فوق المتوسط
( قصة ممدرية )
"
عياد " وجدي مـن أقصى شمـال شـرق المغـرب، شاءت الأقدار أن يولد في موسم حصاد الوهم . استنفذ من جسمه سبعة مائة وثلاثين مليون عصبة، تبدو عليه آثار نقص في إفرازهرمونات الغدة النخامية، مدينتـه وجـدة مدينة فقيرة معدمة، تصاب بالجفاف بشكـل مستــمر، تحتضـن شبـيبة طموحة، تختـلط في عيشهـا وحياتها وتبادل علاقاتها بإخــوان لــهـــم بالجزائر شقيقتهم، تفصلهم حدود وهمية رسمها الاستعمار وكرسها خلفاؤه من بعده، تعيش على تهريب السلع التي أحلها الله وحرمها عبده، تعاني جراء ذلك من من حرم تهريبها ولكــنه يســمح بهــا رشوة أوزبونية، تعيش قــبالة أرض وبلاد لاتــفهم مـــغزى فصلـــها وانفصالها، كل منهما تتنكر لأختها ولا تريد أن تندمج معها اســـما، تتداخل العائلات بين بعضها البعض وتتصاهر، نشأت بينهم أبـوة وبنوة، عمومة وخؤولة، أفرزت أخوة تتنكر لها الدسـاتير، يتزاورون عبر الحدود إذا كانت مفتوحة، يتزاورون عبر خط حدودي طويــل غير مرسوم ولا معلم، يدور بهم الزمان ويدور، يقدم إليهم رمضان ثم يقدم فيختلفون في صيامه، يشاهدون هلاله ولا يطيعون فــيه إلا دولة المغرب ودولة الجزائر، اختلافهما المقصود غير مبرر، يخـــدم مصلحة من يرفض الوحدة والاندماج ..
نشأ عياد بالمدينة البئيسة، صعد عقده الثاني متسلقا آمالا لا تـراوح الذهن والتصور، يمسك بخيوط موصلة ولكنها كخيوط العنكبوت، عاش بئيسا ويكاد يموت بئيسا، لا يشعر بسرعة جريان الزمان وكأن لا زمان له، صار رتيب السلوك عديم النشاط كأنما تدلى فــي أرذل العمر ..
طوى عقده الثاني وأشرف على طـي الثالث، لم يبق على تجاوزه إلا أشهرا بعدد زوج الأعصاب الجمجمية، عندهــا بدأيحـــس بضغط الحياة أكثر مما كان عليه وضعه من قبل، بات أبا لبنت جميلة تملأ عليه حياته، تحيي في نفسه الآمال بعدما دفنها سياسيو الـبلدة الشاكية، تدفئ قلبه بحب مشرق، ومودة صافية ..
تابع ما تنوي حكومة بلده فعله فلم يجد غير الوهم، حاول تجمـيله فلم يقدر، صحب الضياع كل بطال، يرافقه بيد تحمل ملفات مكتوبة بما يشبه الطلاسـم، ملفات يستحيل قراءتها، لا تقرئ إلا عناوينها البارزة، بها عبارات تقول : سنحارب البطالــة ، وأخــرى تصــرح : سنحارب الفقر، وغيرهما تصيح : سنحارب الجهل والتخلف ، كـثر الصياح ودوى : سنحارب الهجرة السرية ، سنحارب المخدرات ..
عرف عياد أنها وصفات لمرضى الفقر والضياع، وصفات مـــــن الأماني والآمال المكذوبة تشبه وعود جحا ونوادر أشعب ..
نظر عياد الى نفسه فوجد أنه يوشكأن يجذب بخطاف العـر، يتربص به العقد الرابع، يفكر في بنــته وأبويه الفقــيرين المعدمــين، يروم المؤســسات وقد يئــس من شــكاواها من الضــرائب الباهــضة وجفافها من فرص العمل ..
شرع يمارس تهريب السلع والبضــائع من الجزائــر، كاد يــتوقف عند وقف استــحقاق الجبــهة الإسلاميـة للإنقاذ لولا كــثرة المداخــل والمخارج من والى الجزائر عبر الأراضي الشاسـعة الواســعة علــى طول الحدود، دأب على عمله برغم موجات العنف والتقــتــيل داخــل الجزائر في حربهـا الأهلية، قدر له أن يــشاهد مرات عديدة عملــيات إرهابية فظيعة لم يشــك في نســبتها إلى دولة الجنــرالات وليــس إلى الإسـلاميــين، عايــن حــز الــرؤوس وقــطع الرقاب وبــقر البطــون بالسكاكين والمدى والفؤوس والسواطير حتى من مرتزقة صربيا المأجورين ..
أصاب الناس في الجزائر هم شديد جراء الصراع على السلطة، سادت الفوضى وانتشر الخوفوالرعب في كل مكان، ظلت مدينـة الصــنوبر تنعم لوحــدها بالأمــان، يقطــنها رموز الذبح والقــتل مــن القياديين في الجيش الجزائري ..
في هــذه الأجواء زاره زائـر غير مرغــوب فيــه، زائــر يصــير الصحيح معتلا، أصابته البطالة الآثمة حتى طوقه الفــقـر وأدقعــــه، عندها تقرر لديه مغادرة وجدة الى أقصى الشمال الغربي حيث تجلس عروس في زينتها تنتظر عريسها، لم تعلم بقضائه بعــد، تقــعد قبــالة طوب وحجر داسته أقدام طريف، قبالة قصر تحول الى سجن في جبل شامخ انطلقت منه خيــول طارق، رغب في استــبدال رو تينه بروتين آخر ..
نزل عياد مدينـة طنــجة، قدم أهلا ونزل سهــلا على أرصفـــتها وحدائقها العمومية، طفق يجوب الشوارع والطرقات، ظل لا يعــرف أيهما خصص للراحة هل اليل أم النهار ؟ لا ينام الا مضطرا، يستلقي حيثما كان حين يغلبه النعاس وتجهده الحاجة إليه، يحصل له هذا فــي كل الأوقات، لاتختار له ليلا أو نهارا ..
مكث على حاله حتى قيض الله له عملا لا يأخذ عليه أجرا، عمــلا لا تتحسس أنامله منه درهما أو دينارا، عرف حارسا لسوق بمنطقة " الدرادب "، يرـتاده المتـسوقون يوم الخمـيس ويـوم الأحـد من كـل أسبوع، يعمل على تنظيفه مهاجر من قرية ولاد علي بالقصر الكبير، يجمع مخلفات الخضر والفواكـه والبواكــر والحوامــض، يباع فــــيه السمك والقطنيان والألبسـة والدواجن، تباع فيه لحـوم حمراء لم يختمها الطبيب البيـطري ، وأحيانا لحوم الحمير ..
مر عياد وهوقادم من شاطئ مرقالة على السوق؛ وجابه قليلا، دار فيه يلتقط برتقالة عفنة من هنا، أو خبزا يابسا مهجورا من هناك ، بينما هو على هيئته تلك ناداه العساس وكان طيبا بأخلاق بدوية دميـثة، طلب إليه أن ينتظره حتى يفرغ، أشار عليه بارتياد كوخ أومــأ إلــيه، ولما انتهى جالسه في كوخه، ثم أخرج من مخلاته طعاما وطلب إـيه أن يأكل، ولما فرغ سأله عن أحواله فصدقه القول، وعندها طلب إليـه أن يبيت عنده إن أراد ..
أحس بميل ملؤه المودة، مال إلى العساس كما يميل الإبن نحـو أبيه، أحبه بلا استئذان أو مقدمات فسكن عنده حتى حين ..
نشط عياد يساعد العساس في يومين من كل أسبوع، يقـضي الأيام الأخرى طوافا في أزقة طنجة وشوارعها، يطوف ويطوف بحثا عــن عمل أو منفذ إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، أمضــى عشــرات الأيام والأسابيع . لم تكتحل عيناه برؤية عملة بلده، جفاه الدرهم وعاداه، فــي كل ليلة يجالس أصدقاءالعساس ويستمع إلى أحاديثهم، حفلوا به جميعا فاستفاد من معاشرتهم، عرف أن بعضا منهم يهجرون الـناس بين الحين والآخر، يفعـلون ذلك كلما ضــاق عيــشهم أوتعرضـوا للبطالة، كانوا صيادي أسماك بقوارب بدائية لا تحتمل تيار الـبوغاز إلافي يوم صاف ببحر هادئ، لا يتخذون منها حرفة، نجــحوا مرات عديدة في تهجير العشرات، يعيدون ذكريات عايشوها في السبــعينات قبل انتشار القوات المساعدة ثم الجيش، كانت شبيبة "جامع المقراع " و " الدرادب " و "عــيـن الــحيــانـي " و " سبــيــلة الجــماعـة " و " مرشان " و " مسطارخوش "، ترتاد شاطئ مرقالة طيلة أيـام الصيف، كان بعض منهم لا يترددون في امتطاء القوارب للنزهة، يجوبون بها البوغاز وينزلون شواطئ كاديس، ثم يعودون من حـــيث قدموا، لم تكن فكرة الهجرة السرية قد نبتت بعد، ولا الفيزا قد فرضت بعد، كان شباب طنجة وشـيوخها لا يحـــبذون الذهــاب إلى إســـبانيا، ينعتون الإسبان بقولهم : " ولاد بو روقعا "..
عرضت على عياد فكرة الهجرة الـسرية، قبــلها برد تداخــل مـــع العرض، لم يترك صاحبه يكمل عرضه وحديثه، قبلها ونزلت عليـــه بردا وسلاما، اطمئن إلى العرض وتحركت بداخله أحاسيسالسـعادة، لم يكن يستسيغ أن يفكر فيه بهذه الطريقة إلا من طرف أمه أو أبيـــه،صاحبته أو أخيه ، أو فصيلته التي تؤويـــه.. لــطالما ردد " الــكرش الشبعانة ماتفكر في الجيــــعانة "، حفظــها من أفواه صــدقته القــول والمحبة ..
ضرب لهموعد عند شاطئ مهجور، شاطئ صغير كان مرتادا إلــى عهد قريـــب، ترتـــاده شبـــيبة سبيلة الجماعة و مرشـان و المعدنوس .. هو جر عندما تآكل الصخروالحجر الذي كان يشـد أزره، يشكل الطريق المؤدية إليه، شاطئ تصله المياه الحارة، كانــت تخترقه قنطرة شيدها الاستعمار أيام كانت طنجة دولية، وأهملها المجلس البلدي حتى بادت ..
استقل عياد قاربا صغــيرا بحــمولة لا تزيد عن ســتة أشــخاص، أدخلته البحر سواعدهم ثم شرع يدفعه محرك متواضع، ولكنه يفـــــي بالمطلوب، يكفيهم جهد السواعد وحركةالمجاديف، سار بهم متخـطيا " العدويين "، يمخر العباب فوق بحر هادئ يحمل جواركالأعـــلام، فوقهم سماء لم يأذن لها ربـها أن تمور بعــد، تلفــح وجوههــم ريـــاح غربية ناعمة، تتدلى فوق رؤوسهم نجوم كعناقيد العنب، تحيـــيهم ولا تفتر عن إلقاءالتحية لحظة واحــدة، تحيــيهم بإشــعاع ينــبـعث منـــذ ولادتها، بين نورها إشعاع مرتد عن ابن زياد وجيشه، تتحسس آذانهم بين الحين والآخر أصواتا لا تفقهها، أصواتا لخرير المــــياه يحدثـــها القارب عند شقه البحر، يشقه بلطف كأنه مقصود ..
تعمقوا بفلكهم في المتوسط، يسيرون مطمئنين في صمت بهــدوء، مر إلى جانبهم زورق صيد كاد ينفطر له فؤاد عياد، رأى" الطرانيـا " تشـــق البحر بعنف وقد علت عن مركبه حتى بدت كالطود العظيم، أحدثـت هيجانا أفسد عليهم هدوءهم ورتابة قاربهم .. مشهدامخيفا توقع له عياد أن يكون كارثة لو اصطدم بقاربهم الصغير الذي يتعلق به كما يتعلق الرضيع بحلمة أمه، ساروا قليلا في المياه الدولية ، ثم تسلط عليهم مــن يفسد هدوءهم مرة ثانية، مرت إلى جانبهم باخرة ضخمة وحامـلة بترول عملاقة تقصد البحر الأسود، أحدثت هيجانا كبيرا لم يحتـمله فلكهم الصغير فتسبب في قلبه، انقلب بمن فيه، شرع الشبان يسبحون، انبرى قائد الزورق يجاهد نفسه وينادي على زملائه حتى أعــادوازورقهم إلى وضعه السابق، كاد يغرق لولا استماتة الأصدقاء فـي منعه عن الغوص إلى الأسفل، لم يغرق منهم أحد، حتى عياد ظــــــل ساكنا على سواعد بعضهم عندما طوقوه مانعين جسمه من النـزول إلى الأعماق، استقل أحدهم القارب من جديد ولم يسمح لأحــد أن يركب معه، بحث عن قصعة مربوطة إلى خشبة الزورق، ثم شـــــرع يغرف بها الماء ويرمي به خارجا حتى استوى القارب على هــيئـة مطمئنة، ثم ركبوا جميعاواستأنفوا سيرهم ..
أطبق عياد على ذهنه وحمله على الفكر العميق، صار بكانيـــن لا يدري أيهما له ؟ ذهب به الفكر بعيدا، جد انشغاله بتحسس عوالــم عطرة، عوالم يجد ريحها الزكي وأريجها العطر، يلقيه في روعـه رب المشرقين ورب المغربين، بينما هوكذلك إذ سمع " العربـي " ينادي عليه، ناداه بعد أن أشرفوا على سواحل موحشة، نظرعياد إلى رفقته ورمق الساحل قريبا منه، تحرك مستطلعا حركة منهم فلـم يجدها، لم يلحظ حماسا لنزول البحر والتوجه إلى اليابسة، عندها أومأ إليه العربي بالنزول : " هذي سبانيا، هذي طريفة، نزل ومشي تخـباع في الغابة ".
نزل بر طريفة، وانقــلب القارب عائدا من حيث قدم، كانت مغامرة من شباب أرادوا مساعدة عياد، أضحت نزهة وسمرا ..
سار متوغلا في غابة، اخترق أشجارا وداس صخورا حتى وقــف على موضع مطروق، به آثار مهاجرين سريين اختبئوا فيه، قبع ثـم استلقى يرتاح فأخذته سنة استدرجته إلى النعاس فغلبه النوم فنام ..
استيقظ متأخرا وخرج من مخبئه. استيقظ بعد نوم عميق ارتاحــت له جوارحه وسكنت فيه نفسه وصفا له ذهنه، نبت في مؤخرة يومه كما ينبت العود اليابس في تربة مبتلة، تحرك يخطو وئيدا، يتفــحـص كل مامر به، يتجنب الاقتراب من أماكن السكن، يبحث عن طريـق سيار لعله يجد من يحمله إلى قلب المدينة، ينوي استــعمـال أسـلـوب " أطو سطوب " ..
بينما عياد يسيرالهوينا متيــقظا حذرا، بيــنما هو كـــذلك رمقـــــه "وارديا سيبيل "، شاهده رجلان من خفر السواحل الإسبانية، كانا عندها بصدد القيام بعــمل روتيني، وما أن رآهم عياد حتى جد في الركض هاربا، ركض مذعورا لا يدري أين يقصد ؟ يجري ويعــــدو قافزا كالغزال، ولكن إلى أين ؟ ظهرت أعداد أخرى من الحراس، جد اثنان منهم في طــلبه حتى اقتــربا مــنه بعــض الشي.
ســمع عـــياد صيحات ونداءات، يسمع " ألطو ألطو "،لم يفهم ماذا تعـني ، ظلا يطاردانه حتى أعيتهما المطاردة، يطاردان رجلا انضافت إلــيه قــوة أخرى ومنحته طاقة رهيبة، يركض مذعورا جن الذعر عـقلـه، عطل نخاع عظمه باد على وجهه، وما أن تيقنا من استحالة وقوفه حتى أوقـفاه، أرســلاها إلــيه تركبــان الريح فاستقرتا فيه، استقرتا في جسمه، أصيب في قـــفاه وظهره فسقط إثرالطلقتين صريعا، قدما إلـيه كــما لو كـــان طـــــيرا مصادا، عايناه وهو ينزف دما، ثم قضى ..
قضى عياد بأرض أقلت أجداده، ثم دفن فيها، استقر رفاته تحـت ثرىالأندلس يتحسس آثارا لرفات قضى أصحابها بالأندلس أيضـا، قضوا طبيعيا أو عند فتحها، سكنت روحه وتبخرت آماله وضاعـت أحلامه ..
ترك عياد أرملة تنتظر قدوماموفقا منه، تركها تدعوا له بظهر الغيب ..
ترك صبية لم تفطم بعد، تكبر إيمان حجو بقليل، وتبعد هدى المتمرغة في رمال غزة بكثير، تركها لا تنطق الحروف والكلمات، بالكاد تعلمت نطق كلمة بابا ..
تركها وهي تردد على لسانها في كل وقت وحين : بابا.. بابا .
الأديب والقاص : محمد محمدالبقاش