر جليسكعلى ذكرك وتوجهك وجمعيتك على الله؛ فتكون قد آثرته على الله وآثرت بنصيبك من اللهما لا يستحق الإيثار؛ فيكون مثلك كمثل رجل سائرٍ على الطريق لقيه رجل فاستوقفه وأخذيحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق، وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق الساعي إلى الله جلوعلا . فإيثارهم عليه عين الغبن وما أكثر المؤثرين على الله غيره، وما أقل المؤثرينالله على غيره، وكذلك الإيثار ما يفسد على المسلم وقته قبيحٌ أيضاً مثل أن يؤثر فيوقته ويفرق قلبه في طلب خلقه، أو يؤثر بأمر قد جمع همه وأمره إلى الله؛ ليفرق عليهقلبه بعد جمعيته ويشتت خاطره، وهذا أيضاً إيثارٌ غير مشروع، وكذلك الإيثار باشتغالالقلب والفكر في مهمات الخلق ومصالحهم التي لا تتعين عليك، على الفكر النافعواشتغال القلب بالله ونظائر ذلك لا تخفى، بل هو حال الخلق والغالب عليهم ، وكل سببيعود عليك بصلاح قلبك ومحاسبة نفسك مع الله فلا تؤثر به إنما تؤثر الشيطان على اللهوأنت لا تعلم" .
إذاً فمهما كنت في ميدان من ميادين الخير: ميدان أمر بالمعروفونهي عن المنكر، أو ميدان تعليم علم ، أو ميدان جهاد في سبيل الله، فلابد أن يكونلك نصيب -ولو كان يسيراً - تخلو فيه مع الله عز وجل، فتتلو فيه كتاب الله عز وجلوتتدبره، وتقوم الليل أو تصوم، فهذا زاد لك يعينك على هذا العمل الذي تفرغتله.
التربية الذاتية ومفاهيمخاطئة
لا شك أن الإنسانحينما يفكر في موضوع معين ويعتني به ويتفاعل معه، قد يكون لديه خلل أو فهم خاطئ نتيجة مبالغته في النظرة إلى هذا الموضوع، ومن هنا كان لابد أن نشير إلى بعضالمفاهيم الخاطئة التي قد تتبادر للذهن من خلال سماع هذا الموضوع، أو من خلالتفكيرنا بحاجتنا إلى التربية الذاتية.
أولاً: استقلال النفس:
فقد يشعر بعض الشباب أننا الآنحشدنا الأدلة والمؤيدات في إقناعه بتربية نفسه، فيقول:ما دمت أدرك عيوبي أكثر منغيري، وما دمت مسؤولاً مسؤولية فردية، فأنا لست بحاجة إلى الآخرين، لست بحاجة إلىأن أحضر إلى مجالس العلم فبإمكاني أن أحصله بنفسي، ولست بحاجة إلى مشاركة الشبابالصالحين في برامجهم، إلى غير ذلك وهذا خطأ فالناس بحاجة إلى التعليم، وبحاجة إلىالتربية وقديماً قيل: من كان أستاذه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه، فمن أراد أن يتعلمالعلم من خلال الكتب وحدها لا يمكن أن يبلغ الغاية، ومن أراد أن يربي نفسه في هذاالعصر وهذا المجتمع وسط هذا الزخم الهائل من المغريات والشهوات والفتن التي قدتتحدث عن شيء منها في محاضرة الغد (عناية الشريعة بسد ذرائع الفاحشة) إن شاء اللهفي هذا الوسط الذي يظن أنه يستطيع أن يستقل بنفسه فهذا وهم كاذب، فلابد له من رفقةصالحة يعينونه على طاعة الله ، وكان صلى الله عليه وسلّم كما يقول ابن عباس : "أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل" فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلّم يستفيد من لقائه بجبريل وهو رسول الله صلى الله عليه وسلّمأفضل الخلق فغيره من باب أولى.
إذاً فحديثنا عن التربية الذاتية وأهميتها لايعني إطلاقاً استقلال الشاب، فمع تأكيدنا على التربية الذاتية وأهميتها فنحن نؤكدأيضاً على الجماعية، كما ذكرنا أن من وسائل التربية الذاتية الجماعية، وذكرنا أنالإنسان الذي يعيش في وسط فردي بحت يعيش في نشاز إنسان شاذ في سلوكه ونشاطه وأخلاقهومن جلوسك معه تعلم بأنه إنسان لا يعيش ولا يخالط الآخرين.
ثانياً: التفريط في الدعوة:
ومن المفاهيم الخاطئةللتربية الذاتية: التفريط في الأعمال الهامة بحجة تربية النفس، فبعض الناس يقولأريد أن أتفرغ لكي أربي نفسي وأتعلم وأستزيد من العلم، ثم بعد ذلك يمكنني أن أقومبالدعوة إلى الله عز وجل .
إن الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية اليوم لا يسمحلنا بهذا التباطؤ والتأخر، وأهل الشر يبذلون جهوداً جبارة في سبيل نشر باطلهم، وهبأننا قلنا للشباب جميعاً يجب أن تتفرغوا للعلم وحفظ القرآن وللإبداع فيه ثم تنزلونإلى الميدان، فمن سيتولى تربية هؤلاء الشباب، ومن سيقوم بالأمر بالمعروف والنهي عنالمنكر، ومن سينفق على المحتاجين والضعفاء، ومن سيقوم بالجهاد في سبيل الله .
إنالشاب الذي تفرغ حينما يتخرج بعد ذلك سيحتاج إلى طريقة للتعامل مع وقته، وإلى تضحيةلم يكن اعتاد عليها فيكون من الصعب عليه أن يعمل هذه الأعمال، لا يعرف كيف يتحدث معالآخرين، لا يعرف المشكلات لم يعرف ولا كيف يواجهها.
وهذا نبي من أنبياء الله قدتفرغ لعبادته وترك الحكم بين الناس فعاتبه الله ألا وهو داود (وهل أتاك نبأ الخصمإذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا علىبعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط … الآية).
وكم تصدىالنبي صلى الله عليه وسلّم للناس حتى أثر على عبادته صلى الله عليه وسلّم فكان فيآخر حياته يصلي جالساً كما تقول عائشة حين حطمه الناس، وهكذا المصلحون والعلماءوغيرهم من الناس الذين تصدوا لدعوة الناس.
والأمر يحتاج إلى اعتدال، فلايسوغ أننهمل الدعوة والإصلاح بحجة تربية أنفسنا، وفي المقابل لا يسوغ أن نهمل أنفسنا،فلنؤت كل ذي حق حقه. والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين