المقـامَــــة الـرمـضـانـيّـــة{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185].
(( ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجـر إن شاء اللـه ))
مرحباً برمضان، شهر التوبة والرضوان، شهر الصلاح والإيمان، شهر الصدقة والإحسان، ومغفرة الرحمن، وتزين الجنان، وتصفيد الشيطان.
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام *** يا حبيباً زارنا في كل عام
فاغفر اللّهم ربي ذنبنا *** ثم زدنا من عطاياك الجسام
هذا شهر العتق والصدق والرفق، رقاب تعتق، ونفوس ترفق، وأياد تتصدق، باب الجود في رمضان مفتوح، والرحمة تغدو وتروح، والفوز ممنوح، فيه ترتاح الروح، لأنّه شهر الفتوح، هنيئاً لمن صامه، وترك فيه شرابه وطعامَه، وبشرى لمن قامَه، واتبع إمامَه. القلب يصوم في رمضان، عن اعتقاد العصيان، وإضمار العدوان، وإسرار الطغيان.
والعين تصوم عن النظر الحرام، فتغض خوفاً من الملك العلام، فلا يقع بصرها على الآثام. والأذن تصوم عن الخنا، واستماع الغنا، فتنصت للذكر الحكيم، والكلام الكريم. واللسان يصوم عن الفحشاء، والكلمة الشنعاء، والجمل الفظيعة، والمفردات الخليعة، امتثالاً للشريعة. واليد تصوم عن أذية العباد، ومزاولة الفساد، والظلم والعناد، والإفساد في البلاد. والرِجل تصوم عن المشي إلى المحرّم، فلا تسير إلى إثم ولا تتقدّم .
والله ما جئتكمو زائراً *** إلّا وجدت الأَرض تُطوى لي
ولا انثنت رجلي عن بابكم *** إلّا تعثرت بأذيالي
أما آن للعصاة أن ينغمسوا في نهر الصيام، ليطهروا تلك الأجسام، من الآثام. ويغسلوا ما علق بالقلوب من الحرام.
أما آن للمعرضين أن يدخلوا من باب الصائمين، على رب العالمين، ليجدوا الرضوان في مقام أمين.
إن رمضان فرصة العمر السانحة، وموسم البضاعة الرابحة، والكفة الراجحة، يوم تعظم الحسنات، وتكفّر السيئات، وتُمحى الخطيئات.
إنّ ثياب العصيان آن لها أن تخلع في رمضان، ليلبس الله العبد ثياب الرضوان . وليجود عليه بتوبة تمحو ما كان من الذنب والبهتان.
إن مضى بيننا وبينك عتب *** حين شطت عنا وعنك الديارُ
فالقلوب التي تركت كما هي *** والدموع التي عهدت غزارُ
في رمضان كانت فتوحاتنا، وإشراقاتنا، وغزواتنا، وانتصاراتنا.
في رمضان نزل ذكرنا الحكيم، على رسولنا الكريم، وهو سر مجدنا العظيم.
في رمضان التقى الجمعان، جمع الرحمن وجمع الشيطان، في بدر الكبرى يوم رجح ميزان الإيمان، ونسف الطغيان، وانهزم الخسران. في رمضان فتحت مكة بالإسلام، وتهاوت الأصنام، وارتفعت الأعلام، وعلم الحلال والحرام.
في رمضان كانت حطين العظيمة، يوم انتصرت رايات صلاح الدين الكريمة، وارتفعت الملة القويمة، وصارت راية الصليب يتيمة.
صيام النفس في رمضان عزوف عن الانحراف، والانصراف والإسراف والاقتراف، فالنفس تعلن الرجوع، والقلب يحمل الخشوع، والبدن يعلوه الخضوع، والعين تجود بالدموع.
لشهر رمضان وقار فلا سباب، ولا اغتياب، ولا نميمة، ولا شتيمة، ولا بذاء، ولا فحشاء، وإنّما أذكار واستغفار، واستسلام للقهار، فالمسلمون في رمضان كما قيل :
هينون لينون أيسـار بنو يُسْرٍ *** أهل العبادة حفاظون للجارِ
لا ينطقون عن الفحشاء إن نطقوا *** ولا يمارون إن ماروا بإكثارِ
مردة الشياطين في رمضان تصفد بالقيود، فلا تقتحم الحدود، ولا تخالط النفوس في ذلك الزمن المعدود.
إذا سابّك أحد في رمضان فقل إنّي صائم، فليس عندي وقت للخصام، وما عندي زمن لسيء الكلام، لأنّ النفس خطمت عن الخطيئة بخطام، وزمّت عن المعصية بزمام.
إذا قاتلك أحد في رمضان فقل إنّي صائم فلن أحمل السلاح، لأنّني في موسم الصلاح، وفي ميدان الفلاح، وفي محراب حي على الفلاح.
اغسل بنهر الدمع آثار الهوى *** تنسى الذي قد مر من أحزانِ
كان السلف إذا دخل رمضان، أكثروا قراءة القرآن، ولزموا الذكر كل آن ، ورقعوا ثوب التوبة بالغفران، لأنّه طالما تمزق بيد العصيان.
هذا الشهر هو غيث القلوب، بعد جدب الذنوب، وسلوة الأرواح بعد فزع الخطوب.
رمضان يذكرك بالجائعين، ويخبرك بأن هناك بائسين، وأنّ في العالمين مساكين، لتكون عوناً لإخوانك المسلمين.
فرحة لك عند الإفطار، لأنّ الهم ذهب وطار، وأصبحت على مائدة الغفار، بعد أن أحسنت في النهار.
وفرحة لك عند لقاء ربّك، إذا غفر ذنبك، وأرضى قلبك.
بعض السلف في رمضان لزم المسجد، يتلو ويتعبد، ويسبح ويتهجد.
وبعضهم تصدق في رمضان بمثل ديته ثلاث مرات، لأنّه يعلم أنّ الحسنات، يذهبن السيئات. وبعضهم حبس لسانه عن كل منكر، وأعملها في الذكر، وأشغلها بالشكر.
هذا شهر الآيات البينات، وزمن العظات، ووقت الصدقات، وليس لقراءة المجلات، والمساجلات، وقتل الأوقات، والتعرض للحرمات.
سلام على الصائمين إذا جلسوا في الأسحار، يرددون الإستغفار، ويزجون الدمع المدرار . وسلام عليهم إذا طلع الفجر، وطمعوا في الأجر، تراهم في صلاتهم خاشعين، ولمولاهم خاضعين.
وسلام عليهم ساعة الإفطار، بعد ذلك التسيار، وقد جلسوا على مائدة الملك الغفار، يطلبون الأجر على عمل النهار.
سبحان من جاعت في طاعته البطون، وبكت من خشيته العيون، وسهرت لمرضاته الجفون، وشفيت بقربه الظنون.
ما أحسن الجوع في سبيله، ما أجمل السهر مع قيلة، ما أبرك العمل بتنـزيله، ما أروع حفظ جميلة.
لها أحاديث من ذكراك تشغلها *** عن الطعام وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به *** ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا تشكت كلال السير أسعفها *** شوق القدوم فتحيا عند ميعاد
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، هداية للبشرية، وصلاحاً للإنسانية، ونهاية للوثنية. القرآن حيث أصلح الله به القلوب، وهدى به الشعوب، فعمت بركته الأقطار ودخل نوره كل دار.
سمعتك يا قرآن قد جئت بالبشرى *** سريت تهز الكون سبحان الذي أسرى
[align=center]الشيخ :عائض بن عبدالله القرني[/align]