أصلان مسخادوف.. ضيّعته الحرب وقتله السلام!
الزعيم الشيشاني أصلان مسخادوف
إذا أردت أن تختزل مأساة أصلان مسخادوف فبوسعك أن تراه رجلا وقف في منتصف الطريق، فلا هو كان مغامرا إلى درجة التعاون مع أعدائه لرسم مستقبل الشيشان ضمن حدود الدولة الروسية، ولا هو كان خياليا فرمى بنفسه وراء حلم الدولة الإسلامية المستقلة الكبرى التي تمتد من البحر إلى البحر (بحر قزوين والبحر الأسود هذه المرة)
أصلان مسخادوف ترك نفسه لمن حوله فضاعت خطاه، قدم نفسه طريا فصوره البعض ضعيفا يسهل قيادته، ورآه آخرون حريصا على رفقاء القضية حتى لو لم يكن مقتنعا بأساليبهم.
من المنفى إلى العالم
ولد أصلان مسخادوف في 1951 في كازاخستان في المنفى الذي أرسل إليه ستالين الشعب الشيشاني كغيره من جيل النفي الكبير. وتلقى تعليما عسكريا وخدم في الجيش السوفيتي حتى وصل إلى منصب جنرال قبل أن يستقيل ويعود إلى الشيشان ليشارك في الحركة القومية الساعية إلى الاستقلال في أوائل التسعينيات. صار الساعد الأيمن لأول رئيس للشيشان الجنرال جوهر دوداييف. اختير في عام 1997 رئيسا للشيشان، وظل بهذا المنصب حتى الحرب الشيشانية الثانية التي اشتعلت في بداية عام 2000، وظل يقود المقاومة الشيشانية حتى أعلن اغتياله في 8 مارس الجاري.
اكتسب أصلان مسخادوف معرفة العالم به من خلال ثلاثة مواقف:
- انتخاب الشعب الشيشاني له رئيسا للجمهورية بنسبة 60% متفوقا على سليم خان يندرباييف، وتوقيعه اتفاقية الترتيب لاستقلال الشيشان مع الرئيس الروسي بوريس يلتسين عام 1997.
- عدم تضامنه مع سياسة تفجير القطارات واحتجاز الرهائن في المسارح والمدارس وغيرها، باعتبارها أساليب جنونية تشوه سمعة المقاومة الشيشانية. ولكنه كان يؤكد في أعقاب كل حادثة أن روسيا هي المسئولة عن هذه العمليات بإخضاعها الشيشان تحت سيطرتها رغما عنها.
- مناداته على مدى السنوات الأخيرة بالاستعداد للتفاوض والحوار لإيقاف نزيف الدم في الشيشان. ونجح في إرسال "أحمد زكاييف" وزير الثقافة في حكومته السابقة مبعوثا إلى الدول الأوربية فحقق زكاييف تقدما ملموسا في إيقاظ الوعي الشعبي الأوربي بما يجري في الشيشان.
الخيار الصعب بين بن لادن وياسر عرفات
في نهاية عام 1999 كانت المناقشات الإعلامية الروسية تغازل مسخادوف "المعتدل" وتدعوه إلى الاتفاق والتفاهم، حتى إن بعض السياسيين والخبراء -والجيش الروسي يزحف نحو جروزني لإسقاطها- رشحه للبقاء في رئاسة الشيشان إذا هو سلم "الوهابيين" برئاسة شامل باساييف للقوات الروسية.
لم يكن مسخادوف ليستطيع أن يتبرأ من باساييف أو يسلمه للروس، ليس لأن الأخير له نفوذ طاغ اكتسبه من خبرة حرب العصابات وتكتيكات الميليشيات فحسب، بل لأن باساييف رسخ شرعيته كعقل مدبر قلب هزيمة الشيشان في عام 1995 إلى نصر بعد عملية مستشفى بودينوفسك
(1). وبتكتيكات باساييف المرعبة، ظهرت المقاومة الشيشانية كقوة جسورة ركّعت روسيا العظمى.
تعتبر "غزوة داغستان"
(2) النقطة المفصلية في مأساة أصلان مسخادوف وكثير من قادة الحركة الشيشانية. باساييف الذي كان قد لمع نجمه اختار تصعيد الموقف ولم يتمكن أحد من الوقوف أمامه.
غادر مفتي الجمهورية أحمد قاديروف معترضا إلى معسكر الروس، بينما أبى مسخادوف أن يخون عهده لجوهر دوداييف وللشعب الشيشاني الذي انتخبه. وقف مسخادوف عدة أشهر مترددا قبل أن يتبع فريق باساييف دون أن يكون مقتنعا بما اختار، لكن البديل كان أن يتحول إلى قاديروف ثان.
في ذلك الوقت كانت روسيا ما تزال تعيش في أواخر أيام بوريس يلتسين المشغول تارة بمرضه وتارة بجمع أوراقه في الكرملين والإفلات من تهم الملاحقة بالفساد. لم يكن أحد يتوقع أن رئيس الوزراء الشاب فلاديمير بوتين سيشعل حربا في الشيشان تعيدها إلى أجواء الحقبة الستالينية.
هكذا انخدع مسخادوف ووقع في الخطأ المميت، استهان بروسيا فلاديمير بوتين من ناحية، وترك نفسه فخطفته جماعة باساييف من ناحية ثانية. لم يخطف باساييف مسخادوف فحسب، بل خطف المقاومة الشيشانية بأسرها. فر مسخادوف مع المقاومة الشيشانية إلى الغابات والجبال في جنوب الشيشان محافظا على لقبه رئيسا لجمهورية أتشكيريا بين صفوف المقاومة.
وبالتدريج بدأت المقاومة تصحو على واقع مختلف، أدركت أنها لا تواجه ذلك الجيش الروسي المتهالك الذي كسرته في حرب الشيشان الأولى 1994-1996، وبدا لمسخادوف أنهم قد وصلوا إلى نقطة اللاعودة يقودهم باساييف فعليا ويقودهم هو اسما.
لم يكن مهما لباساييف أن يصنفه الإعلام كإرهابي دولي أو أمير حرب أو حتى بن لادن روسيا، كما لم تستهوه مغازلات الصحافة الأوربية لمسخادوف مشبهة إياه بياسر عرفات الشيشاني أو شارل ديجول القوقاز.
لم يكن لدى باساييف بريء وجلاد، فكل الروس مجرمون. يقول في حديث للقناة الرابعة للتلفزيون البريطاني: "كل ما يحقق هدفنا فهو مشروع، سواء استهدفنا مدنيا أو عسكريا".
على مذبح السلام
أصلان مسخادوف
أخيرا حسم مسخادوف أمره في مطلع عام 2004 وبدأ في محاولات سرية للتفاوض مع الحكومة الروسية، بدأت الرائحة تنبعث مع تصريح أحمد قاديروف قبل أشهر من مصرعه حينما قال: إنه سيدخل الشيشان إلى تاريخ جديد بعد أن يسلم مسخادوف نفسه تاركا "عصابة" باساييف في العراء. توالت الأحداث، اغتيل قاديروف وارتكبت مذبحة بيسلان وقطع السبيل على التفاوض.
اضطر مسخادوف للانتظار ثانية، من مايو 2004 إلى فبراير 2005 ليعلن عن هدنة من طرف واحد لإيقاف أي هجوم من المقاتلين الشيشان. في الأيام الثلاثة الأول من شهر مارس 2005 أعرب مسخادوف في آخر مقابلة صحفية أجراها قبل اغتياله عن أمله في أن يلتقي بالرئيس بوتين لمدة 30 دقيقة وهو واثق أنها ستنتهي بإيقاف الحرب في الشيشان.
يقول مسخادوف في المقابلة التي أذاعها راديو الحرية: "الرئيس بوتين لا يعرف حقيقة ما يجري في الشيشان، إن جنرالاته وضباط مخابراته يخدعونه ولا يقدمون له الحقيقة، يمكننا أن نصل في حوار صريح ومباشر إلى إيقاف الحرب".
إذا ترجمنا مسلك مسخادوف في مساره التفاوضي الأخير فيمكن أن نستشف ما يلي:
1 - أن المقاومة الشيشانية تستشعر أن الخناق قد ضاق عليها وأن ما تبقى لها يكفي بالكاد للتماهي والاختفاء.
2 - أن ما تعرض له الشعب الشيشاني من كافة صنوف التعذيب لم يعد يترك طاقة لحماية المقاومة من ناحية، ولم يعد هذا الشعب قادرا على البقاء من ناحية أخرى. وبشهادات روسية فإن الشعب الشيشاني يتعرض بحجة التعاون مع المقاومة لأكبر عملية "تطهير عرقي".
3 - أن اتفاقا ما يمكن أن يقوم به مسخادوف مع الروس سيقدم للحكومة الروسية نصرا لامعا إذا ما سمي التفاوض "استسلاما" بعد أن انهارت سمعة الدولة بعد حادثة بيسلان. وفي المقابل يستفيد الشيشانيون بتفاوض (استسلام) مسخادوف في إيقاف الحملة العنصرية ضدهم، وربما يتم إشراك مسخادوف في شكل ما من أشكال إدارة الجمهورية.
توجه مسخادوف بهذه القناعات إلى الروس، وبدلا من أن يلقى الترحيب اغتالته القوات الروسية؟ (الرواية الروسية أنه قتل في مخبأ أثناء التحضير لعملية تفجيرية).
ربما لم ينتبه مسخادوف إلى أنه قد صار كالخيل الطاعنة في السن، لا مكسب من وراء المراهنة عليها. ما يتبقى للرئيس فلاديمير بوتين في الكرملين ثلاث سنوات بالكاد تصلح لقتل المناوئين لا التفاوض معهم. مسخادوف توجه للسلام وليس معه ما يغري بالتفاوض. كان باساييف يعرف ذلك، وهو يعرف أيضا أن احتجاز الرهائن قد يدفع الروس للتفاوض، وهكذا لا يستبعد البعض وقوع بيسلان جديدة.
هؤلاء اغتالوا مسخادوف
أصلان مسخادوف اغتيل لأنه وقع ضحية أطراف عديدة:
فهو ضحية المتعجلين في المقاومة الشيشانية الذين لم يشغلوا أنفسهم بإعادة بناء الأرض التي دمرتها الحرب الأولى، وجروا وراء شعارات إقامة الشريعة الإسلامية خارج حدود الجمهورية في وقت كانت العاصمة جروزني تحتاج فيه إلى كل من يرفع حجرا ويداوي جريحا.
هو إذن ضحية جماعة من المغامرين يسميها المراقبون في الغرب "أمراء الحرب"، ويسميها الشامتون في الشرق صعاليك "الإسلامويين" وأصحاب فانتازيا الغزوات.
وهو ضحية أحداث سبتمبر التي وحدت واشنطن وموسكو، فأُطلق لروسيا العنان تفعل ما تشاء دون حساب ودون مراجعة. كما هو ضحية الغزل المتبادل بين بوش وبوتين لتبادل المصالح في عالم آسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأدنى.
وهو ضحية النفاق الدولي الذي يجعل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا في سبيل تحالفها مع روسيا لا تبدي اعتراضا تجاه إبادة جماعية. وقد أحسن الفيلسوف أندريه جلوكسمان في صحيفة الليموند الفرنسية حينما خاطب شيراك وشرويدر وبوش بالقول: "تقبلوا يا سادة امتنان قيصر الكرملين، تقبلوا شكره لموقفكم الصامت بعد أن اغتالت قواته مسخادوف الرئيس الشرعي الذي شهدت بشرعيته المنظمات الدولية".
وهو ضحية مثاليته وأوهامه التي أوصلته إلى الاعتقاد بأن حوارا في 30 دقيقة سيحل مشكلة ظلت قرونا دون حل.
مسخادوف الذي استنكر كل حوادث قتل المدنيين داعيا الدول الكبرى إلى الاستماع إلى صوت السلام من قلب المقاومة الشيشانية، لم يقل أحد كلمة بحق مقتله، ولم يعترض أحد على عرض جثته عارية مفقوعة العينين غارقة في بركة من الدماء.
في عشر سنين (1996-2005) اغتيل أربعة رؤساء للشيشان، من جوهر دوداييف مرورا بيندرباييف، وقاديروف، ووصولا إلى مسخادوف. كان لدى الرؤساء الأربعة حلم الدولة الشيشانية وإن اختلفت المناهج. سقط الرؤساء الأربعة في حوادث اغتيال دون أن يحققوا من حلمهم شيئا. عاشوا على صوت القنابل والرصاص وماتوا على نفس الصوت.
اخوكم saher
منقول