رسالة عزاء إلى أهل البلاء
د. بدر عبد الحميد هميسه
أيها الحبيب المبتلى ؛ يا من قد ابتليت بفقد عزيز , أو ابتليت بمرض أو فاقة أو هم أو غم , أو عقوق , أو جار سوء إن رأى منك حسنة كتمها وأخفاها وإن رأى منك سيئة أذاعها وأفشاها , ويا من قد ابتلي بصديق قد خان الأمانة ولم يحفظ العهد , ويا من قد ابتليت بزوجة سيئة تشيبك قبل أوان المشيب , ويا من قد ابتليت بزوج سيء لا يرقب لله فيك إلاّ ولا ذمة .
إلى نفسي أولاً وإلى هؤلاء جميعا أقدم هذه الرسالة , والتي من خلالها نتعرف على عدة حقائق منها:
1- المؤمن يدرك حقيقة الدنيا
وحقيقة الدنيا تتمثل في أن :
أ- الدنيا دار امتحان وابتلاء .
اعلم – أخي الحبيب – أن الدنيا لا تخلو من بلية ولا تصفو من محنة و رزية لأن الدنيا دار بلاء،وهم وعناء , قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (2) سورة الملك. وقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (165) سورة الأنعام .
وقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]، وقال سبحانه: \" ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ\" [العنكبوت:1-2-3].
وطالما أن الدنيا دار امتحان وابتلاء فإن المرء فيها لا يسلم من المصائب والمعائب .
المرء رهن مصائب لا تنقضي * * * حتى يوسد جسمه في رَمْسِهِ
فمؤجَّلٌ يلقى الردى في غيره* * * ومعجَّل يلقى الردى في نفسهِ
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن : عظني وأوجز . فكتب إليه: إن رأس ما هو مصلحك ومُصلح به على يديك : الزهد في الدنيا ، وإنما الزهد باليقين ، واليقين بالتفكر ، والتفكر بالاعتبار ، فإذا أنت فكّرت في الدنيا لم تجدها أهلاً أن تبيع بها نفسك ، ووجدت نفسك أهلاً أن تُكرمها بهوان الدنيا ، فإن الدنيا دار بلاء ومنزل رحيل .( البيهقي : الزهد الكبير 1/68).
قال الشاعر :
حكم المنية في البرية جاري * * * ما هذه الدنيا بدار قرار
بينما يرى الإنسان فيها مخبرا * * * ألفيته خبرا من الأخبار
طبعت على كدر و أنت تريدها * * * صفوا من الأقذار و الأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها * * * متطلب قي الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما * * * تبني الرجاء على شفير هار
وذكر ابن الجوزي بإسناده عن عبد الله بن زياد قال: حدثني بعض من قرأ في الكتب أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض ومغاربها وبلغ أرض بابل مرض مرضاً شديداً، فعلم أنه مرض الموت وأشفق على نفسه فكتب لأمه معزياً في ذكاء قائلاً: يا أماه، إذا جاءك كتابي فاصنعي طعاماً واجمعي من قدرت من الناس ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة، وتسألي هل وجدت لشيء قراراً. إني لأرجو أن الذي أذهب إليه خيراً مما أنا فيه. فلما وصل كتابه صنعت طعاماً عظيماً وجمعت الناس وقالت: لا يأكل هذا من أصيب بمصيبة. فلم يتقدم أحد من هذا الطعام، فعلمت مراد ابنها فقالت: بني، من مبلغك عني أنك وعظتني فاتعظت وعزيتني فتعزيت فعليك السلام حياً وميتاً. ( تسلية أهل المصائب صـ20،21).
وقال الإمام علي في وصف الدنيا : من صح فيها سقم ومن سقم فيها برم ومن افتقر فيها حزن ومن استغنى فيها فتن حلآلها حساب وحرامها عقاب ومتشابهها عتاب من طلبها فاتته ومن قعد عنها أتته ومن بصر بها بصرته ومن نظر إليها أعمته .
ووصف ابن السماك الدنيا فقال من نال منها مات فيها ومن لم ينل منها مات عليها.(غرر الخصائص الواضحة 55).
يقول ابن الجوزي: ( من أراد أن تدوم له السلامة والعافية من غير بلاء فما عرف التكليف ولا أدرك التسليم).
ب- الدنيا دار ممر لا دار بقاء ومقر.
لقد خلق الله تعالى الدنيا وجعلها دار ممرٍ وليست بدار بقاء ومقرّ، قال تعالى : \" ياقَوْمِ إِنَّمَا هَذه الْحياةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِىَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39].
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنهما : \"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل \" [ رواه البخاري ] . وزاد الترمذي في روايته : ( وعد نفسك من أصحاب القبور) .
وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً حقارة الدنيا : (( ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ، فلينظر بم يرجع )) [ رواه مسلم ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( لوكانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ، ما سقى كافراً منها شربة ماء )) [ رواه الترمذي وصححه الألباني ].
ومن وصايا المسيح - عليه السلام - لأصحابه أنَّه قال لهم : اعبُروها ولا تَعمُرُوها ، ورُوي عنه أنَّه قال : من ذا الذي يبني على موجِ البحر داراً ، تلكُمُ الدُّنيا ، فلا تتَّخذوها قراراً ( ابن رجب: كشف الكربة في وصف أهل الغربة18).
وطالما أن الدنيا ليست بدار خلود ولا مقر فعلى المؤمن أن لا يحزن على أي شيء فات منها .
وجاء في التوراة : \" مَنْ أَصْبَحَ مَحْزُونًا عَلَى الدُّنْيَا أَصْبَحَ سَاخِطًا عَلَى رَبِّهِ , وَمَنْ أَصْبَحَ يَشْكُو مُصِيبَتَهُ فَإِنَّمَا يَشْكُو رَبَّهُ , وَمَنْ دَخَلَ عَلَى غَنِيٍّ فَتَضَعْضَعَ لَهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ , وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَدَخَلَ النَّارَ فَهُوَ مِمَّنِ اتَّخَذَ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا \"البيهقي : شعب الإيمان 12/375.
ولله در القائل :
يا من يعانق دنيا لا بقاء لها***يمسى ويصبح في دنياه سفارا
هلا تركت من الدنيا معانقة حت***ى تعانق في الفردوس أبكارا
إن كنت تبغي جنان الخلد تسكنها***فينبغي لك ألا تأمن النار
يقول سلمان الفارسي : أضحكني ثلاث : مؤمل للدنيا والموت يطلبه وغافل لا يغفل عنه وضاحك بملء فيه لا يدري الله راضٍ عنه أم ساخط .وابكاني ثلاث فراق الأحبة محمد وصحبه وهول المطلع يوم القيامة ووقوفي بين يدي الله لا ادري الله راض عني أم ساخط .
وها هو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يبكي ذات يوم فتبكي زوجته ويبكي أولاده لماذا يا عمر قال تذكرت منصرف الناس يوم القيامة فريق في الجنة وفريق في السعير.
ج- الدنيا لا يدوم نعيمها ولا بؤسها .
لما كانت الدنيا دار اختبار وابتلاء , ممر لا بقاء فإن نعيمها لا يدوم وكذا الشقاء فيها لا يدوم , فهي لا تبقي غنياً على غناه ولا فقيراً على فقره , ولا صحيحا على صحته , ولا مريضاً على مرضه , فعلى العاقل أن لا يغتر بها ولذلك نبَّه القرآن الكريم إلى الإعتبار بفنائها وزوالها : فقال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ {205} ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ {206} مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) الشعراء : 205 ـ 207 .
ومع أول غمسة للمؤمن في الجنة لن يتذكر شيئاً من عذاب الدنيا ولا من شدتها , ومع أول غمسة للكافر في النار لن يتذكر شيئاً من نعيم الدنيا ولا من متاعها . عن أنس مرفوعاً: ((يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت نعيماً قط، ويؤتي بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت بؤساً قط)) [رواه مسلم].
طلب الرشيد ماء ليشرب، ثم قال لابن السماك : عِظني.فقال له: بالله يا أمير المؤمنين لو مُنعت هذه الشربة بكم تشتريها؟ قال بنصف ملكي، قال: لو مُنعت خروجَها بكم كنت تشتريه؟ قال بنصف ملكي الآخر، فقال إن ملكا قيمته شربة ماء لجدير أن لا ينافس فيه، فبكى هارون.وقال له ابن السماك يوماً: إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك وتبعث منه وحدك، فاحذر المقامَ بين يدي الله عز وجل والوقوفَ بين الجنة والنار، حين يؤخذ بالكَظَم، وتزل القدم، ويقع الندم، فلا توبةٌ تقبل ولا عثرةٌ تُقال، ولا يقبل فداءٌ بمال.فجعل الرشيد يبكي حتى علا صوته فقال يحيى بن خالد له: يا ابن السماك لقد شققت على أمير المؤمنين الليلة فقام فخرج من عنده وهو يبكي.( الذهبي : تاريخ الاسلام 13/16).
فعلام يقتل الناس بعضهم بعضا ؟ وعلام يتنافسون ؟ . وروى الحافظ ابن عساكر في تاريخه : أن احمد بن عمار الأسدي قال :خرجنا مع أحد المعلمين الصالحين في جنازة ومعه جماعة من أصحابه فرأى في طريقه كلاباً مجتمعة بعضها يلعب مع بعض ويتمَّرغ عليه ويلحسه فالتفت إلى أصحابه فقال : انظروا إلى هذه الكلاب ما أحسن أخلاق بعضها مع بعض ، قال ثم عدنا من الجنازة . وقد طُرحت جيفة وتلك الكلاب مجتمعة عليها ، وهي تهارش بعضها البعض ، ويخطف هذا من هذا ، ويعوي عليه ، وهي تتقاتل على الجيفة . فالتفت المعلم إلى أصحابه فقال لهم : هل رأيتم يا أصحابي متى لم تكن الدنيا بينكم فأنتم إخوان ، ومتى ما وقعت الدنيا بينكم تهارشتم عليها تهارش الكلاب على الجيفة(مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر 1/378).
ورد في بعض الآثار أنَّ الله عز وجل أرسل ملك الموت ليقبض روح امرأة من الناس فلما أتاها ملك الموت ليقبض روحها وجدها وحيدة مع رضيعاً لها ترضعه وهما في صحراء قاحلة ليس حولهما أحد ، عندما رأى ملك الموت مشهدها ومعها رضيعها وليس حولهما أحد وهو قد أتى لقبض روحها ، هنا لم يتمالك نفسه فدمعت عيناه من ذلك المشهد رحمة بذلك الرضيع ، غير أنه مأمور للمضي لما أرسل له ، فقبض روح الأم ومضى ، كما أمره ربه: (لا يعصون الله ما أمرهم يفعلون ما يؤمرون بعد هذا الموقف - لملك الموت - بسنوات طويلة أرسله الله ليقبض روح رجل من الناس فلما أتى ملك الموت إلى الرجل المأمور بقبض روحه وجده شيخاً طاعناً في السن متوكئاً على عصاه عند حداد ويطلب من الحداد أن يصنع له قاعدة من الحديد يضعها في أسفل العصي حتى لا تحته الأرض ويوصي الحداد بأن تكون قوية لتبقى عصاه سنين طويلة .عند ذلك لم يتمالك ملك الموت نفسه ضاحكاً ومتعجباً من شدة تمسك وحرص هذا الشيخ وطول أمله بالعيش بعد هذا العمر المديد ،ولم يعلم بأنه لم يتبقى من عمره إلاَّ لحظات .فأوحى الله إلى ملك الموت قائلاً : فبعزتي وجلالي إنَّ الذي أبكاك هو الذي أضحكك ( علي نايف الشح ود : المفصل في شرح آية الولاء والبراء 337).
قال الشاعر:
تَبَّاً لدارٍ لا يدومُ نعيمُها** ومَشيدُها عمّا قليلٍ يَخربُ
لا تأمَنِ الدَّهرَ الخَؤُونَ فإنهُ **ما زالَ قِدْماً للرِّجالِ يُؤدِّبُ
وعواقِبُ الأيامِ في غَصَّاتِها **مَضَضٌ يُذَلُّ لهُ الأعزُّ الأنْجَبْ
فعليكَ تقوى اللهِ فالزمْها تفزْ **إنّّ التَّقيَّ هوَ البَهيُّ الأهيَبُ
واعملْ بطاعتِهِ تنلْ منهُ الرِّضا **إن المطيعَ لهُ لديهِ مُقرَّبُ
2- في أنبياء الله أسوة وقدوة
إن الابتلاء سنة عامة وماضية في الخلق جميعاً يتساوى فيها الصالحون والفاسدون , المحسنون والمسيئون , النبيون وغير النبيين , بل إن الأنبياء والرسل الكرام من أشد الناس محنة وابتلاء ؛ إذ هم موضع القدوة ومناط الأسوة , عَنْ سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً ؟ قَالَ : الأَنْبِيَاءُ , ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ , فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ , فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ , وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ , فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ . رواه الترمذي (2398)صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (143).
والمتأمل في حياة الأنبياء والرسل الكرام تتضح له هذه الحقيقة جلية واضحة,فها هو الخليل إبراهيم عليه السلام ابتلي بمعاداة أبيه وقومه له ، وبالإلقاء في النار , قال الله تعالى : ( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ ) الأنبياء/68-70 .
وقال الله تعالى عن موسى : ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ) الصف/5 .
وقال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا} (69) سورة الأحزاب.
وقال تعالى عن حبيبه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم : ( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ) التوبة/61 .
والمتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه ما من ابتلاء من ابتلاءات ومحن الدنيا إلا ابتلى بها صلى الله عليه وسلم , فقد ابتلي باليتم صغيرا , كما ابتلي بتكذيب قومه ومعاداتهم له , قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ﴾ الأنعام: من الآية 34 ,واتهم صلى الله عليه وسلم – وحاشاه – بالجنون وبالسحر وبالشعر , وحتى أنهم أخرجوه من بلده التي هي أحب البلاد إلى الله وأحب البلاد إليه , واتهم بأذى جيرانه من المشركين , وبتخلي بعض عشيرته عنه ومعاداتهم لدعوته , كما أنه قد ابتلي صلى الله عليه وسلم بفقد عزيز , حيث فقد السيدة خديجة رضي الله عنها التي واسته بنفسها ومالها , كما فقد عمه أبا طالب في عام سُمي بعام الحزن , كذا فقد ستة من أبنائه في حياته : القاسم وعبد الله وإبراهيم , ورقية وأم كلثوم وفاطمة , ولم تعش بعده إلا فاطمة الزهراء رضي الله عنها , كما ابتلي صلى الله عليه وسلم بالمرض وظل يعاني من أثر السم الذي دس له في الطعام , حتى لحق بالرفيق الأعلى , عن عَبْدُ ا للهِ بْنُ مَسْعُودٍ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُوعَكُ وَعْكَاً شَدِيدَاً فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكَاً شَدِيدَاً فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلْ إِني أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنْكُمْ فَقُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلْ ثمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذىً مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ إِلا حَطَّ اللهُ لَهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا \" ( متفق عليه ).
كما ابتلي صلى الله عليه وسلم بالفقر عنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ؛ أنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ:وَاللَّهِ يَا ابْنَ اُخْتِي إِنْ كنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهلالِ ثُمَّ الْهِلالِ ثُمَّ الْهِلالِ ، ثَلاثَةَ اهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ ، وَمَا اُوقِدَ فِي ابْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَارٌ . قَالَ : قُلْتُ : يَا خَالَةُ . فَمَا كَانَ يُعَيِّشُكُمْ ؟ قَالَتِ : الاسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ .أخرجه أحمد 6/244 و\"البُخَارِي\" 3/201 و 8/121 .
كما ابتلي صلى الله عليه وسلم بالطعن عليه في عرضه وشرفه حينما اتهم المنافقون والمرجفون السيدة عائشة رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق , العفيفة الشريفة الطاهرة المطهرة والمبرأة من فوق سبع سموات بالفاحشة , إلى غيرها من المحن والابتلاءات التي مر بها صلى الله عليه وسلم .
فاصبـر لكـل مصيبـة وتجـلـدِ* * واعلـم بـأن المرء غير مخلد
واصبر كما صبــر الكرام فإنهـا* * نوبُ اليـوم تُكشَف فـي غدِ
مـن لم يصب ممـن ترى بمصيبة؟* * هذا سبيل لستَ عنه بأوحـد
فإذا ذكـرت مصيبـة ومصـابهـا* * فاذكـر مصابـك بالنبي محمـد
قال ابن القيم في \" الفوائد\" ص (42) : \" الطريق طريقٌ تعِب فيه آدم ، وناح لأجله نوح ، ورُمي في النار الخليل ، وأُضْجع للذبح إسماعيل ، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين ، ونُشر بالمنشار زكريا ، وذُبح السيد الحصور يحيى ، وقاسى الضرَّ أيوب ... وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم \" انتهى .
وأما الحكمة في ابتلاء الأنبياء ؛ فقد قال ابن القيم في \"بدائع الفوائد\" (2/452) : \" فإنه سبحانه كما يحمي الأنبياء ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم :
1- ليستوجبوا كمال كرامته .
2- وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم .
3- ولتمتلئ صاع الكفار فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة فيمحقهم بسبب بغيهم وعداوتهم فيعجل تطهير الأرض منهم .
فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم ، وله الحكمة البالغة . والنعمة السابغة ، لا إله غيره ، ولا رب سواه \" .
4- البلاء قد يكون بالنعم
إن الابتلاء قد يكون بالنعم ؛ وليس بالنقم ؛ فالمرء ينصرف فكره دائما للآلام والمصائب والأحزان إذا قيل ابتلاء بل إن الابتلاء بالنعم أشد وأعظم ولكن .. من أنعم الله عليه وغمره بواسع فضله ومنه ينصرف قلبه إلى الدنيا وملذاتها , وللراحة وهدأتها ... فقد يظلم و ينسى نفسه الغارقة في ملكوت نعيمه , فيقع منه الكثير الكثير ممَ يظلم به نفسه أويظلم به غيره .. بقصد أو بدونه وإن نجى من الظلم , فليس أقل من أن ينسى أن يشكر تلك النعم وينسبها لصاحبها جلّ شأنه سبحانه .. وهذا أعظم إجحاف وأشد ظلم .... بل هو الابتلاء الحقيقي!.
قال تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (35) سورة الأنبياء , وقال عن السابقين: \"وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ\" [لأعراف:168]،وقال على لسان سليمان عليه السلام {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (40) سورة النمل.
قال الشاعر:
قَدْ يُنْعِمُ اللَّهُ بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ * * * وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ
وقد قص علينا النبي صلى الله عليه وسلم قصة الثلاثة الذين ابتلاهم الله بالنعم فشكر منهم من شكر وكفر منهم من كفر , عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِى عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ ثَلاَثَةً فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ أَىُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّى الَّذِى قَدْ قَذِرَنِى النَّاسُ . قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ وَأُعْطِىَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا قَالَ فَأَىُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الإِبِلُ أَوْ قَالَ الْبَقَرُ شَكَّ إِسْحَاقُ إِلاَّ أَنَّ الأَبْرَصَ أَوِ الأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا الإِبِلُ وَقَالَ الآخَرُ الْبَقَرُ قَالَ فَأُعْطِىَ نَاقَةً عُشَرَاءَ فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا قَالَ فَأَتَى الأَقْرَعَ فَقَالَ أَىُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّى هَذَا الَّذِى قَذِرَنِى النَّاسُ . قَالَ فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ وَأُعْطِىَ شَعَرًا حَسَنًا قَالَ فَأَىُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْبَقَرُ . فَأُعْطِىَ بَقَرَةً حَامِلاً فَقَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا قَالَ فَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ أَىُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَىَّ بَصَرِى فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ قَالَ فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ . قَالَ فَأَىُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ الْغَنَمُ . فَأُعْطِىَ شَاةً وَالِدًا فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا قَالَ فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِلِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَرِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ . قَالَ ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِى صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ قَدِ انْقَطَعَتْ بِىَ الْحِبَالُ فِى سَفَرِى فَلاَ بَلاَغَ لِىَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِى أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِى سَفَرِى . فَقَالَ الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ . فَقَالَ لَهُ كَأَنِّى أَعْرِفُكَ أَلَم ْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ فَقَالَ إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ . فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ . قَالَ وَأَتَى الأَقْرَعَ فِى صُورَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَى هَذَا فَقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ . قَالَ وَأَتَى الأَعْمَى فِى صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَعَتْ بِىَ الْحِبَالُ فِى سَفَرِى فَلاَ بَلاَغَ لِىَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللهِ ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِى رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِى سَفَرِى فَقَالَ قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَىَّ بَصَرِى فَخُذْ مَا شِئْتَ وَدَعْ مَا شِئْتَ فَوَاللهِ لاَ أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ فَقَالَ أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رُضِىَ عَنْكَ وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ. أخرجه البخاري 4/208(3464). و\"مسلم\" 8/213 .
روي أنه كان في زمن حاتم الأصم رجل يقال له : معاذ الكبير . أصابته مصيبة ، فجزع منها وأمر بإحضار النائحات وكسر الأواني . فسمعه حاتم فذهب إلى تعزيته مع تلامذته ، وأمر تلميذاً له . فقال : إذا جلست فاسألني عن قوله تعالى : { إن الإنسان لربه لكنود } فسأله فقال حاتم : ليس هذا موضع السؤال . فسأله ثانيا ، وثالثا . فقال : معناه أن الإنسان لكفور ، عداد للمصائب ، نساء للنعم ، مثل معاذ هذا ، إن الله تعالى متعه بالنعم خمسين سنة ، فلم يجمع الناس عليها شاكراً لله عز وجل . فلما أصابته مصيبة جمع الناس يشكو من الله تعالى ؟!!.فقال معاذ : بلى ، إن معاذاً لكنود عداد للمصائب نساء للنعم فأمر بإخراج النائحات وتاب عن ذلك .
ويحكى أن رجلا ابتلاه الله بالعمى وقطع اليدين والرجلين، فدخل عليه أحد الناس فوجده يشكر الله على نعمه، ويقول: الحمد الله الذي عافاني مما ابتلى به غيري، وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلا، فتعجب الرجل من قول هذا الأعمى مقطوع اليدين والرجلين، وسأله: على أي شيء تحمد الله وتشكره؟فقال له: يا هذا، أَشْكُرُ الله أن وهبني لسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا وبدنًا على البلاء صابرًا.
5- البلاء للمؤمن تمحيص وتطهير وللعاضي تحذير وتذكير
البلاءات التي تنزل بالعاصي تذكير وإنذار حتى يعود ويؤوب ويتوب , والبلاءات التي تنزل بالمؤمن تطهير وتمحيص وتكفير لسيئاته وذنوبه , ورفع لدرجاته وستر لعيوبه , قال تعالى {وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (141) سورة آل عمران , وقال:{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (154) سورة آل عمران.
عَن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَعَنْ أَبي هُرَيْرَة ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، قَالَ:مَا يُصِيبُ الْمسلِمَ مِنْ نَصَب ، وَلاَ وَصَب ، وَلاَ هَمِّ ، وَلاَ حَزن ، وَلاَ أَذىً ، وَلاَ غَمّ ، حَتى الشوْكَةِ يُشَاكُهَا ، إِلا كَفَّرَ اللهِ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ. أخرجه أحمد 2/303(8014) و\"البُخَارِي\" 7/148و\"مسلم\" 8/16(6660) .
وقال – صلى الله عليه وسلم - : \" إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً \" رواه البخاري 2996 .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ خَامَةِ الزَّرْعِ يَفِيءُ وَرَقُهُ مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ تُكَفِّئُهَا فَإِذَا سَكَنَتْ اعْتَدَلَتْ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يُكَفَّأُ بِالْبَلَاءِ وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حَتَّى يَقْصِمَهَا اللَّهُ إِذَا شَاءَ \" . أخرجه أحمد 2/523(10785) و\"البخاري\" 7/149(5644) .
وقال صلى الله عليه وسلم : « ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة. رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم (صحيح الجامع (5815).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ. أخرجه مالك (الموطأ) 585. و\"أحمد\" 2/237(7234) و\"البُخاري\" 7/149(5645) و\"النَّسائي\" في \"الكبرى\" 7436 .
وجاء في بعض الأثار \" وعزتي وجلالي لا أخرج عبدا من الدنيا وأحب أن أرحمه حتى أوفيه بكل سيئة عملها سقما في جسده أو إقتارا في رزقه أوإبتلاء في نفسه أو ولده حتى أبلغ منه مثاقيل الذر وإذا بقيت عليه سيئه بعد ذالك شددت عليه بها سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته . \".
فاصبر على البلاء حتى يكون سبباً في رفع درجاتك , وتكفير سيئاتك , ولا تجزع فإن الجزع لا يفيد , وروى أن الحسن بن الحسن بن علي – رضي الله عنهم- لما مات ضربت امرأته القبة على قبره سنةً – وهو عمل لا يقره الشرع الحنيف - ثم رفعت فسمعوا صائحاً يقول: ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا.وفي رواية: لما تسلت وقلعت الخيمة سمعوا هاتفاً يقول – ولا يرون أحداً – ادركوا ما طلبوا فأجابه: بل يئسوا فانصرفوا.
كان لأحد الملوك وزير حكيم وكان الملك يقربه منه ويصطحبه معه في كل مكان. وكان كلما أصاب الملك ما يكدره قال له الوزير “لعله خيراً” فيهدأ الملك. وفي إحدى المرات قطع إصبع الملك فقال الوزير “لعله خيراً” فغضب الملك غضباً شديداً وقال ما الخير في ذلك؟! وأمر بحبس الوزير …فقال الوزير الحكيم “لعله خيراً”ومكث الوزير فترة طويلة في السجن.وفي يوم خرج الملك للصيد وابتعد عن الحراس ليتعقب فريسته، فمر على قوم يعبدون صنم فقبضوا عليه ليقدموه قرباناً للصنم ولكنهم تركوه بعد أن اكتشفوا أن قربانهم إصبعه مقطوع..فانطلق الملك فرحاً بعد أن أنقذه الله من الذبح تحت قدم تمثال لا ينفع ولا يضر وأول ما أمر به فور وصوله القصر أن أمر الحراس أن يأتوا بوزيره من السجن واعتذر له عما صنعه معه وقال أنه أدرك الآن الخير في قطع إصبعه، وحمد الله تعالى على ذلك.ولكنه سأله عندما أمرت بسجنك قلت “لعله خيراً” فما الخير في ذلك؟فأجابه الوزير أنه لو لم يسجنه.. لَصاحَبَه فى الصيد فكان سيقدم قرباناً بدلاً من الملك… فكان في صنع الله كل الخير.
كان أبو ذر جالساً بين الصحابة، ويسألون بعضهم: ماذا تحب؟ فقال: أحب الجوع والمرض والموت. قيل: هذه أشياء لا يحبها أحد. قال: أنا إن جعت: رق قلبي. وإن مرضت: خف ذنبي.
وإن مت: لقيت ربي.
قال الشاعر:
سهرت أعين ، ونامـت عيـون* * * في أمـور تكـون أو لا تكـون
فادرأ الهم ما استطعت عن النفس * * * فحملانـك الهـمـوم جـنـون
إن رباً كفاك بالأمس مـا كـان * * * سيكفيك فـي غـدٍ مـا يكـون
قال ابن رجب في فوائد البلاء :في البلاء تذكير العبد بذنوبــه فربما تاب ورجع وفيه زوال قسوة القلوب وحدوث رقتهــا وانكسـاره لله وذلهِ وذلك أحب إلى الله من كثير من طاعات الطائعين وأنها توجب للعبد الرجوع بقلبـه إلى الله والوقوف ببابه والتضرع له والاستكانة وأن البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوق .وأن البلاء يوصل إلى قلبه لذة الصبر عليه أو الرضا به .
ولقد ضرب علماء السلف الصالح مثلاً رائعاً في جعل البلاء سبباً للعزة والتفوق , فلقد ألَّف ابنُ الأثيرِ كُتبهُ الرائعة ، كـ : «جامعِ الأصولِ»، و «النهايةِ»، بسببِ أنهُ مُقْعَدٌ ,وألَّف السرخسي كتابه الشهير « المبسوط » خمسة عشر مجلَّداً ؛ لأنهُ محبوسٌ في الجُبِّ! وكتب ابنُ القيم ( زاد المعاد ) وهو مسافرٌ !وشرح القرطبيُّ ( صحيح مسلم ) وهو على ظهرِ السفينةِ ! وجُلُّ فتاوى ابنِ تيمية كتبها وهو محبوسٌ !وجمع المحدِّثون مئاتِ الآلافِ من الأحاديثِ لأنهمْ فقراءُ غرباءُ .
6- تعزى بالصبر فهو الأجمل
الصبر مقام الأنبياء والمرسلين، ومنازل المتقين المخبتين ، وحلية أولياء الله المخلصين، وهو أهم ما نحتاج إليه نحن في هذا العصر الذي كثرت فيه المصائب وتعددت، وقلّ معها صبر الناس على ما أصابهم به الله تعالى من المصيبة، ولو يعلم المصابون ما ينالون من الأجر الكبير إن هم صبروا، لتمنوا أن مصيبتهم أشد بلاء، وأعظم نكاء. فالصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، فلا إيمان لمن لا صبر له، ومن يتصبر يصبره الله، والصبر ضياء، بالصبر يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم وبين ذوي الجبن والضعف والخور، والصابرون يوفون أجورهم بغير حساب: قال تعالى \" أُوْلَـئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَـٰماً\" [الفرقان:75]، وقال تعالى عن أهل الجنة: \"سَلَـٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ\" [الرعد:24].
والمصاب هو من حُرِم الثواب الذي وعد به الملك الوهَّاب، حيث قال: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ{156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ{157} (البقرة:155ـ157).
عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: \" يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاَءِ الثَّوَابَ ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بالْمَقَارِيضِ.أخرجه التِّرْمِذِي (2402) صحيح الجامع : 8177.وعَنْ صُهَيْبٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم :عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ.أخرجه أحمد 4/332(19142) و\"الدارمي\" 2777 و\"مسلم\" 8/227 (7610).
وعَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ ، عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ ، أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ ، حَتَّى يُوَفَّى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.أخرجه التِّرْمِذِي (2396).
فعلى المؤمن أن يتحلى بالصبر ويعلم أن من رضي وصبر فله الرضا ومن سخط فعليه السخط .
عَنْ أَنَسٍ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، أَنَّهُ قَالَ:عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ.أخرجه ابن ماجة (4031) والتِّرْمِذِيّ\" 2396.
عَنْ أَبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ ، أًنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ ، قال الله ، لِمَلاَئِكَتِهِ : قَبَضْتُم وَلَدَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ . فَيَقُولُ : قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ ؟ فَيَقُولَونَ : نعَمْ . فَيَقُولُ : مَاذَا قال عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : حَمِدَكَ وَاستَرْجَعَ . فَيَقُولُ الله : ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ . وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ.أخرجه أحمد 4/415 والترمذي (1021 ).
والصبر يتحقق بثلاثة أمور : حبس النفس عن الجزع والسخط,, وحبس اللسان عن الشكوى للخلق , وحبس الجوارح عن فعل ما ينافي الصبر.
كان عروة بن الزبير صبورا حين أبتلي حكي أنه خرج إلى الوليـد بن يزيد فوطىء عظمـا فأصابته فما بلغ إلى دمشق حتى بلغ به كل مذهب فجمع له الوليد الأطباء فأجمع رأيهم على قطع رجله فقالـوا له أشرب مرقـدا فقال : ما أحب أن أغفل عن ذكر الله تعالى فأحمي له المنشار وقطعت رجله فقال ضعوها بين يدي ولم يتوجع ثم قال : لئن كنت ابتليت في عضو فقـد عوفيت في أعضاء فبينمـا هو كذلك إذ أتاه خبر ولده أنه طلع من سطح على دواب الوليد فسقط فمات فقال: الحمـد للـه على كل حال لئن أخذت واحـدا لقـد أبقيت جماعـة ( مختصر تاريخ دمشق 5/275).
وهذا هو نبي الله أيوب عليه السلام: قالت له امرأته: لو دعوت الله أن يشفيك، قال: ويحك! كنا في النعماء سبعين عاماً فهلمي نصبر على الضراء مثلها، فلم ينشب إلا يسيراً أن عوفي. الزمخشري : ربيع الأبرار 1/ 412.أغارت الروم على أربعمائة جاموس لبشير الطبري، فلقيه عبيده الذين كانوا يرعونها معهم، فقالوا: يا مولانا ذهبت الجواميس، قال: فاذهبوا أنتم معها، أنتم أحرار لوجه الله، وكانت قيمتهم ألف دينار، فقال له ابنه: قد أفقرنا! فقال: اسكت يا بني، إن الله اختبرني أن أزيده. الزمخشري : ربيع الأبرار 1/ 416.
قال الشاعر:
لا تكره المكروه عند حلوله ****** إن العواقب لم تزل متباينة
كم نعمة لا يستهان بشكرها ***** لله في طي المكاره كامنة
وروى البيهقي بإسناده في ( مناقب الشافعي51) أن الشافعي رحمه الله بلغه أن عبد الرحمن بن مهدي رحمه اللّه مات له ابن فجَزعَ عليه عبد الرحمن جزعاً شديداً، فبعثَ إليه الشافعي رحمه اللّه : يا أخي عزِّ نفسك بما تَعَزَّى به غيرُك، واستقبحْ من فعلك ما تستقبحُه من فعل غيرك . واعلم أن أمضَّ المصائب فقدُ سرورٍ وحرمانُ أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتِساب وزر ؟ فتناول حظَّكَ يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبَه وقد نأى عنك، ألهمك اللَّهُ عند المصائب صبراً، وأحرزَ لنا ولك بالصبر أجراً، وكتب إليه :
إنّي مُعَزِّيكَ لا أني على ثِقَةٍ * * * مِنَ الخُلُودِ وَلَكِنْ سُنَّةُ الدّينِ
فَمَا المُعَزَّى بِباقٍ بَعْدَ مَيِّتِهِ * * * وَلا المُعَزِّي وَلَوْ عاشا إلى حِينِ
وقال شريح: إني أصاب بالمصيبة فأحمد الله تعالى أربع مرات أحمده إذ لم تكن أعظم منها، وأحمده إذا رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني لاسترجاع ما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني.
فكم لله من منحة في محنة ، وكم من غرق أعقبه فرج ، وكم من عطية منحت في ثوب رزية .
قال مُطرِّف بن عبدالله الشخير: أتيت عمران بن حصين يوماً، فقلت له: إني لأدع إتيانك لما أراك فيه، ولما أراك تلقى. قال: فلا تفعل، فو الله إن أحبه إليّ أحبه إلى الله .وكان عمران بن الحصين قد استسقى بطنه، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة، لا يقوم ولا يقعد، قد نقب له في سرير من جريد كان عليه موضع لقضاء حاجته.فدخل عليه مطرف وأخوه العلاء، فجعل يبكي لما يراه من حاله فقال: لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحالة العظيمة. قال: لا تبك فإن أحبه إلى الله تعالى، أحبه إلي. ثم قال: أحدثك حديثاً لعل الله أن ينفع به، واكتم علي حتى أموت، إن الملائكة تزورني فآنس بها، وتسلم علي فأسمع تسليمها، فأعلم بذلك أن هذا البلاء ليس بعقوبة، إذ هو سبب هذه النعمة الجسيمة، فمن يشاهد هذا في بلائه، كيف لا يكون راضياً به؟!( إحياء علوم الدين 4/349).
كن عن همومك معرضاً * * * وكل الأمور إلى القضا
وابشر بخـيرٍ عـاجـلٍ * * * تنسى به ما قد مضـى
فلربَّ أمرٍ مـسـخـطٍ * * * لك في عواقبه الرِّضـا
ولربما اتسع المضيق * * * وربما ضاق الفضا
الله يفعل ما يشا * * * فلا تكن متعرضا
7- اللجوء إلى الله تعالى لكشف البلاء
المسلم الحق هو الذي يلجأ الى الله دائما في اليسر والعسر , في الرخاء والشدة , في السعة والضيق وأن لا تسأل إلا الله جل وعلا؛ لأن الذي يملك الضر والنفع هو الله: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأنعام:17].
ولقد ضرب أنبياء الله ورسله الكرام المثل الأعلى في حسن اللجوء إلى الله في الشدائد والكرب , قال تعالى : \" وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) سورة الأنبياء .
وقال تعالى : \" أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) سورة النمل .
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرَبِ ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ.أخرجه الترمذي (3382).
قال الشاعر:
لا تسألن بني آدم حاجة * * * وسَلِ الذي أبوابه لا تُحجَبُ
الله يغضب إن تركت سؤاله* * * وبني آدم حين يسئل يغضب
وليعلم العبد أن الدعاء يرد القضاء ويدفع البلاء , عنْ ثَوْبَانَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:لاَ يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلاَّ الْبِرُّ ، وَلاَ يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ. أخرجه أحمد 5/277(22745) و\"ابن ماجة\" 90 و4022 و\"النَّسائي\" ، في \"الكبرى2093 الألباني في \"السلسلة الصحيحة\" 1 / 236 .
أنشد الإمام علي رضي الله عنه :
إِذا اشتملتْ على اليأسِ القلوبُ * * * وضاقَ لما به الصدرُ الرحيبُ
وأوطنتِ المكارهُ واستقرتْ * * * وأرستْ في أماكنِها الخطوبُ
ولم ترَ لانكشافِ الضُّرِّ وجهاً * * * ولا أغنى بحيلتهِ الأريبُ
أتاكَ على قُنوطٍ منك غوثٌ * * * يمنُّ به اللَّطيفُ الستجيبُ
وكُلُّ الحاثاتِ إِذا تناهَتْ * * * فموصولٌ بها فَرَجٌ قريبُ
وقال آخر:
يا صاحب الهم إن الهم منفرجٌ * * * أبشر بخيرٍ فإن الفارج الله
إذا بليت فثق بالله وارضَ به* * * إن الذي يكشف البلوى هو الله
الله يحدث بعد العسر ميسرةً* * * لا تجزعنّ فإن الصانع الله
والله مالك غير الله من أحدٍ * * * فحسبك الله في كلٍ لك الله
قال صلى الله عليه وسلم : { مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ وَحَزَنٌ: اَللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلاَءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي إِلاَّ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ؟ قَالَ: أَجَلْ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ } [ رواه أحمد وصححه الألباني ].
وأخيراً - أيها الحبيب – تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم :\" المعونة تأتي من الله على قدر المؤنة ، و إن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء \" ( صحيح ) انظر حديث رقم : 1919 في صحيح الجامع .
واعلم بأن الله تعالى ما منعك إلا ليعطيك، ولا ابتلاك إلا ليعافيك، ولا أمرضك إلا ليشفيك، ولا أماتك إلا ليحييك؛ فإياك أن تفارق الرضا عنه طرفة عين، فتسقط من عينه.
رزقنا الله وإياك الصبر على البلاء والشكر على النعماء والرضا بالقضاء .
صيد الفوائد