زهرة من بستان الواعظين ورياض السامعين
للإمام ابن الجوزي
حكي عن ذي النون المصري بن إبراهيم الأخميمي رحمه الله تعالي أنه قال :
خرجت مرة من المرات إلى ناحية الأردن من أرض الشام فلما علوت الوادي فإذا أنا بسواد قد أقبل وهو يقول " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " (الزمر : 47)
فلما قرب مني السواد إذا هو شخص فتأملته فإذا هو امرأة عليها جبة صوف وخمار من صوف وبيدها ركوة وبيدها الأخرى عكاز فقالت لي غير فازعة مني : من أنت ؟
فقلت : لها رجل غريب
فقالت : يا هذا وهل يوجد مع الله غربة وهو مؤنس الغرباء ومعين الضعفاء فاجعله أنيسك إذا استوحشت وهاديك إذا ضللت وصاحبك إذا احتجت .
قال ذو النون : فبكيت من كلامها
فقالت : مم بكاؤك ؟
قلت لها : وقع دواؤك علي دائي و أنا أرجوا أن يكون سببا لشفائي قالت: فان كنت صادقا في دوؤاك علي دائي وأنا أرجوا أن يكون سببا لشفائي
قالت : فإن كنت صادقا في مقالتك فلم بكيت ؟
قلت لها : رحمك الله والصادق لا يبكي ؟!
قالت : لا
قلت لها : لم لا يبكي الصادق ؟
قالت : لأن البكاء راحة للقلب وملجأ يلجأ إليه وما كتم القلب أحر من الزفير والشهيق وذلك ضعيف عند أوليائه .
قال ذو النون : فبقيت والله متعجبا من قولها
فقالت لي : ما لك ؟
قلت : أنا والله متعجب من قولك
قالت : وهل نسيت القرحة التي ذكرتها ؟
قال : قلت لها : رحمك الله إن رأيت أن تمني علي بالزيادة .
فقالت : وما أفادك الحكيم في مقامك بين يديه من الفوائد ما يستغني به عن طلب الزوائد
قال : قلت لها : رحمك الله ما أنا بمستغن عن طلب الزوائد
قالت: صدقت يا مسكين حب مولاك واشتق إليه فإن له يوما يذيق فيه أولياءه كأسا لا يظمئون بعده أبدا ثم علا شهيقها ثم قالت : يا حبيب قلبي إلى كم تخلفني في دار لا أجد فيها صادقا بريئا من الدعاوي الكاذبة يسعدني البكاء علي أيام حياتي . ثم تركتني وانحدرت في الوادي وهي تقول : اللهم إليك لا إلى النار حتى غاب شخصها عن بصري وانقطع صوتها عن سمعي .
قال ذو النون : فو الله ما ذكرت كلامها قط إلا كدر علي أحشائي وعيشي .
قال ذو النون: فلقد أدبتني واستقام حالي منذ رأيتها .
وأنشدوا :
أريد وأنت تعلم ما مــرادي وتعلم ما تلجلج في فؤادي
فهب لي زلتي واغفر ذنوبي وسامحني بها يوم التنادي