ولله الأسماء الحسنى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ،من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، أما بعد :
فموضوعنا في هذا اللقاء هو – ولله الأسماء الحسنى – ولاشك أن الحديث يأخذ قيمته وشأنه ومكانته مما يتحدث عنه، والحديث عن أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته حديث يأخذ بالقلوب، وينقل المرء من عالم الدنيا وعالم المحسوسات إلى عالم آخر، وحينها يشعر بعظمة الله سبحانه وتعالى وسلطانه وملكه وكبريائه، ويدرك فقره وذله وحاجته لله سبحانه وتعالى.
الأسماء والصفات باب واسع من أبواب العقيدة بل صارت في مرحلة من المراحل هي المعلم البارز في اعتقاد أهل السنة، فن صنف من أهل السنة والجماعة لابد أن يبدأ في الحديث عن الأسماء والصفات وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق، وأن هذه الفرق كلها في النار إلا طائفة واحدة ناجية وهي أهل السنة والجماعة، وباب الأسماء والصفات من أوسع الأبواب التي ضلت فيها الطوائف والفرق، ودار فيها جدل طويل بين هؤلاء وبين أهل السنة، ولاشك أن علماء أهل السنة الذين كانوا يذبون عنها ويسعون لبيانها للناس كان يعينهم بدرجة أولى أن يستقر المعتقد السليم والصحيح عند الناس، وأن يدفعوا تلك الشبه التي كان يثيرها أولئك الضالون زعماً منهم أنهم يريدون تنزيه الله سبحانه وتعالى وتعظيمه عز وجل، وهذا بلا شك ترك أثره البارز على منهج عرض الأسماء والصفات والحديث عنه فصار أهل السنة حينما يتحدثون عن الأسماء والصفات في مرحلة من المراحل يُعنون بدرجة كبيرة بقضية الإثبات وقضية الجدل مع المخالفين ودفع شبههم، وحينها يتوقفون عند هذا القدر وذلك أن الناس كانوا يقرؤون القرآن ويتدبرونه وكانوا يعُون هذه المعاني وكان القدر الذي يحتاجون إليه حينها هو أن يتضح لهم ما يجب عليهم اعتقاده في حق تجاه الله سبحانه وتعالى.
وهي قضايا بَدَهية يدركها أي مسلم يشعر بتعظيم الله عز وجل، ويعلم أنه سبحانه لا يمكن أن يقاس بخلقه، وأنه ليس له الحق بأن يتجرأ على ذات الله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته فيفهمها من خلال عقله القاصر، ويتعامل مع هذه النصوص من خلال فهمه وقياسه العقلي، وهو يدرك أن سبحانه وتعالى أكبر وأعظم وأجل من أن تحيط به هذه الأفهام القاصرة.
ويعرف أن الله تعالى حينما يصف نفسه أنه الرازق ذو القوة المتين، وأنه سبحانه على العرش استوى , وأنه ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يدرك من هذه النصوص كلها معنى يليق بالله سبحانه وتعالى وعظمته، ولعلك حين ترى أحد كبار السن الصالحين العابدين لله عز وجل عندما يسمع هذه الآيات من كتاب الله عز وجل أو يسمع متحدثاً عن عظمة الله سبحانه وتعالى وعن أسمائه وعن صفاته ما يلبث أن يلهج لسانه بالتسبيح والتمجيد والتنزيه لله سبحانه وتعالى وتقدس، ولو قُدّر لك أن ترى وجهه لرأيت وقرأت فيه علامة التعظيم والخضوع لله سبحانه وتعالى، واستشعار النقص والفقر أمامه عز وجل.
إنها مسائل متقررة وبَدَهية، ولكن نظراً لوجود هذا التيار الجارف من الشبه والضلال، الذي تجرأ على أسماء الله وصفاته وشبه الله عز وجل بخلقه وسلط عقله القاصر البشري على ذات الله سبحانه وتعالى وعلى أسمائه وصفاته، فجعل من عقله ونتاجه القاصر مقياساً وحكماً على أسماء الله وصفاته، وعلى ما يجوز في حق الله سبحانه وتعالى وما لا يجوز.
ولاشك أن هذا التيار الجارف كان يفرض على أهل العلم مواجهته ورد الشبه، والحديث عن هذا واجب متحتم، ومن حق عامة المسلمين أن يوضح لهم المعتقد السليم وأن تدفع عنهم هذه الشبه.
وفيما مضى كان الناس يتدبرون القرآن ويعون هذه المعاني التي أشرنا إليها، لكن طال الزمن وطال العهد بالناس وبعدوا عن مشكاة النبوة، وعن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،ومن هنا انحرفت نظرتهم، وصاروا حينما يسمعون الحديث عن الأسماء والصفات يقفز إلى أذهانهم الجدل الطويل مع الأشاعرة والمعتزلة والجهمية ومع سائر الطوائف الكلامية، ويغيب عن بالهم معنى آخر معنى له أهميته حول هذا الجانب ويتزامن هذا مع الفصام النكد الذي يعيشه المسلمون بين التوحيد والسلوك والواقع الذي يعيشه المسلمون.
لقد صار بعض المسلمين يتصور أن قضية التوحيد قضية جدلية فلسفية بحتة، وأضرب لكم أمثلة سريعة حول هذا ثم أعود إلى موضوع الحديث، من أسس عقيدة التوحيد أن لا إله إلا الله وهذا يعني أن لا أحد يستحق العبادة ولا الخضوع غير الله سبحانه وتعالى، عبادته عز وجل بشعائر التعبد والخضوع له سبحانه وتعالى، والتشريع والتعظيم إنما هو حق لله سبحانه وتعالى، إن قضية لا إله إلا الله حينما تضعها على بساط النقاش المعرفي الجدلي البحت تراها واضحة مقررة عند المسلمين، لكنك ترى هذا قد يخضع لغير الله سبحانه وتعالى، ويتوجه بقلبه لغير الله سبحانه وتعالى، إنه يخاف من المخلوقين ويحسب ألف حساب للمخلوق، وهو نفسه الذي يقّر بعقيدة التوحيد وبأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينبغي أن يُخاف ويخشى ويرجى عز وجل.
ولئن كان العلم النافع لا بد أن يترك أثره على صاحبه، فكيف بالعلم بالأسماء والصفات الذي هو من أشرف العلوم، قال ابن العربي رحمه الله: "شرف العلم بشرف المعلوم، والباري أشرف المعلومات، والعلم بأسمائه أشرف العلوم ".
وقال ابن القيم – رحمه الله –:"وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده، فوجود سواه تابع لوجوده، تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم به أصل للعلم بكل ما سواه، فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم، إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها، وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى، ولهذا لا تجد فيها خللاً ولا تفاوتاً؛ لأن الخلل الواقع فيما يأمر به العبد أو يفعله، إما أن يكون لجهل به، أو لعدم حكمته، وأما الرب تعالى فهو العليم الحكيم، فلا يلحق فعله ولا أمره خلل ولا تفاوت ولا تناقض".
منزلتها من القرآن:
حين تتأمل كتاب الله عز وجل لا تكاد تفقد الحديث عن الأسماء والصفات؛ ففي سورة من السور أو صفحة من الصفحات تجد أحياناً سرداً لأسماء الله عز وجل وصفاته وحديثاً عن عظمة الله سبحانه وتعالى، وأحياناً تأتي تعقيباً على آية من الآيات في وعد أو وعيد أو حكم شرعي، أو حديث عن المكذبين الضالين، أو عن أنبيائه ورسله، فلماذا هذا الحديث المستفيض في القرآن الكريم عن الأسماء والصفات؟
أليس هذا موحياً بأهمية الأمر؟ ثم أليس هذا موحياً بأن هناك واجب آخر وأن هناك أثر آخر لقضية الإيمان بالأسماء والصفات ينبغي أن نعينه؟ وألا نقف عند مجرد الإثبات وحده، وهو أمر مهم، بل الانحراف فيه ضلال.
ثانياً : الإيمان بالأسماء والصفات :
الإيمان بالأسماء والصفات عند أهل السنة يتضمن إثبات معناها، فهي معلومة المعنى مجهولة الكيف، ولهذا حكموا بضلال أهل التفويض الذين يقولون إن المعنى مجهول أو إن ظاهرها غير مراد.
إنك حين تسأل مسلماً عاميًّا لا يقرأ ولا يكتب،وتقول له إن الله سبحانه غفور حليم تواب رحيم، فهل يعرف من هذه الكلمة معنى أنه عز وجل شديد العقاب، وأن بطشه شديد؟ ألا يفهم من هذا فهماً يترك أثراً على نفسه بغض النظر عن قدرته عن التعبير الدقيق عما فهمه؟
وحينما يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر؛ فيقول: هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ " ألا يفهم منه معنى معيناً؟ اقرأ هذا الحدييث على أحد العامة، وانظر أثره على نفسه.
فإذا كان إثبات معاني الأسماء والصفات على ما يليق بجلال الله عز وجل من واجبات المسلم وداخلاً ضمن اعتقاد أهل السنة، فالمعنى ينبغي أن يكون له أثر على من يؤمن به.
ثالثاً: ختم الآيات بالأسماء والصفات:
نجد الآيات كثيراً ما تختم بالأسماء والصفات، وهي تختم ختماً مناسباً بمعنى ما دلت عليه الآية، ويحكون أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ قول الله عز وجل :?والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم? فقال هذا الأعرابي لست قارئاً للقرآن ولكن عز فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع، ولهذا تجد ختم الآية مناسب لمعناها، قال عز وجل: ?قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير? ،وفي آية الزكاة يقول الله عز وجل ?:إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم? ،وهذا الختم فيه مناسبة ظاهرة كما في آية الفرائض ?يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ..? ختمها عز وجل بقوله :?آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فريضة من الله إن الله كان عليماً حكيماً?، فحين يقرأ أحد هذه الآية فقد يتساءل ولم يعط الابن أكثر من الأب، ولم يفضل الذكر على الأنثى؟ لكن حين يسمع قوله عز وجل: ?آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فريضة من الله إن الله كان عليماً حكيماً? ،يشعر أن الله اتصف بصفة العلم والحكمة سبحانه وتعالى، وهو سبحانه يضع الأشياء في مواضعها.
وحين قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم :?ليس لك من الأمر شئ ? تعقيباً على دعائه صلى الله عليه وسلم على الذين شجوا رأسه صلى الله عليه وسلم ختمها عز وجل بقوله :?يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم? ،بينما قال في سورة المائدة :?يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير?، فهذا السياق يختلف عن ذاك، ولهذا ختمت الآية بهذه الصفة وهناك ختمت بذلك الاسم.
إذاً ختم الآيات بالأسماء والصفات يعطينا دلالة على الارتباط بين الاسم والصفة، وبين ما سبق في الآية، ثم تجد عجباً حينما تتأمل الفرق بين ما قد يبدو لنا أنها مترادفة وليست كذلك، فأحباناً يأتي (غفور رحيم) وأحياناً (غفور حليم) وبينهما فرق دقيق، وأحياناً( عليم حكيم) وأحياناً (عليم حليم) ،ولو قرأت في كتب التفسير لوجدت عجباً في ذلك
منزلة الأسماء والصفات بين أبواب التوحيد:
لو سألت أي شخص عن أنواع التوحيد لقال: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات ولو تصفحت أحد كتب العقيدة لوجدت أن الأسماء والصفات تأخذ حديثاً واسعاً، بل إن هناك طوائف منشأ وجودها وخلافها مع أهل السنة خلافها في الأسماء والصفات.
رابعاً الأمر بالدعاء بها:
لقد أمر الله تبارك وتعالى عباده بأن يدعوه بأسمائه فقال:?ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه?، وفي القرآن الكريم في مواضع عدة أخبر الله سبحانه وتعالى عن جمع من أنبيائه أنهم يدعونه عز وجل بأسمائه وصفاته، قوله تعالى:?وأيوب إذ نادة ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين? ،ودعاء يونس ? ?:لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين?.
ونرى ذلك في السنة فيما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من أدعية دعا بها أو أمرنا أن ندعو بها، نجد كثيراً من هذه النصوص فيها الدعاء بالأسماء والصفات، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :"اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك .." ، والدعاء نوعان: دعاء ثناء، ودعاء مسألة، فحينما يقول المسلم :" أمسينا وأمسى الملك لله …" فهذا دعاء لكنه دعاء ثناء على الله سبحانه وتعالى .
والدعاء بأسماء الله وصفاته ينبغي أن يتناسب مع ما يدعو به المسلم، كما قال ابن العربي:" يطلب بكل اسم ما يليق به، تقول: يا رحيم ارحمني، يا حكيم احكم لي، يا رزَّاق ارزقني، يا هادي اهدني".
وقال ابن القيم : :" يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضياً لذلك المطلوب، فيكون السائل متوسلاً بذلك الاسم، ومن تأمل أدعية الرسل وجدها مطابقة لهذا".
والدعاء بالأسماء الحسنى والصفات العلى له آثار على المسلم، ومنها: الثناء على الله عز وجل بين يدي الدعاء له سبحانه، "ولا أحد أحب إليه الثناء من الله عز وجل" كما قال صلى الله عليه وسلم . وكان النبي صلى الله عليه وسلم في كل خطبة يبدأ بحمد الله والثناء عليه، فالمسلم حينما يدعو الله بأسمائه يثني على الله عز وجل ويتوسل بين يدي الدعاء بعمل صالح يقربه إلى الله عز وجل.
ثانياً: الأثر النفسي على الإنسان حينما يدعو بهذا الاسم، فهذا يدعوه إلى اليقين بالإجابة، واليقين بالإجابة سبب من أسباب استجابة الدعاء، تأمل دعاء الاستخارة "اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، الله إن كان هذا الأمر خير لي …" ،فحين يستخير المسلم ويدعو هذا الدعاء، سيتبرأ من حوله وقوته، ويشعر أنه سلم نفسه بين يدي الله عز وجل، وحينها سيشعر أنه محتاج لدعاء الله ومحتاج لأن يختار الله له، ومحتاج لتوفيق الله وعونه، لأن الله يقدر وهو لا يقدر، ويعلم وهو لا يعلم وهو صاحب الفضل سبحانه وتعالى.
ثالثاً: العبودية والخضوع لله والافتقار بين يدي الله تعالى حين يعيش آثار هذه الأسماء والصفات ومعانيها، ولهذا كان الدعاء هو العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبادة كلها تجتمع في الدعاء لأن فيها فقر وذل وخضوع بين يدي الله عز وجل.