الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .... أمـا بـــعـــد :
أسوق لكم أحبتي هذه القصة الرائعة جداً جداً جداً ..
وهي مأخوذة من كتاب أروع من الرائع ، واسمه : لوحات نبوية
زوايا جديدة لقصص السيرة ..
للشيخ الفاضل الدكتور : عبدالوهاب الطريري ..
وأسأل الله أن يرزقني و إياكم مثل هذه الأخلاق العالية المذكورة في القصة ..
إليكم القصة :
العنوان : ( لا تغضب ) ..
عاد صلى الله عليه وسلم إلى بيته
حتى دنا من حجراته ، وما نظن إلا أنه كان كالاً بعد يوم مثل كل أيامه يقضيه في دعوته
وبلاغ رسالته ، وأنه عاد مجهود البدن ، مجهود النفس بعد أن بذل للناس خُلُقَهُ وَ بَشَرَهُ ،
وفضله و بره ، ثم عاد إلى بيته أحوج ما يكون إلى مستراحه و أنسه ليريح بدنه ونفسه ..
كان صلى الله عليه وسلم يسير وقد ارتدى برداءٍ نجراني غليظ الحاشية ،
أداره على عنقه وألقى فضله على منكبه ، حتى اذا وصل إلى حجرته وكاد أن يدخلها ،
اذا بأعرابي من أهل البادية يسارع إليه حتى اذا أدركه جذب طرف ردائه من خلفه جذبةً شديدةً
فاجأت النبي صلى الله عليه وسلم وكان من أثر هذه الجذبة :
1 – اختل توازن النبي صلى الله عليه وسلم فتقهقر إلى الخلف حتى رجع في نحر الأعرابي ..
2 – انشق الرداء من شدة الجذبة الأعرابية .
3
– غاصت حاشية الرداء في عنق النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل أنس رضي الله عنه ينظر
إلى عنق النبي صلى الله عليه وسلم وكان عنقه أبيض وضيئاً
كأنه إبريق فضة ، فإذا حاشية الرداء قد أثرت في صفحة عنقه صلى الله عليه وسلم
من شدة جذبة الأعرابي ..
لقد كان من المتوقع حينئذٍ أن يمتقع الأعرابي لما جرى ، وأن يعتذر عما حدث
وأن يتلطف للنبي صلى الله عليه وسلم طالباً عفوه ، ولكن ليس هذا الذي جرى ،
فقد نادى النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً : يا محمد .
إنه نداءٌ بجفاء فاللهُ يقول : ( لا تَجْعَلُواْ دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كِدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضَاً ) ..
ثم طلب فقال أعطني من مال الله الذي عندك .
إنه الجفاء في المسألة أيضاً .
وبعد : فأتمنى منك أن تتوقف لحظة عن القراءة وتغمض عينيك وتفكر في الإنفعال الذي يمكن
أن تثيره متوالية المثيرات المستفزة هذه ؟؟
جذبة شديدة أرجعت النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوراء ، وشقت الرداء ،
و أثرت في صفحة العنق الشريف ، ثم نداءٌ بجفاء ، وطلبٌ بإلحاف ..
كثف هذه الصورة في ذهنك وتخيل أيُّ حريق من الغضب يكفي واحداً منها لإشعاله في القلب
فكيف بها مجتمعة ؟؟
فكِّر في ردة الفعل المتوقعة لهذه المثيرات المتتابعة ..
أما نبيك صلى الله عليه وسلم ، فقد كانت ردة فعله عجباً عاجباً ، سمت فوق ضوابط الإنضباط ،
ومثل المثالية إلى أفق أعلى ، إنه أفق العظمة المحمدية .
لقد التفت فلم يعرض ، وضحك و لم يتجهم ، و أحسن و لم يعاقب ،
يقول أنس رضي الله عنه وهو شاهد هذا المشهد :
(( فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ثم ضحك ، ثم أمر له بعطاء )) ..
*** ننتهي من رواية هذه القصة ، ولكننا بحاجة إلى أن نعيدها و نكرر إعادتها بصمتٍ متأمل
و فكرٍمستغرق ، حتى تتشربها كل خلايا الوجدان ..
ونقف مع معان ٍ منها ثلاث وندع تداعيات المعاني لنفسك المتأملة و تفكيرك العميق .
·
1- إن هذه المثيرات بفجائتها و جفائها تشعل نيران الغضب في النفس ، وتثير ردة فعل غاضبة و منفعلة ،
وغالباً ما تأتي ردة الفعل الغاضبة سريعة وفجائية كما كان المثير سريعاً و مفاجئاً ..
لكن نبيك صلى الله عليه و سلم لم يكن يتعامل مع المثيرات بقانون الفيزياء
( لكل فعل ردة فعل مساوية له في القوة ومعاكسة له في الإتجاه ) ،
ولكنه كان يتعامل بقانون آخر ، إنه قانون العظمة الأخلاقية ( وإنك لعلى خلُقٍ عظيم ) ..
إن أشد ما يبهرك في تجاوب النبي صلى الله عليه و سلم أنها ردة الفعل السريعة التلقائية
ومع ذلك جاءت وكأنما هي معدة بعنايةٍ بالغة :
إلتفاتٌ يدل على الإهتمام ، تبسم يدل على الترحيب ، إكرام و بذل يقضي الحاجة ،
وما ذاك إلا للعمق الأخلاقي في وجدان النبي صلى الله عليه و سلم ..
إن التروي من هذا الدرس النبوي يطفئ نيران الغضب في القلوب ، ويسكب السكينة في النفوس ،
ويجعل زمام انفعالاتنا بأيدينا بدل أن تكون أفعالنا بيد انفعالاتنا ..
· 2- إن الذي يقول لمن قال له أوصني : فقال : (( لا تغضب )) ،
فيكررها مراراً فيقول : (( لا تغضب )) ، والذي يقول :
(( إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )) هو صلى الله عليه و سلم
الذي يستثار هذه الإستثارة فلا يغضب ، ويملك نفسه أيما تملك عند مثيرات الغضب ..
إنه التناغم الرائع بين الدعوة و القدوة ، و الأقوال و الأفعال ، ليتحقق من ذلك التكامل المبهر
في شخصية النبي صلى الله عليه و سلم في تمثل مكارم الأخلاق التي بعث بتتميمها ،
و إن الدعوات تظل باهتة منطفئة الأثر مالم تتمثل واضحة متألقة في شخصية دعاتها ..
· 3- ألا نتساءل ما الذي دفع هذا الأعرابي أن يطلب ما يطلب بكل هذا الوثوق ،
بل و يتجاوز إلى حد الجفاء و الإلحاف ، ألا يخاف عقوبة ؟؟ ألا يخشى بطشاً ؟
إن الجواب بوضوح أنه كان يعيش في خفارة أخلاق محمد صلى الله عليه و سلم
التي أعطته الأمان و الثقة ليعبر عما في نفسه ، ويطالب بما يظنه حقه .
وليعيش شخصيته كاملة لا يحجمها الخوف ، ولا يشوهها الإذلال ،
ولذلك فإن أولئك الذين كانوا يطالبون بحقوقهم ، هم الذين أدوا واجباتهم وحملوا إلى العالمين رسالة نبيهم ،
يرخصون لها أغلى ما يملكون ، مهجهم التي بين جوانحهم
بعد أن ملكها رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتربية العالية التي تبني الشخصية
وتعزز الثقة ، وتشعر كلاً بقيمته ، و إنسانيته ، و أهميته ،
فكان كل واحد منهم شخصية سوية واثقة واضحة معبرة .
أما عندما يُسْكِت الخوف الألسنة فإن القلوب تصبح مدافن للأحقاد ...
انتهت القصة ..
منقووووول