في هذهالـليلة...!!في هذه الليلة المباركة: حضرت جنازة - رحمالله صاحبها، ورزق أهله الصبر والثواب، وغفر لنا وتجاوز عنا -، فنطق قلمي فقال:
أخي! هل وقفت يوماً على قبر؟
إن لم تكن وقفت فقف لتعلم حقيقة الدنيا التيتحيا فيها.
إن منظر القبر يزرع فيك معنى أنتغافل عنه.
إنه يلفك بكفن أبيض هو كفن الموتى،ويخرجك من جميع آمالك الدنيوية، ويقطع بينك وبين ملذاتك.
وكلما تأملت حال القبر، وحال من فيه، وحالك إذا صرت إليه، ماتت فيك كلشهوة محرمة، وتلاشت من نفسك كل خواطر السوء، وفرغت من كل باطل كما يفرغ كل من أيقنأنه ليس بينه وبين الموت إلا ساعة.
إن اليومالذي تقف فيه على القبر يوم يمتد فيه الموت ويكبر، وتنكمش الحياة فيه وتصغر، يومتحتقر فيه كل شيء يكون سبباً في أكل الدود والتراب جسمك الطري، ووجهك الجميل، يومترى الدنيا فيه على قدر جيفة حيوان بالعراء، نجسة شوهاء، لا تطاق على النظر، ولاعلى الشم، ولا على اللمس.
أنت تسعى وتلهو،وتنام وتصحو، وتجري وتعصي، وتنسى أن القبر يستعد يوماً بعد يوم لاستقبالك، وجوانبهتتهيأ لضمك.
هذا اليوم يقترب سريعاً أو بطيئاًلا فرق لأنه آت، وكلما مر يوم صرت أقرب إليه من الأمس، قال - سبحانه -: {كل نفسذائقة الموت}.
فبعض القبور تزدان لأصحابهابالروح والريحان، والحسن والجنان، وتكون أوسع ما تكون، وبعضها تتقبح لأصحابها بالحروالعذاب والنيران، وتكون أضيق ما تكون، فإن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة،أو حفرة من حفر النيران، فأما المؤمن فإنه يفتح له باب إلى الجنة من قبره، ويرىمقعده فيها، ويفسح له في قبره مد البصر، وأما الكافر فيفتح له باب إلى النار منقبره، ويرى مقعده فيها، ويضيق عليه.
إن القبرينقلك من الدنيا إلى الآخرة، يذكرك أن الدنيا دارُ ممر لا دارُ مقر، وأن البرزخ مابينك وبين الآخرة هي هذه الحفرة الخالية من كل أسباب الزينة والمتاع، الموحش،المظلم، المخيف، المحزن، المبكي.. قال عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها فإنها ترق القلب، وتدمعالعين، وتذكر الآخرة، ولاتقولوا هجراً)[الحاكم، صحيحالجامع رقم 4584].
فبعده تأتي القيامة بما فيهامن أهوال وكرب، ثم بعدها جنة أو نار.
فالقبرأول منازل الآخرة..
كان عثمان بن عفان - رضيالله عنه - إذا وقف على القبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له: " تذكر الجنة والنار ولاتبكي، وتبكي من هذا؟"، قال:" إن رسول الله قال: (إن القبر أول منازل الآخرة، فإننجى منه أحد فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعد أشد منه)"[ابن ماجة،التذكرة ص98].
وكان عثمان - رضي اللهعنه - يقول: فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة و إلا فإني لا أخالك ناجياً [التذكرةص98].
وللقبر ضمة لو نجا منها أحد لنجى منهاسعد بن معاذ (الطبراني صحيح الجامع 5306).
وما من منظر قط إلا والقبر أفظع منه (الترمذي صحيح الجامع 5633)
قال أبو نعيم: " كان سفيان الثوري إذا ذكرالموت لا ينتفع به أياماً، وكان إذا سئل عن شيء قال: لا أدري، لا أدري" (التذكرةللقرطبي ص10).
أخي! ألا تعجب من غفلة من حولك؟
الناس يمرون على القبور ولا يلتفتون إلىعظاتها، ويرون كل يوم محمولاً صلوا عليه ثم واروه في قبره، يدخلون معه إلى قبره،يذرفون الدمع لفراقه، يخلعون شهواتهم وآمالهم عند باب القبر كما يخلعون نعالهم، ثمإذا خرجوا من ساحته بعد دفن ميتهم والترحم عليه عادوا فلبسوا نعالهم، ولبسوا معهاشهواتهم وآمالهم ومعاصيهم ناسين تلك الذكرى العظيمة الكبرى!، فما أن تخطوا أقدامهمخارج سور المقبرة حتى تعض نفوسهم على دنياهم كماتعض أقدامهم على نعالهم!.
إن الناس يزينون أنفسهم في الدنيا بشتىالزينة، فإذا أخذوا إلى القبور تقللوا من المظاهر، ورضوا بالمعاني، وقليل منالملابس، وزهدوا في جميله وثمينه، لا فرق بين ملك ولا مملوك، ولسانهم: الحي أولى منالميت.
أخي! هل تدري متى ستوارى في قبرك،وتسكن جنبات منزلك الذي لم تتكلف في شرائه أو تزيينه؟.
تعلّم أنه ليس لذلك زمن معلوم، ولا سن معلوم، ولا مرض معلوم، فأنتبين الحين والآخر في انتظار أن يُرسَل إليك الداعي ليقلبك إلى برزخك، ويخرجك منبيتك ومخدعك.
قيل إن أول من قَبَر هو قابيللما دفن أخاه هابيل بعدما قتله، وقعد عند رأسه يبكي، إذ أقبل غرابان يقتتلان، فقتلأحدهما الآخر، ثم حفر له حفرة فدفنه فيها، ففعل مثله، وقيل إن الغراب هو الذي بحثالتراب على هابيل ليدفنه، فندم حيث رأى إكرام الله لأخيه، ولم يكن ندم توبة (التذكرة ص99)، ومنذ ذلك اليوم وإلى اليوم والقبور في زيادة.
القبر يُبكي عيون الأحرار، القبر يفرقالجماعات، ويقطع الأمنيات، ويقرّح القلوب، ومن مات انتقل إليه، فيومه يوم مصرعالفتى، ينتقل من سعة بيته إلى ضيق لحده، بعد أن يتخلى عنه الصديق والأخ والوالدينوالأبناء، وكربات الموت عسيرة صعبة على المحتضر، وإنما لا يفر ولا يصيح لأن الكربقد بالغ فيه، فإذا بدأ الملك ينزع روحه تبرد أولاً قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، ثمبطنه، ثم صدره، ثم تبلغ به الحلقوم.. فحينذاك ينقطع نظره إلى الدنيا وأهله، ويغلقدونه باب التوبة.
قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)[أحمد صحيح الجامع 1903].
كان بعضالصالحين قد حفر في بيته قبراً، كلما نازعته نفسه إلى الدنيا من شهوة أو معصية، نزلفيها وأغلق على نفسه، يريها حقيقة الموت، والحال في القبر، لترجع عن غيها، فكم ذانحن بحاجة إلى قبور نعظ ونزجر بها أنفسنا عن السفاهة.
إن القبر عظة تزلزل القلوب، وتوقظ النفوس من رقدتها، لكن بعض النفوسأصابها العمى فما تحس بهول القبر، فتدخل إلى القبور وتخرج منه كما دخلت، ملطخةبنجاسات الدنيا، دون أن تتطهر أو تتزكى.
كانرسولنا الكريم إذا دخل القبر يخشع ويبكي، ويجلس والصحابة حوله، ينكت بالعود فيالأرض من هول الفاجعة، فيعظهم ويأمرهم بالدعاء للميت وسؤال المغفرة له والرحمةوالتثبيت، ليخفف الله عنه ما هو فيه من سؤال منكر ونكير، وما هو فيه من الهلعوالفزع لشيء لم يمر به قبل يومه ذاك.
إن الوحشةوالجزع تأخذ الميت حتى يتمنى على دافنيه أن لو لم يبرحوا مكانهم لعل ذلك يخفف عنهلحظات الشدة والغربة، قال عمرو بن العاص: " إذا دفنتموني فأقيموا حول قبري قدر ماتنحر جزور، ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وانظر ماذا أراجع به رسل ربي"[رواه مسلم].
فأما الصالح فيجلس في قبره غير فزع، وأما السيءفإنه يجلس في قبره فزعاً غير مستجمع عقله، فإذا جاءه الملكان فسألاه ذهل فلم يدر مايقول.
أخي! إذا دخلت القبور فسلم على أهلها،وقل: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) مسلم، وتذكر أنكلاحق بهم، فإذا كنت اليوم حاملاً فغداً أنت محمول، وإذا دخلت القبور فلا تدخل إلاوأنت عازم على تزيين قبرك بالعمل الصالح، ولا تكثر من حجج الله عليك، إذ يريك آياتهالباهرة فلا تزداد يقيناً، ولا تنزجر عن معصية، وإذا ظننت أنك ستدعى للنزول إلى قبرميت، فاحرص على التطهر من الخطايا قبل ذلك، فإنا سمعنا أن رسول الله ماتت له بنت،فقال: (هل منكم رجل لم يقارف الليلة)؟ فقال أبو طلحة: أنا، قال: (فانزل في قبرها)،فنزل في قبرها فقبرها.
قال ابن المبارك: فليح: " أراه يعني الذنب" البخاري، الجنائز، باب من يدخل قبر المرأة.
واعلم أن رسول الله قد:
- نهى عن رفع القبور وتشييدها، وتزيينهاوالبناء عليها، لأن فيها تمييز بعضها على بعض، وذلك يمنع الاتعاظ والاعتبار بها،ويدخل في الغلو والرياء والشرك.
- وكذا نهى عنالجلوس عليها أو الوقوف لأن فيه امتهاناً لها، وتضييعاً لهيبتها.
- ثم إن القبر منه لحد ومنه شق، فاحرص على أنيكون قبرك لحداً فهي السنة، وقبره - عليه السلام - كان لحداً، فاللحد لنا، والشقلغيرنا.
وبعد:
فإن القبر حقيقة مرة لا مفر منها، ومنزل آت لابد منه، فيا أخي! كما وقفتعلى القبر فقف على حقيقته، ولا تلقي حقائق الدنيا وراء ظهرك، وتقبل على أكاذيبهاوزخارفها الزائلة الخادعة، قال - تعالى
( يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنياولا يغرنكم بالله الغرور).