فمن اختار الجهاد يصحبني!
كان الرسالة بمثابة التحدي النهائي لآخر قيادة إسلامية، وعلى ضوء الموقف الذي ستقرر هذه القيادة اتخاذه سيتوقف مصير عالم الإسلام وحضارته التي صنعها كدح القرون الطوال.
كل المؤشرات كانت تقود إلى الاستسلام للتحدي والإذعان لضروراته..
ولكن الإيمان له منطق آخر.. إنه لا يمنح القدرة على الحركة في ظروف الشلل التام فحسب، ولكنه يهب بصيرة نافذة تخترق حجب العمى والظلام لكي تطل على الأفق الذي يشع ضياء..
وبالحركة القديرة والرؤية الصائبة تجابه القيادات الفذة تحديات التاريخ ومحنه وويلاته فتخرج منها ظافرة وتحقق بالاستجابة قفزة نوعية في مجرى الفعل والتحقق.
قرأ سيف الدين قطز الرسالة واستدعى أمراءه ليعرض الأمر عليهم.. وجرى هذا الحوار.
قطز: ماذا ترتؤون؟
ناصر الدين قيمري: إن هولاكو، فضلاً عن أنه حفيد جنكيزخان، فإن شهرته وهيبته في غنى عن الشرح والبيان، وإن البلاد الممتدة من تخوم الصين إلى باب مصر كلها في قبضته الآن، فلو ذهبنا إليه نطلب الأمان فليس في ذلك عيب وعار! ولكن تناول السم بخداع النفس واستقبال الموت أمران بعيدان عن حكم العقل! إنه ليس الإنسان الذي يطمأن إليه، فهو لا يتورع عن احتزاز الرؤوس وهو لا يفي بعهده وميثاقه، فإنه قتل فجأة الخليفة وعدداً من الأمراء بعد أن أعطاهم العهد والميثاق، فإذا ما سرنا إليه فسيكون مصيرنا هذا السبيل!
قطز: والحالة هذه، فإن كافة بلاد ديار بكر وربيعة والشام ممتلئة بالمناحات والفجائع، وأضحت البلاد من بغداد حتى الروم خراباً يباباً، وقضي على جميع من فيها من حرث ونسل.. فلو أننا تقدمنا لقتالهم وقمنا بمقاومتهم فسوف تخرب مصر خراباً تاماً كغيرها من البلاد، وينبغي أن نختار مع هذه الجماعة التي تريد بلادنا واحداً من ثلاثة: الصلح أو القتال أو الجلاء عن الوطن. أما الجلاء عن الوطن فأمر متعذر، ذلك لأنه لا يمكن أن نجد لنا مفراً إلا المغرب، وبيننا وبينه مسافات بعيدة..
قيمري: وليس هناك مصلحة أيضاً في مصالحتهم إذ أنه لا يوثق بعهودهم!
عدد من الأمراء: ليس لنا طاقة ولا قدرة على مقاومتهم، فمر بما يقتضيه رأيك..
قطز: إن الرأي عندي هو أن نتوجه جميعاً إلى القتال، فإذا ظفرنا فهو المراد، وإلا فلن نكون ملومين أمام الخلق.
الظاهر بيبرس: أرى أن نقتل الرسل ونقصد كتبغا –قائد المغول- متضامنين، فإن انتصرنا أو هُزِمنا فسنكون في كلتا الحالتين معذورين.
أيد الأمراء كافة هذا الرأي.. وكان على قطز أن يتخذ قراره.. وقد اتخذه فعلاً.. قتل الرسل وعلق رؤوسهم على باب زويلة أياماً.. ورفع رأسه متحدياً بمواجهة الطاغية، وأصدر أوامر بالتجهز للقتال »جهاداً في سبيل الله ونصرة لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم«..
وإذ رأى تردداً وجبناً ونكوصاً من عدد من الأمراء ألقى كلمته المؤثرة: »يا أمراء المسلمين! لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين«..
وما كان للأمراء جميعاً، إزاء قيادة مؤمنة كهذه، إلا أن يخلعوا رداء العجز والوهن ومحبة الدنيا.. ويقفوا متحدين بمواجهة الفتنة التي إن لم تدفع بالدم فإنها لن تكتفي لضرب الذين ظلموا منهم خاصة!
اليوم الفصل
انطلقت القوات الإسلامية بقيادة سيف الدين قطز واجتازت سيناء باتجاه غزة سالكةً الطريق المحاذي للبحر، وتولى الظاهر بيبرس قيادة المقدمة. ولم يكن في غزة سوى قوة صغيرة من المغول بقيادة بايدر الذي أرسل إلى القائد المغولي كتبغا الذي أنابه هولاكو لإتمام الغزو غرباً، يخطره بحركة الجيش الإسلامي، غير أن المسلمين اكتسحوا عساكره قبل أن تصل إليه النجدة.
كان كتبغا في بعلبك، فتجهز علىالفور للمسير إلى وادي نهر الأردن بعد أن يتجاوز بحر الجليل، غير أن منعه اشتعال ثورة المسلمين في دمشق ضد السلطة المغولية وأنصارها من النصارى المحليين حيث حطمت دورهم وكنائسهم، واشتدت الحاجة إلى العساكر المغولية لإعادة الأمن إلى نصابه. وفي تلك الأثناء كان قطز يواصل السير على الساحل الفلسطيني ثم انعطف إلى الداخل ومضى شمالاً لتهديد مواصلات كتبغا إذا حدث وتقدم إلى فلسطين.
عبر كتبغا نهر الأردن وتوجه صوب الجليل الشرقي، فبادر قطز على الفور بالانعطاف بقواته باتجاه الجنوب الشرقي مجتازاً الناصرة حيث وصل في الرابع عشر من رمضان (المصادف الثاني من أيلول عام 1260م) إلى عين جالوت. وفي صبيحة اليوم التالي قدم الجيش المغولي تعززه كتائب كرجية وأرمنية، دون أن يعلم أن جيش المماليك أضحى قريباً منه. وكان قطز يعرف جيداً تفوق جيشه في العدد على العدو ولذا أخفى قواته الرئيسية في التلال القريبة ولم يعرض للعدو إلا المقدمة التي قادها بيبرس. وما لبث كتبغا أن وقع في الفخ إذ حمل بكل رجاله على القوات الإسلامية التي شهدها أمامه، فأسرع بيبرس في تقهقره إلى التلال بعد أن اشتدت مطاردة كتبغا له، فلم يلبث الجيش المغولي بأسره أن جرى تطويقه فجأة، وجرت بين الطرفين معركة طاحنة، واضطربت قوات المماليك بعض الوقت، فدخل قطز المعركة لجمعهم، ولم تنقضِ سوى بضع ساعات حتى بدأ تفوق المسلمين في الميدان، وسحقت زهرة القوات المغولية ووقع قائدهم نفسه أسيراً. وبأسره انتهت المعركة، إذ جرى حمله مقيداً بالأغلال إلى السلطان حيث احتزّ رأسه!
توجه السلطان قطز إلى دمشق بعد أيام قلائل من المعركة حيث استقبل استقبال الأبطال وهرب نواب المغول منها بعد أكثر من سبعة أشهر من خضوعها لسيطرتهم، وقام قائده الظاهر بيبرس بملاحقة فلول العدو شمالاً وتطهير البلاد منهم، حيث قتل وأسر عدداً كبيراً، وتمكن خلال شهر واحد من دخول حلب، المعقل الشمالي، وتخليصه من قبضة الغزاة. وهكذا تم تحرير بلاد الشام وفلسطين من أقصاها إلى أقصاها. ومع أن هولاكو أرسل العساكر لاسترداد حلب فإنهم اضطروا للانسحاب بعد أربعين يوماً أجروا أثناءها المذابح في عدد كبير من المسلمين انتقاماً لمصرع كتبغا، غير أن ذلك كان كل ما استطاع هولاكو أن يفعله للانتقام لقائده الشهير.
لقطات من المعركة
· تقدم الملك المظفر إلى سائر الولاة بإزعاج الأجناد في الخروج للسفر ومن وجد منهم قد اختفى يضرب بالمقارع! فلما كان الليل ركب السلطان وحرك أعلامه وقال: أنا ألقى التتار بنفسي. فلما رأى الأمراء مسير السلطان ساروا على كره!
· أقسم المظفر لقادة الصليبيين في فلسطين أنه متى تبعه منهم فارس أو راجل يريد أذى عسكر المسلمين رجع وقاتلهم قبل أن يلقى التتر!
· أمر الملك المظفر بالأمراء فجمِعوا، وحضهم على قتال التتار وذكرهم بما وقع بأهل الأقاليم من القتل والسبي والحريق، وخوّفهم من وقوع مثل ذلك، وحثّهم على استنقاذ الشام من التتر ونصرة الإسلام والمسلمين، وحذّرهم عقوبة الله، فضجوا بالبكاء وتحالفوا على الاجتهاد في قتال التتر ودفعهم عن البلاد.
· عندما اصطدم العسكران اضطرب جناح عسكر السلطان وانتقض طرف منه فألقى الملك المظفر عند ذلك خوذته عن رأسه إلى الأرض وصرخ بأعلى صوته: »واإسلاماه!« وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، فأيّده الله بنصره..
· مرّ العسكر في أثر التتر إلى قرب بيسان فرجع التتر والتقوا بالمسلمين لقاء ثانياً أعظم من الأول فهزمهم الله وقتل أكابرهم وعدة منهم، وكان قد تزلزل المسلمون زلزالاً شديداً فصرخ السلطان صرخة عظيمة سمعه معظم المعسكر وهو يقول:»واإسلاماه!« ثلاث مرات: »يا الله انصر عبدك قطز على التتار!« فلما انكسر التتار الكسرة الثانية نزل السلطان عن فرسه ومرغ وجهه على الأرض وقبلها، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى ثم ركب، فأقبل العساكر وقد امتلأت أيديهم بالمغانم!
· كتب السلطان إلى دمشق يبشر الناس بفتح الله وخذلانه التتر، وهو أول كتاب ورد منه إلى دمشق. فلما ورد الكتاب سرّ الناس به سروراً كثيراً وبادروا إلى دور النصارى الذي كانوا من أعوان التتار فنهبوها وخربوا ما قدروا على تخريبه، وقتلوا عدة من النصارى واستتر باقيهم، وذلك أنهم في مدة استيلاء التتر هموا مراراً بالثورة على المسلمين وخربوا مساجد ومآذن كانت بجوار كنائسهم، وأعلنوا بضرب الناقوس وركبوا بالصليب وشربوا الخمر في الطرقات ورشّوه على المسلمين!
· لما بلغ هولاكو كسرة عسكرة وقتل نائبه كتبغا، عظم عليه فإنه لم يكسر له عسكر قبل ذلك..
· .. وأتم الملك المظفر السير بالعسكر حتى دخل دمشق، وتضاعف شكر المسلمين لله تعالى على هذا النصر العظيم، فإن القلوب كانت قد يئست من النصرة على التتر لاستيلائهم على معظم بلاد الإسلام، فابتهجت الرعايا بالنصرة عليهم وبقدوم الملك المظفر إلى الشام. وفي يوم دخوله إلى دمشق أمر بشنق جماعة من المنتسبين إلى التتر فشنقوا.. وأنشد بعض الشعراء:
واستجدّ الإسلامُ بعد دحوضِهِ
هلك الكفرُ في الشآم جميعاً
رع سيف الإسلامِ عند نهوضِهِ
بالمليك المظفر الملك الأو
فاعتززنا بسحره وببيضهِ
ملك جاءنا بعزم وحزم
دائما ً مثل واجبات فروضِهِ
أوجب الله شكر ذاك علينا