بسم الله الرحمن الرحيم
إذا ما مات ذو علم وتقوى *** فقد ثُلِمت من الإسلام ثُلمة
وموتُ الحاكم العدلِ المولّى *** بحكم الشرع منقصةٌ ونقمة
وموت العابدِ القـوّام ليـلاً *** يُناجي ربّه في كـل ظلمـة
وموتُ فتىً كثير الجود محـلٌ *** فإن بقاءه خصـبٌ ونعمـة
وموتُ الفارس الضرغام هدمٌ *** فكم شهِدتْ له بالنصر عزمة
فحسبُك خمسةٌ يُبكى عليهم *** وباقي الناس تخفيف ورحمـة
وباقي الناس همـجٌ رعـاعٌ ** وفي إيجادِهـم لله حكمـة
قال ابن القيم - رحمه الله -: والمقصود بهذا كما قال عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه -: الناسُ ثلاثة: فعالمٌ ربانيّ، ومتعلّمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رَعَاع أتباعَ كلِّ ناعق، يميلون مع كلّ ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق.
قبل أسبوعين (وقت كتابة المقال)، وبالتحديد آخر جمعة من شهر الله المحرّم انتقل إلى الرفيق الأعلى عابد من عبّاد المدينة النبوية وقد وُصِف بأنه عمود من عُمد المسجد النبوي وحُق له ذلك الوصف فقد أمضى قرابة ثلاثين سنة في مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - عرفته منذ أكثر من عشر سنوات فعرفت فيه العابد الزاهد الصادق - فيما أحسب - عرفت فيه الرجل الذاكر الصائم القائم يخرج قبيل صلاة العصر من بيته إلى المسجد النبوي وغالبا لا يعود إلا بعد صلاة العشاء إن وجد من يقوم بإيصاله إلى المسجد النبوي وإلا مشى على أقدامه رغم بعد المسافة وقبل صلاة الفجر يخرج من بيته إلى المسجد النبوي فهو صاحب صلاة، وهو أيضا - كما عرفته - صوّام.
تراه فلا ترى سوى الجلد *** يكسو العظام الـنّـُحَّـل!
تُحبه بمجرّد أن تسمع عنه، وإذا رأيته لا يستأذن قلبك للدخول بل يدخل إلى شغاف قلبك رآه ابن أخي قبل سنوات فأحبه من أول لقاء!
فكان ابن أخي في الأعياد يطلب مني مرافقته للمدينة لزيارة هذا العابد الصوّام القوّام.
عجيب هذا الرجل!
منذ أن كان قبل ثلاثين سنة تقريبا وهو في حفر الباطن كان يُكثر التحدّث عن سُكنى المدينة النبوية، فأكثر ذِكرها حتى سكنها، فلما سكنها كان قلّما يُغادرها، وإن غادرها فسُرعان ما يعود إليها.
مرض في آخر حياته، فكان لا يرضى أن يُصلي لوحده، رغم شدة المرض يطلب من أحد أبنائه أن يأتي للمستشفى ليُصلي معه جماعة، فتكون له جماعة ولابنه نافلة، ثم يأمر ابنه أن يُدرك الجماعة!
حدثني ابنه الذي صلى معه آخر صلاة، وهي صلاة الفجر من يوم الجمعة 28 / 1 / 1425 هـ
قال: صليت معه صلاة الفجر، فلما قضينا الصلاة قال لي: أدرك الجماعة!
يقول: فانصرفت، وبقيت بحيث أراه ولا يراني فإذا هو يسجد ويُكرر السجود حتى قُبِض!
سبحان الله!
مَن عامَل الله نجـا
ومَن عامَل الله فاز وأفلح
ومن عامَل الله فلن يخيب
قُبِض بعد أن أدى صلاة الفجر، ولم يرضَ أن يُصلي لوحده رغم وجوده في المستشفى
وقُبِض صبيحة يوم الجمعة وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر". رواه الإمام أحمد والترمذي.
نحسبه صدق الله فصَدَقَه الله.
وعمود آخر من أعمدة المسجد النبوي وُصِف بذلك أيضا هو رجل من أهل مدينة عنيزة أمضى قريبا من ثلاثين عاما في المسجد النبوي
مكانه خلف الإمام، يفتح على الإمام (يردّ عليه) وربما صلّى بالجماعة وفي آخر أيامه زار محافظة عنيزة وكان ينوي أن يُقيم بها أسبوعا وفجأة قال لأحد أولاده: أريد أن أعود إلى المدينة!
هكذا دون سابق إنذار!
فعاد إلى الأرض التي أحب
وإلى البقعة التي طالما أحبها
فعاد إلى المدينة النبوية
وهناك أدى الصلاة في المسجد النبوي ثم مات وهو يُصلي. فرحمه الله -
عامَل الله بصدق فيما نحسب فعامله الله بصدق
لم يمت إلا حيث أحب أن يموت
ولم يُدفن إلا حيث كانت رغبته أن يُدفن
يخرج من المدينة في زيارة قصيرة
ولكنه قطع تلك الزيارة
وكأنه يُساق إلى أجله حيث كانت رغبته
فرحم الله هؤلاء العُـبَّـاد
-------
قلتُ هذا وكتبته شحذاً للهمم
وتسلية للنفوس أن الأرض لم ولن تخلو من عباد لله فُطنا طلّقوا الدنيا وخافوا الفِتنا.
فإلى من نظر إلى فساد أهل الزمان
وإلى من نظر إلى السوء في إبداء السوءات
ها هو الخبر اليقين
أنقله إليك عن العابِدِين
أما الأول فهو: عبد الرحمن بن أحمد التركي
وأما الثاني فهو: عبد العزيز بن علي الشبل
رحم الله الجميع برحمته الواسعة.
كتبة عبدالحمن السحيم