بسم الله الرحمن الرحيم
فصل في ذكر قصة آدم عليه السلام
هذا ذكر هذه القصة من مواضع متفرقة من القرآن وقد تكلمنا على ذلك كله فى التفسير، ولنذكر هاهنا مضمون ما دلت عليه هذه الآيات الكريمات وما يتعلق بها من الأحاديث الواردة فى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله المستعان.
فأخبر تعالى أنه خاطب الملائكة قائلا لهم: {إنى جاعل فى الأرض خليفة} أعلم بما يريد أن يخلق من آدم وذريته الذين يخلف بعضهم بعضًا، كما قال: {وهو الذى جعلكم خلائف الأرض} فأخبرهم بذلك على سبيل التنويه بخلق آدم وذريته، كما يخبر بالأمر العظيم قبل كونه، فقالت الملائكة سائلين على وجه الاستكشاف والاستعلام عن وجه الحكمة لا على وجه الاعتراض والتنقص لبنى آدم والحسد لهم، كما قد يتوهمه بعض جهلة المفسرين، قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} قيل: علموا أن ذلك كائن بما رأوا ممن كان قبل آدم من الجن والبن، قاله قتادة.
وقال عبد الله بن عمر: كانت الجن قبل آدم بألفى عام، فسفكوا الدماء فبعث الله إليهم جندًا من الملائكة، فطردوهم إلى جزائر البحور. وعن ابن عباس نحوه. وعن الحسن أُلهموا ذلك. وقيل: لما اطلعوا عليه من اللوح المحفوظ، فقيل: أطلعهم عليه هاروت وماروت عن ملك فوقهما، يقال له: الشجل. رواه ابن أبى حاتم عن أبى جعفر الباقر. وقيل: لأنهم علموا أن الأرض لا يخلق منها إلا من يكون بهذه المثابة غالبًا. {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} أى نعبدك دائمًا لا يعصيك منا أحد، فإن كان المراد بخلق هؤلاء أن يعبدوك فها نحن لا نفتر ليلاً ولا نهارًا {قال إنى أعلم ما لا تعلمون} أى أعلم من المصلحة الراجحة فى خلق هؤلاء {ما لا تعلمون} أى سيوجد منهم الأنبياء والمرسلون والصديقون والشهداء، ثم بين لهم شرف آدم عليهم فى العلم، فقال: {وعلم آدم الأسماء كلها}، قال ابن عباس: هى هذه الأسماء التى يتعارف بها الناس إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وجمل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. وفى رواية: علمه اسم الصحفة والقدر حتى الفسوة والفسية، وقال مجاهد: علمه اسم كل دابة وكل طير وكل شىء. وكذا قال سعيد بن جبير وقتادة وغير واحد.
وقال الربيع: علمه أسماء الملائكة، وقال عبد الرحمن بن زيد: علمه أسماء ذريته. والصحيح: أنه علمه أسماء الذوات، وأفعالها مكبرها ومصغرها، كما أشار إليه ابن عباس رضى الله عنهما. وذكر البخارى هنا ما رواه هو ومسلم من طريق سعيد وهشام عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شىء)، وذكر تمام الحديث. {ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} قال الحسن البصرى: لما أراد الله خلق آدم، قالت الملائكة: لا يخلق ربنا خلقًا إلا كنا أعلم منه، فابتلوا بهذا، وذلك قوله: {إن كنتم صادقين} وقيل: غير ذلك كما بسطناه فى التفسير، قالوا: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم}، أى سبحانك أن يحيط أحد بشىء من علمك من غير تعليمك.
كما قال: {ولا يحيطون بشىء من علمه إلا بما شاء}، {قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون} أى أعلم السر كما أعلم العلانية، وقيل: إن المراد بقوله: {وأعلم ما تبدون} ما قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها} وبقوله: {وما كنتم تكتمون} المراد بهذا الكلام إبليس حين أسر الكبر والتخيرة على آدم عليه السلام، قاله سعيد بن جبير ومجاهد والسدى والضحاك والثورى واختاره ابن جرير.
وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة: {وما كنتم تكتمون} قولهم: لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه، قوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر} هذا إكرام عظيم من الله تعالى لآدم حين خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، كما قال: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين}، فهذه أربع تشريفات: خلقه له بيده الكريمة، ونفخه فيه من روحه، وأمره الملائكة بالسجود له، وتعليمه أسماء الأشياء، ولهذا قال له موسى الكليم، حين اجتمع هو وإياه فى الملأ الأعلى وتناظرا، كما سيأتى: (أنت آدم أبو البشر، الذى خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شىء)، وهكذا يقول أهل المحشر يوم القيامة، كما تقدم، وكما سيأتى إن شاء الله تعالى.
وقال فى الآية الأخرى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين}. قال الحسن البصرى: قاس إبليس وهو أول من قاس، وقال محمد بن سيرين: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس ولا القمر إلا بالمقاييس، رواهما ابن جريج. ومعنى هذا: أنه نظر نفسه بطريق المقايسة بينه وبين آدم، فرأى نفسه أشرف من آدم، فامتنع من السجود له مع وجود الأمر له ولسائر الملائكة بالسجود.
والقياس إذا كان مقابلاً بالنص كان فاسد الاعتبار ثم هو فاسد فى نفسه فإن الطين أنفع وخير من النار، فإن الطين فيه الرزانة والحلم والأناة والنمو والنار فيها الطيش والخفة والسرعة والإحراق، ثم آدم شرفه الله بخلقه له بيده، ونفخه فيه من روحه، ولهذا أمر الملائكة بالسجود له كما قال: {إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين}. استحق هذا من الله تعالى لأنه استلزم تنقصه لآدم وازدراؤه به وترفعه عليه مخالفة الأمر الإلهى ومعاندة الحق فى النص على آدم على التعيين، وشرع فى الاعتذار بما لا يجدى عنه شيئًا وكان اعتذاره أشد من ذنبه كما قال تعالى فى سورة سبحان: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذى كرمت علىّ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم فى الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادى ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا}، وقال فى سورة الكهف: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} أى خرج عن طاعة الله عمدًا وعنادًا واستكبارًا عن امتثال أمره وما ذاك إلا لأنه خانه طبعه، ومادته الخبيثة أحوج ما كان إليها فإنه مخلوق من نار، كما قال وكما قررنا فى صحيح مسلم، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خلق الملائكة من نور، وخلقت الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم).
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى ومحمد بن جعفر، حدثنا عوف، حدثنى قسامة بن زهير، عن أبى موسى، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود، وبين ذلك، والخبيث والطيب، والسهل والحزن، وبين ذلك).
ورواه أيضًا عن هوذة، عن عوف، عن قسامة بن زهير سمعت الأشعرى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزن، وبين ذلك، والخبيث والطيب، وبين ذلك). وكذا رواه أبو داود والترمذى وابن حبان فى صحيحه من حديث عوف بن أبى جميلة الأعرابى، عن قسامة بن زهير المازنى البصرى، عن أبى موسى عبد الله بن قيس الأشعرى، عن النبى صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقال الترمذى: حسن صحيح.
وقد ذكر السدى عن أبى مالك وأبى صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا: فبعث الله عز وجل جبريل فى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: أعوذ بالله منك أن تنقص منى أو تشيننى، فرجع ولم يأخذ، وقال: رب إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل، فعاذت منه، فأعاذها، فرجع، فقال، كما قال جبريل، فبعث ملك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلطه، ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة بيضاء وحمراء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، فصعد به فَبلَّ التراب حتى عاد طينًا لازبا، واللازب هو الذى يلزق بعضه ببعض، ثم قال للملائكة: {إنى خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين} فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه، فخلقه بشرًا فكان جسدًا من طين أربعين سنة، من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم منه فزعا إبليس، فكان يمر به فيضربه، فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة، فلذلك حين يقول: {من صلصال كالفخار} ويقول: لأمر ما خلقت ودخل من فيه وخرج من دبره، وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف، لئن سلطت عليه لأهلكنه، فلما بلغ الحين الذى يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح، قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحى فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح فى رأسه عطس، فقالت الملائكة: قل الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال له الله: رحمك ربك، فلما دخلت الروح فى عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخلت الروح فى جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، وذلك حين يقول الله تعالى: {خلق الإنسان من عجل}، {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون من الساجدين} وذكر تمام القصة.
ولبعض هذا السياق شاهد من الأحاديث، وإن كان كثير منه متلقى من الإسرائيليات. فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله آدم تركه ما شاء أن يدعه، فجعل إبليس يطيف به، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك). وقال ابن حبان فى صحيحه: حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما نفخ فى آدم فبلغ الروح رأسه عطس، فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال له تبارك وتعالى: يرحمك الله).
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن عبيد الله، عن حبيب، عن حفص، هو ابن عاصم بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، عن أبى هريرة، رفعه، قال: (لما خلق الله آدم عطس، فقال: الحمد لله، فقال له ربه: رحمك ربك يا آدم). وهذا الإسناد لا بأس به ولم يخرجوه. وقال عمر بن عبد العزيز: لما أمرت الملائكة بالسجود كان أول من سجد منهم إسرافيل فآتاه الله أن كتب القرآن فى جبهته. رواه ابن عساكر.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا عمرو بن محمد، عن إسماعيل ابن رافع، عن المقبرى، عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق آدم من تراب، ثم جعله طينًا، ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنونا خلقه الله وصوره، ثم تركه حتى إذا كان صلصالاً كالفخار، قال: فكان إبليس يمر به فيقول له: لقد خُلقت لأمر عظيم، ثم نفخ الله فيه من روحه، فكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه فعطس، فلقاه الله رحمة ربه، فقال الله: يرحمك ربك، ثم قال الله: يا آدم، اذهب إلى هؤلاء النفر فقل لهم السلام عليكم، فانظر ماذا يقولون، فجاء فسلم عليهم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فقال: يا آدم، هذا تحيتك وتحية ذريتك، قال: يا رب، وما ذريتى؟ قال: اختر يدى يا آدم، قال: اختار يمين ربى، وكلتا يدى ربى يمين، وبسط كفه، فإذا من هو كائن من ذريته فى كف الرحمن، فإذا رجال منهم أفواههم النور، فإذا رجل يعجب آدم نوره، قال: يا رب، من هذا؟ قال: ابنك داود، قال: يا رب، فكم جعلت له من العمر؟ قال: جعلت له ستين، قال: يا رب، فأتم له من عمرى حتى يكون له من العمر مائة سنة، ففعل الله ذلك وأشهد على ذلك، فلما نفد عمر آدم بعث الله ملك الموت، فقال آدم: أو لم يبق من عمرى أربعون سنة، قال له الملك: أو لم تعطها ابنك داود؟ فجحد ذلك فجحدت ذريته ونسى فنسيت ذريته).