الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفال قال : قيل : وما الفال ؟ قال : الكلمة الطيبة »
ما هو التشاؤم؟
الشام والشؤم ضد اليمن الذي هو البركة، ويقال رجل مشؤوم على قومه أي جر الشؤم عليهم، ورجل ميمون أي جر الخير والربكة واليمن على قومه، أنظر لسان العرب ومعجم مقاييس اللغة
والعرب تقول: جرى له الطائر بكذا من الخير والشر، قال أبو عبيدة: الطائر عندهم الحظ وهو الذي تسميه العامة البخت، يقولون هذا يطير لفلان أي يحصل له، قلت: ومنه الحديث فطار لنا عثمان بن مظعون أي أصابنا بالقرعة لما اقترع الأنصار على نزول المهاجرين عليهم وفي حديث رويفع بن ثابت حتى أن أحدنا ليطير له النصل والريش والآخر القدح أي يحصل له بالشركة في الغنيمة
وقال الحليمي : " التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال "
والمقصود بالحديث من يجر النقص والشؤم على نفسه. وما يسمى بالنظرة السوداوية إلى النفس بأنه مشؤوم وسيء الحظ
آثاره :
1- باب الوساوس والشيطان. قال ابن القيم: " اعلم أن من كان معتنيا بها قائلا بها كانت إليه أسرع من السيل إلى منحدر فتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه وينكد عليه عيشه، فإذا سمع سفرجلا أو أهدى إليه تطير به، وقال سفر وجلاء، وإذا رأى ياسمينا أو سمع اسمه تطير به وقال يأس ومين، وإذا رأى سوسنة أو سمعها قال سوء يبقى سنة..وإذا خرج من داره فاستقبله أعور أو أشل أو أعمى أو صاحب آفة تطير به وتشاءم بيومه "
2- حياته نكد وكدر وعنت: والمتطير متعب القلب، منكد الصدر، كاسف البال، سيء الخلق، يتخيل من كل ما يراه أو يسمعه، أشد الناس خوفا، وأنكدهم عيشا، وأضيق الناس صدرا، وأحزنهم قلبا، كثير الاحتراز والمراعاة لما لا يضره ولا ينفعه، وكم قد حرم نفسه من حظ، ومنعها من رزق وقطع عليها من فائدة
3- صاحبه دائما في المؤخرة: صاحبه لا يرتقي نحو تحسين أحواله، وتصحيح مفاهيمه، ومعرفة نقاط الضعف من القوة في جميع تصرفاته، فإذا أخفق في تجارة، أو أصيب بمصيبة، أو تجمد في وظيفة أرجع هذا كله لسوء الحظ، وبالتالي لا يرجع إلى نفسه والتي بإمكانه أن يصحح مسارها ويتدارك ما قصر فيه. بل يبقى كئيبا كسبفا عاجزا، في مؤخرة الركب، لا يعرف التطور ولا يرغب في التغيير، ولا يسعى لمعرفة الأسباب فضلا أن يأخذ بها
4- النظر الحادة للناس: نظرته للآخرين قاسية. يحكم عليهم دون رعاية منه للظروف، أو تحر للعدالة والإنصاف، فيعمى عن جدهم واجتهادهم وصبرهم ومثابرتهم وجميع حسناتهم، وينسج حولهم بخياله ما يشتهيه من الأخطاء والنقائص، ويحمل كلامهم تفسيرات من نفسه ليس لها أصول ولا قواعد ولا متعلقات، ويعتبر نفسه دائما هو الضحية
5- يرى أن أسباب الشقاء انعقدت فيه: فيتصور أن الناس كل الناس يعيشون حياة السعادة كل السعادة دون تعب ولا كدر ولا حزن ولا هم ولا نصب، وأن جميع هذه الأشياء قد اجتمعت فيه. وما علم هذا القائل لنفسه أن هذه الحياة طبعت على كدر وعنت يستوي فيها العني والفقير، والعظيم والحقير، والصغير والكبير { لقد خلقنا الإنسان في كبد } [البلد:4] { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه } [الانشقاق:6]
6- يصاب بعمى الألوان: ولا يزال الشيطان بهذا المسكين يجعله يذوق الحسرات ويشعر بالمرارة حتى في حال فوزه وربحه ونجاحه، فإذا ما ربح ألفا نظر إلى غيره بأنه ربح خمسة فيزداد حسرة وأسفا إلخ.
فيصاب بعمى الألوان وبالأصح بعمى القلوب { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } [الحج:46] قد حبس نفسه طوعا في كآبة وكدر
وبدلا من بذل الجهد في معرفة مصالحه وأحواله ونقائصه ونقاط ضعفه، تجده يصرف جهده وطاقته في مراقبة الناس فيتولد عنده الهم كما قيل (من راقب الناس مات هما)
7- احتراق قلبه بالغيرة والحقد على كل من حوله: ثم تنشأ عنده الغيرة وتنفذ إليه من هذا الطريق ولا تزال تأكل قلبه حتى يبغض كل من حوله، وهنا نقطة التحول من البناء إلى الهدم والتخريب قد يؤول به إلى نسف المجتمع كله. قال صلى الله عليه وسلم: كما روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا »
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث أيام »
ولو راجع نفسه وتدبر كتاب ربه لوجد العلاج، يقول تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } [الشورى:30]
{ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } [الروم:41]
فيتأمل بكامل هدوء فيجد أنه باستطاعته أن يتدارك آثار إخفاقه ويعوض ما خسره فيه بقليل من الجد والنشاط
8- ضعف البدن، فالمتشائم يهزل ويضعف لأنه يأكل نفسه بنفسه، حسرة وحسدا ويرى أنه لا فائدة من المعالجة، أو مقاومة أدواء النفس
9- خور الهمة: إن من لا يرى إلا الإخفاق ولا يفكر إلا بالخيبة، سينتهي حتما ويتوقف من كل نشاط وتتحول همته إلى الدناءات
10- يتصور أن الأمة كل الأمة مشغولة به وبإلحاق الضرر فيه وأن الناس يخططون لإيذائه فيتخلق بالخلق السيئ من الحقد والحسد والبغضاء، وحب الأذى للآخرين، والتخريب والغيرة
11- العزلة والإنطواء، والتعاظم في الباطن
12- يصبح صاحبه عبدا للخزعبلات والخرافات
13- نفق يقوده إلى الشرك بالله تعالى. قال ابن القيم: ( التطير هو التشاؤم من الشيء المرئي أو المسموع فإذا استعملها الإنسان فرجع بها من سفره وامتنع بها مما عزم عليه فقد قرع باب الشرك، بل ولجه وبرىء من التوكل على الله وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله سبحانه وتعالى، والتطير مما يراه أو يسمعه، وذلك قاطع له عن مقام إياك نعبد وإياك نستعين، واعبده وتوكل عليه، وعليه توكلت وإليه أنيب، فيصير قلبه متعلقا بغير الله عبادة وتوكلا فيفسد عليه قلبه وإيمانه )
وحاله يبقى هدفا لسهام الطيرة ويساق إليه من كل أوب ويقيض له الشيطان من ذلك ما يفسد عليه دينه ودنياه، وكم هلك بذلك وخسر الدنيا والآخرة، فأين هذا من الفال الصالح السار للقلوب، المؤيد للآمال، الفاتح باب الرجاء، المسكن للخوف، الرابط للجأش، الباعث على الاستعانة بالله والتوكل عليه، والاستبشار المقوي لأمله السار لنفسه فهذا ضد الطيرة، فالفال يفضي بصاحبه إلى الطاعة والتوحيد، والطيرة تفضي بصاحبها إلى المعصية والشرك فلهذا استحب صلى الله عليه وسلم الفأل وأبطل الطيرة
أسباب التشاؤم :
1- عدم الرضا بقضاء الله تعالى وقدره، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنه لم يكن أكبر منه. فأنت تجد رجلين أصيبا بمصيبة واحدة أحدهما فرحا مسرورا، والآخر مغموما مقهورا محسورا
2- عدم مشاهدة نعمة الله تعالى عليه في نفسه وأهله
روى الترمذي وابن ماجة عن عبيد الله بن محصن الأنصاري عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أصبح منكم معافى في جسده آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا »
3- سوء الظن بالله جل وعلا. واعتراض على أمره وحكمه وحكمته، فيرى أن فلانا أعطي ما لا يستحق من المال والولد، وأنه أحق بهذا منه..
4- جعل الدنيا أكبر همه: روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له »
5- النظر إلى من فوقه ومن فضل عليه: روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه »
روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله » قال أبو معاوية « عليكم » ، وهذا هو العلاج الناجح لهذه العقبة الخبيثة
6- سوء الظن بالآخرين وأنهم لا يستحقون ما حصلوا عليه فهم لا يفضلونه بشيء
7- الجهل وضعف العقل
8- ضعف الإيمان وقلة ذكر الله تعالى.
سلف المتشائمين :
ولم يحك الله سبحانه وتعالى التطير إلا عن أعداء الرسل كما قالوا لرسلهم : { قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم ، قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون } [يس:18-19]
وكذلك حكى الله سبحانه وتعالى عن قوم فرعون فقال : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الأعراف:131]
حتى إذا أصابهم الخصب والسعة والعافية قالوا لنا هذه أي نحن الجديرون الحقيقون به ونحن أهله، وإن أصابهم بلاء وضيق وقحط ونحوه قالوا هذا بسبب موسى وأصحابه أصبنا بشؤمهم ونفض علينا غبارهم كما يقوله المتطير لمن يتطير به فأخبر سبحانه أن طائرهم عنده
كما قال تعالى عن أعداء رسوله : { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } [النساء:78]
فهذه ثلاثة مواضع حكى فيها الطير عن أعدائه
وأجاب سبحانه وتعالى عن تطيرهم بموسى وقومه بأن طائرهم عند الله لا بسبب موسى
وأجاب عن تطير أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : { قل كل من عند الله } وأجاب عن الرسل بقوله : { طائركم معكم } ، وأما قوله : { ألا إنما طائركم عند الله } فقال ابن عباس رضي الله عنهما : طائرهم ما قضى عليهم وقدر لهم، وفي رواية شؤمهم عند الله ومن قبله، أي إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله
وقال أيضا : إن الأرزاق والأقدار تتبعكم وهذه كقوله تعالى : { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } [الإسراء:13]
أي ما يطير له من الخير والشر فهو لازم له في عنقه
وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي أنه قال: يا رسول الله ومنا أناس يتطيرون، فقال : « ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنه » فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لا مارآه وسمعه
علاج التطير :
وقد شفى النبي صلى الله عليه وسلم أمته في الطيرة حيث سئل عنها فقال : « ذلك شيء يجده أحدكم فلا يصدنه » وفي أثر آخر : « إذا تطيرت فلا ترجع » أي امض لما قصدت له ولا يصدنك عنه الطيرة
واعلم أن التطير إنما يضر من أشفق منه وخاف، وأما من لم يبال به ولم يعبأ به شيئا لم يضره البتة ولا سيما إن قال عند رؤية ما يتطير به أو سماعه: ( اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يذهب بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك )
فالطيرة باب من الشرك، وإلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته يكبر ويعظم شأنها على من أتبعها نفسه واشتغل بها وأكثر العناية بها، وتذهب وتضمحل عمن لم يلتفت إليها ولا ألقى إليها باله ولا شغل بها نفسه وفكره
فأوضح صلى الله عليه وسلم لأمته الأمر وبين لهم فساد الطيرة ليعلموا أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة ولا نصبها سببا لما يخافونه ويحذرونه، لتطمئن قلوبهم ولتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله وأنزل بها كتبه وخلق لأجلها السموات والأرض وعمر الدارين الجنة والنار، فبسبب التوحيد ومن أجله جعل الجنة دار التوحيد وموجباته وحقوقه، والنار دار الشرك ولوازمه وموجباته، فقطع صلى الله عليه وسلم علق الشرك من قلوبهم لئلا يبقى فيها علقة منها ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهله البتة
وقال الماوردي: "ينبغي لمن مني بالتطير أن يصرف عن نفسه دواعي الخيبة وذرائع الحرمان، ولا يجعل للشيطان سلطانا في نقض عزائمه، ومعارضة خالقه، ويعلم أن قضاء الله تعالى عليه غالب، وأن رزقه له طالب، إلا أن الحركة سبب، فلا يثنيه عنها ما لا يضير مخلوقا ولا يدفع مقدورا، وليمض في عزائمه واثقا بالله تعالى إن أعطى، وراضيا به إن منع
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين