كم هم أغبياء هؤلاء الذين كانوا ينتظرون أن يفوز وزير الثقافة المصري فاروق حسني بمنصب الأمين العام لمنظمة اليونسكو. فهؤلاء الطيبون يعتقدون أن هذا اللوبي الصهيوني سيسمح في يوم من الأيام بأن يجلس عربي مسلم فوق كرسي رئاسة هذه المؤسسة التي تتحكم في مآثر العالم وإرثه الإنساني والحضاري والثقافي. فالحقيقة المخجلة التي لا يريد أحد في هذا التابوت المسمى عالما عربيا وإسلاميا الاعتراف بها هي أن إسرائيل لن تسمح أبدا لأي عربي أو مسلم بشغل هذا المنصب الحساس، وإليكم الأسباب.
سيقول لكم بعض محللي عطلة نهاية الأسبوع إن السبب في فشل فاروق حسني في الفوز بمنصب الأمين العام لليونسكو هو الرهاب والخوف الذي يشعر به العالم الغربي تجاه العالم الإسلامي. هذا تحليل تبسيطي إلى أبعد حد، يكشف عن جهل مريع بخلفيات الصراع السياسي حول مستقبل القدس.
السبب الحقيقي أعمق وأقدم من ذلك، وهو أن إسرائيل تخوض منذ 1948 خطة جهنمية لتهويد القدس. ومنذ ذلك التاريخ وأعمال حفر الأنفاق مستمرة تحت المسجد الأقصى، إلى الحد الذي استقدمت معه إسرائيل في السنين الأخيرة شركة فرنسية اسمها «Veolia Transport Alstom» لربط القدس الشرقية بالقدس الغربية عبر خط للترامواي، وهي بالمناسبة الشركة نفسها التي استقدمها كريم غلاب، وزير التجهيز، إلى المغرب ومنحها صفقة إنجاز الترامواي الرابط بين سلا والرباط. وقد تسببت أعمال الحفر التي تقوم بها هذه الشركة بالقدس في تشققات على أرضية المسجد الأقصى وجدرانه.
في عام 2000، طالبت إسرائيل بضم مدينة القدس إلى لائحة التراث العالمي بوصفها موقعا ثقافيا إسرائيليا، فاجتمع وزراء الثقافة العرب بالرياض وأصدروا بيانا بعثوا به إلى مدير عام اليونسكو ورئيس لجنة التراث العالمي يطالبون فيه برفض الطلب الإسرائيلي المنافي لقرارات الشرعية الدولية.
لكن هذا الاعتراض العربي لم يفلح في بث اليأس في نفوس الإسرائيليين، فحاولوا عام 2003 شطب مدينة القدس من قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر، حتى تستمر في أعمال حفرها التي ستنتهي، إذا لم يتحرك الضمير الإسلامي، بتهديم أركان المسجد الأقصى وبناء الهيكل الذي يحلم به حاخامات إسرائيل المتطرفون.
إسرائيل ليس لديها وقت تضيعه مثل العرب، فقد وضعت سنة 2020 كآخر أجل لإعلان يهودية القدس والدولة الإسرائيلية. والمخطط مستمر على قدم وساق، فالأزقة والشوارع كلها تغيرت أسماؤها العربية إلى العبرية، وباب المغاربة يتعرض يوميا للتدمير لإزالة أية علاقة لفلسطين بالمغاربة وحيهم التاريخي بالقدس، وسيطروا على البلدة القديمة بقلب القدس، لأنهم يعرفون أن من يسيطر على البلدة القديمة يسيطر على القدس ومن يسيطر على القدس يسيطر على فلسطين، ومن يسيطر على فلسطين يسيطر على العالم. فهكذا سارت الأمور على هذه الأرض منذ خلق الله بيت المقدس وجعل فلسطين أرض الأنبياء، فمن يفتح القدس يفتح العالم، ومن يطرد منها يعيش الذلة والمسكنة إلى آخر أيامه. والوحيدون الذين يبدون مستوعبين هذا الدرس التاريخي هم الإسرائيليون. ولذلك فهم لا يؤمنون بخرافة اسمها السلام مع الفلسطينيين، ويفعلون كل ما بوسعهم لطردهم خارج القدس. وبعد ذلك، سيأتي الدور على عرب إسرائيل لكي يغادروا بدورهم بعد أن تنتزع منهم الجنسية الإسرائيلية ويطرد نوابهم من الكنيسيت الإسرائيلي. كل هذا سيأتي أوانه، والفرق الوحيد بين الأمس واليوم هو أن تواريخ حدوث هذه المستجدات لم تعد تقاس بعشرات السنين وإنما بالأسابيع والأشهر في أقصى الحالات.
إسرائيل تعرف أن العقبة الوحيدة التي يمكن أن تقف أمامها وتعيق تطبيق مشروع تهويدها للقدس وتدميرها لباب وحي المغاربة وكل شيء يحيل على الأثر الإسلامي في المنطقة، هي منظمة اليونسكو. فهي الجهة المستأمنة على التراث الإنساني العالمي. وإذا تولى قيادتها عربي مسلم فإن مهمة إسرائيل ستصبح أكثر تعقيدا. ولهذا السبب نفهم الشراسة التي هاجم بها «الفيلسوف» اليهودي الفرنسي «بيرنار هنري ليفي»، الذي تعود على إمضاء عطله في بيته بطنجة، قبل أمس على ميكروفون «أوروب 1»، المرشح المصري فاروق حسني. وإذا كان اللوبي الصهيوني يتهم وزير الثقافة المصري بمعاداة السامية، بسبب ما قاله للصحافة من أنه مستعد لإحراق أي كتاب إسرائيلي إذا ثبت وجوده في معرض الكتاب الذي تشارك فيه مصر، فإن «بيرنار هنري ليفي» اكتشف لفاروق حسني تهمة جديدة هي معاداة إسرائيل. مع أن هذا الأخير كان أول المشاركين في الاحتفال الذي جرى في اليونسكو لإحياء ذكرى ما أسمته المنظمة «مذبحة الشعب اليهودي»، فضلا عن كون فاروق حسني ليس عضوا في حكومة حماس أو إيران التي تهدد إسرائيل يوميا بإزالتها من الخريطة، وإنما وزيرا في حكومة حسني مبارك التي تعترف بإسرائيل وتطبع معها وتربطها معها معاهدة «كامب ديفد» ولديها سفارة في القاهرة ومعاملات تجارية قوية معها.
لكن، في نظر إسرائيل، كل الضربات مباحة للاستحواذ على كرسي منظمة اليونسكو، بما فيها الضربات تحت الحزام التي لا تتورع عن توجيهها حتى إلى الذين يلعقون حذاءها.
البعض استغرب موقف فرنسا التي صوتت لصالح المرشحة البلغارية وهمشت المرشح المصري، رغم كل الغزل الذي ينظمه ساكن «الإليزيه» حول متانة العلاقات الفرنسية المصرية بخاصة والعربية بشكل عام. فيبدو أن الهوى الإسرائيلي للرئيس ساركوزي، بالإضافة إلى أصوله الهنغارية اليهودية، تغلبا على مشاعر الود والمحبة التي يكنها للمصريين والعرب. وهاهي الإشاعات اليوم تتسارع بخصوص الأصول اليهودية للمرشحة البلغارية «إيرينا بوكوفا» التي فازت بمنصب الأمين العام للمنظمة.
أما الدولتان الإفريقيتان اللتان غيرتا موقفيهما، في آخر لحظة، وصوتتا لصالح المرشحة الهنغارية، فلكي نفهم هذا التغير المفاجئ في موقفيهما يجب أن نرجع عشرين يوما إلى الوراء، أي إلى الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الإسرائيلي «ليبرمان» للقارة الإفريقية. فالرجل لم يأت إلى إفريقيا للاستجمام وتغيير لون جلدته، بل للضغط على القادة الأفارقة لحجب أصواتهم عن المرشح المصري، إضافة إلى توقيع اتفاقيات تجارية لفك العزلة عن إسرائيل داخل القارة السمراء التي يغزوها المارد الصيني الأصفر من جميع
الجهات.
لكل هذه الأسباب يجب أن نعترف لإسرائيل بهذا الفوز المستحق بكرسي اليونسكو؛ فقد استطاع اللوبي الصهيوني المتحكم في دواليب الإعلام الغربي أن يقنع أغلبية الدول بأن المرشح المصري رجل معاد للسامية لأنه هدد بإحراق كتب يهودية.. مجرد تهديد بإحراق كتب. أما إسرائيل التي أحرقت بالفعل الآلاف من أطفال غزة الصيف الماضي، فلا حرج عليها؛ فالتهديد بإحراق كتب يهودية، في نظر «بيرنار هنري ليفي» فيلسوف زمانه، أخطر من الإحراق الفعلي للأطفال بالقنابل الفسفورية.
وكم هو مضحك جواب وزير الثقافة المصري تعقيبا على خسارته لكرسي اليونسكو عندما قال إن المنظمة تعرضت للتسييس. أخيرا، اكتشف سعادة الوزير أن منظمة اليونسكو تشتغل بالسياسة عوض التراث والثقافة الإنسانية. وهذا الاكتشاف، في حد ذاته، خطوة محمودة في اتجاه صحوة عربية إسلامية من الغفلة.
اليونسكو كانت دائما تشتغل بالسياسة، وستشتغل بها اليوم أكثر بعد وصول المرشحة المطلوبة من طرف إسرائيل وأمريكا إلى كرسي رئاستها. فالطريق اليوم أصبحت سالكة أمام مسلسل تهويد القدس وتدمير التراث الإسلامي بها تمهيدا لتطبيق المخططات الصهيونية التي يحلم بها الحاخامات اليهود المتطرفون منذ مئات السنين.
ولعل أول قرار ستسعى إسرائيل إلى انتزاعه من اليونسكو هو القرار الذي فشلت في انتزاعه سابقا والقاضي بشطب اسم القدس من قائمة التراث الإنساني المعرض للخطر، حتى تتمكن من إكمال عمليات حفرها بدون وجع دماغ. تليها بعد ذلك المطالبة بإعلان القدس موقعا ثقافيا إسرائيليا، «وبالفور يا الشيفور».
أما وزير الثقافة المصري فما عليه سوى أن يعود إلى مقر وزارته الذي يسكن به منذ عشرين سنة، ويقفل عليه الباب ويسأل نفسه سؤالا بسيطا «لماذا تنجح إسرائيل في الوصول إلى كل ما تريده في الوقت الذي يفشل فيه العرب؟». ببساطة، لأنه ليس هناك وزير إسرائيلي بقي في الحكومة عشرين سنة كاملة. ولو كان وزير الثقافة فاروق حسني ورئيسه حسني مبارك في إسرائيل لكان نصف أعضاء حكومتهما وراء القضبان.كتبه أستاذي : رشيد نيني