عباس.. إذ يرتدي العار
الثلاثاء 17 شوال 1430 الموافق 06 أكتوبر 2009
غزة/ صالح النعامي
لم يكن من المستهجَن أن يأمر رئيس سلطة رام الله محمود عباس بعدم بحث تقرير "غولدستون" في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي دعا إلى تقديم مجرمي الحرب الإسرائيليين للمحاكمة الدولية، لكن المستهجن حقًا هو أن يُبدي الكثيرون استهجانهم واستغرابهم لهذه الخطوة. فقد كان من المستهجن حقًا أن تسلك سلطة رام الله غير هذا السلوك؛ لأنها كانت شريكة فعليَّة في جرائم الحرب، لكونها كانت طرفًا فيها. فقد خشيت السلطة أن تقدم إسرائيل للرأي العام العالمي أدلة دامغة تدلل على مطالبة قادة السلطة لقادة الاحتلال بمواصلة الحرب على القطاع حتى القضاء على حركة حماس، بغض النظر عن عدد المدنيين الفلسطينيين الذي يسقطون قتلى وجرحى.
إن ما أقدمت عليه السلطة من سلوك خياني مشين يدلل بما لا يدع مجالاً للشك على أن وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان كان محقًا تمامًا عندما صرح أكثر من مرة مؤخرًا أن السلطة قد طالبت الحكومة الإسرائيلية إبان الحرب الإجرامية على غزة بمواصلة الحرب حتى النهاية، علاوة على أن ما أقدم عليه عباس يؤكد التقارير التي زخرت بها الصحف الإسرائيلية والتي وثَّقت محاضر اللقاءات التي جمعت مسئولي الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة وقادة جيش الاحتلال، حيث يستشف من هذه المحاضر أن سلطة رام الله قد اتفقت على تفاصيل التقاسم الوظيفي مع الاحتلال في مجال محاربة حركات المقاومة، لدرجة أنه يستدل من بعض هذه المحاضر على أن بعض قادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية كان يتباهى في هذه اللقاءات بأن عناصر أمن السلطة بإمكانهم تدنيس المساجد بأحذيتهم عند مداهمتها بحثًا عن المقاومين، في حين لم يصل جيش الاحتلال إلى هذا الدرك.
من يستهجن سلوك السلطة هذا وأجهزتها الأمنية تقوم بتعذيب المقاومين ونسائهم لمنعهم من تنفيذ عمليات ضد الاحتلال؟، ولا مجال هنا لرواية ما تعرض له أكثر من 1350 فلسطينيًّا وفلسطينية اعتقلوا في سجون السلطة وتعرضوا للتعذيب بسبب علاقة مزعومة مع المقاومة. ولقد دأبت السلطة على هذا السلوك منذ أن تأسست، فمن ينسى قيام جهاز الأمن الوقائي الذي كان يتزعمه عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" حاليًا جبريل الرجوب بتسليم أعضاء خلية "صوريف" التابعة لـ "كتائب القسام"، الجناح العسكري لحركة حماس عام 1997، بعدما كانوا محتجزين في أحد سجون الرجوب للجيش الإسرائيلي، مع العلم أن هؤلاء الأبطال كانوا مسئولين عن تنفيذ عدد كبير من العمليات النوعية أسفرت عن مقتل وجرح عدد كبير من جنود الاحتلال ومستوطنيه.
لكن المهزلة لا تقف عند هذا الحد؛ بل تصل إلى حدود غير معقولة عندما يطالب عباس شخصيًا بتشكيل لجنة للتحقيق في ملابسات طلب عدم بحث تقرير غولدستون، مع أنه شخصيًا هو الذي أرسل طلبًا مكتوبًا لممثل سلطته إبراهيم خريشه لتقديم الطلب فورًا. ومن باب احترام وعي القراء يتوجب عدم مناقشة مزاعم خريشه الذي برر عدم تقديم الطلب بالقول بأن السلطة كانت تخشى أن يؤثر التصويت على التقرير إلى توقف "عملية السلام" !!. فـ "عملية السلام" التي يتشبث بها خريشه وسيده عباس هي تلك العملية التي تضمن لإسرائيل مواصلة قضم المزيد من أراضي الضفة الغربية ببناء آلاف الوحدات السكنية وتهويد القدس وتكريس حقائق العدوان على الأرض.
وبالإضافة إلى الشراكة مع إسرائيل في جرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني، فإن أحد مسوغات عباس لطلب عدم بحث تقرير غولدستون هي حرصه على ضمان الامتيازات التي يحصل عليها هو والمحيطون به، حيث إن إسرائيل هددت بشكل واضح وجلي بأنها ستمنع السلطة من القيام ببعض المشاريع الاقتصادية في الضفة الغربية إذا تم بحث تقرير غولدستون في مجلس حقوق الإنسان. ولسنا هنا بحاجة إلى تذكير أحد بحجم الشراكات الاقتصادية والتجارية التي تربط ياسر نجل محمود عباس بعدد من الشركات الإسرائيلية؛ حيث إنه يوظف موقع أبيه في مراكمة رصيده في البنوك.
ومع كل ما تقدم فإن هناك بعض الاستنتاجات التي يتوجب الخلوص إليها في أعقاب العار الذي جلبه عباس على نفسه وعلى سلطته العميلة:
أولاً: أن ادعاء حركة فتح وممثليها أنها لا تتحمل المسؤولية عن هذا الفعل الخياني، على اعتبار أن من قام بهذا الفعل المشين هم السلطة وأدواتها فهذه صورة أخرى من صور الاستعباط المثير للغثيان. أليس عباس هو رئيس حركة "فتح"؟، أليس كل المحيطين بعرفات هم من حركة "فتح"؟، ألم يكن إبراهيم خريشه ممثل عباس في اجتماع مجلس حقوق الإنسان والذي كان يمنع رئيس المجلس التشريعي المنتخب عزيز الدويك وبقية ممثلي حماس في المجلس التشريعي من دخول المجلس بصفته مدير إداري في المجلس بدعم وتفويض من حركته "فتح"؟.
إن الحل الوحيد لتبرئة فتح هو حل مستحيل بطبيعة الحال، ويتمثل في براءة الحركة ومؤسساتها ممن أقدموا على هذا الفعل المشين وعلى رأسهم عباس...وهذا الحل مستحيل؛ لأن معظم الذين يشغلون المواقع القيادية في مؤسسات "فتح" الرسمية لهم سجِلٌّ غير مشرف في ملفات لا تقل خطورة عن هذا الملف، ومن لا يصدق فليستعرض أسماء أعضاء اللجنة المركزية الجديدة الذين انتُخبوا خلال انعقاد المؤتمر العام السادس للحركة الذي صوره بعض الكتبة المأجورين بأنه "غيَّر مجرى تاريخ حركة فتح وبعثها من الرقاد".
ثانيًا: يتوجب تشكيل لجنة تحقيق في أعقاب ما جرى، لكن ليس لتحقيق في ملابسات ما جرى، بل التحقيق مباشرة في مسؤولية عباس عن هذا الفعل؛ لأن خريشة كان واضحًا وصريحًا عندما قال بأنه قدَّم طلبًا لعدم التصويت على تقرير "غولدستون" بناءً على طلب "القيادة الفلسطينية"، وهو يقصد عباس وزمرته.
ثالثًا: يتوجب الانتهاء مرة وللأبد من تعريف الانقسام الداخلي على أنه خلاف بين حركتي فتح وحماس، بل هو انقسام بين حركات مقاومة وسلطة عميلة للاحتلال. إذ أن مواصلة التشبث بالمفهوم الحالي للانقسام ينطوي على تضليل كبير يخدم أجندات بعض الأطراف الفلسطينية التي تحاول جني الثمار من كل المواقع. وعليه فإنه يتوجب أن يراعي أي اتفاق مصالحة هذا التعريف الجديد. فعلى سبيل المثال، لا الحصر: يتوجب أن يكون من البديهي تجريد سلطة رام الله من كل الأدوات التي تسمح بمواصلة عمالتها العلنية مع الاحتلال عن طريق التنسيق الأمني، مع كل ما يتطلبه ذلك من ضرورة إعادة صياغة الأجهزة الأمنية على أسس جديدة.
ثالثًا: مطالبة قوى اليسار الفلسطيني مغادرة مربع النفاق في تعاملها مع الشأن الوطني. فعلى الرغم من أن أصوات ممثلي قوى اليسار كانت الأعلى في التنديد بقرار السلطة، إلا أنها تأبى أن يترتب على هذا التنديد فعل وطني عملي.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا قوة، بعد هذا الفعل الخياني الذي أقدمت عليه قيادة السلطة: ما هو مسوغ بقاء ممثلي اليسار في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي يرأسها عباس؟ إن بقاء الجبهة الشعبية والديمقراطية وغيرها من قوى اليسار في اللجنة التنفيذية إلى جانب عباس وعبد ربه وعريقات يعني القبول بالفعل الخياني المشين الذي أقدمت عليه قيادة السلطة، ولا يمكن العثور على تفاسير أخرى لذلك.
إن ممثلي اليسار على الرغم من إدراكهم أن عباس هو الذي يقف وراء قرار طلب التأجيل على التصويت على تقرير غولدستون، إلا أنهم لم يوجهوا أي انتقاد مباشر له؛ لأنه ببساطة مسئول عن صنبور الأموال الذي يتدفق إلى جيوب قادة بعض فصائل اليسار، فـعضو اللجنة التنفيذية يتقاضى عشرة آلاف دولار شهريًا، وليس واردًا لدى هؤلاء توجيه انتقاد لعباس قد يدفعه لإغلاق الصنبور، من هنا فإن أحد أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير والذي يشغل في نفس الوقت منصب عضو مكتب سياسي لإحدى قوى اليسار طالب بالتحقيق مع خريشه، مع أن خريشة أعلن بصريح العبارة أن ما أقدم عليه كان بالتشاور مع عباس.