الأسرار بين الحفظ والإفشاء وموقف الشريعة الإسلامية
السر هو ذلك المكنون الذي تضمنه الجوانح والصدور ،والذي لا يستطيع كتمانه والحفاظ عليه إلا أولوا العزم من الناس ، الذين كبروا على شهوات أنفسهم وتمردوا على حب الشهرة والذات ، وعصموا ألسنتهم عن أن تفتق حجاب السر أو تهتك ستاره ، حتى يظل في طي الكتمان إلى ما أريد له من الزمان.
وحتى يكون في كتمانه نجاح صاحبه وفلاحه والسر من الأمور التي يجب الحفاظ عليها ، ومعاقبة الذين يحومون حولها، ويتعدون على حماها ، ولقد جرت سنة الله في خلقه على ذلك حيث يقول سبحانه :
(ولقد جعلنا في السماء بروجا وزينها للنظرين * وحفظنها من كل شيطن رجيم* إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين [الحجر 16 و17] فهذه الآية الكرمة تنبه إلى أمرين مهمين:
أولا: ضرورة استعمال الحذر في صيانة الأسرار وبذل الوسع في حفظها عمن يتطلع إلى تلقفها سواء كانت أسرارا شخصية ، أو أسرارا متعلقة بشئون الدولة فإن الله وضع حرساً شديداً لحفظ أسرار السماء من الشياطين.
ثانيا: مشروعية وضع العقوبة الرادعة للمعتدين قطعا لدابر العدوان في الأرض، لأن الله جعل جزاء الشياطين المعتدية على أسرار السماء إعدامها الفوري بالشهب الراصدة لها. إن الحافظ للسر كالكاظم للغيظ، كلاهما يحتاج إلى قلب كبير وضمير حي وعزيمة قوية، وفقنا الله للصواب وجعلنا من أولي الألباب. وحفظ الأسرار مقصد شرعي ومطلب ديني ووطني فيما يتعلق بأسرار الدولة. وخاصة ما يتعلق بالاستراتيجيات وأوقات الحرب.
وجدير بالذكر أن مادة السر وردت في القرآن اثنتين وثلاثين مرة بالصيغ المختلفة، وجاءت في كثير من الآيات مقابلة السر بالجهر ، ومقابلته بالعلن ، كما ذكر السر مقابلا بعدم الإبداء، وكما عبر عنه بالإخفاء ومن هذا يمكن أن يقال : أنّ السر هو ما لا يظهر ويعلن أو ما لا يراد له الظهور والإعلان.
ومعنى حفظ السر ، كتمانه وعدم إظهاره وإعلانه فلو ظهر الشيء المراد إخفاؤه لم يعد سراً ، غلا إذا ظهر لشخص أو لأشخاص معلومين وطلب إليهم ألا يفشوه ، وألا يتعدى دائرتهم ، فيكون سرا بالنسبة إليهم تجب عليهم صيانته وحفظه.
وفي الحياة أمور كثيرة خافية غير معلومة إلا لله سبحانه وتعالى، وليس كل ما يعلم يجوز إظهاره وإفشاؤه ، وعند الله معلومات كثيرة اقتضاها علمه الشامل لم يطلع عليها أحداً من خلقه ،إلا ما شاء أن يطلع على بعضه بعض من يريد من الأصفياء.
وإذا كان إخفاء السر جزءا من معناه أو من لوازم معناه كان هذا المعنى يوحي بالمحافظة على الأسرار وكتمانها وعدم إفشائها ، ويكون ذلك أمرا مرغوبا فيه عقلا وشرعا، كما يكون إظهاره وإفشاؤه مستقبحا لا يجوز إلا لضرورة وفي أضيق الحدود ، إذا كانت هناك مصلحة تفوق كتمانه.
وعن السر والعلن والجهر وعدم الإبداء وردت آيات كثيرة من القرآن الكريم منها على سبيل المثال:ـ
1ـ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار [الرعد 10]
( واسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور). [الملك ـ 13] (والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ) [النمل ـ 19]. وأنفقوا مما رزقنهم سرا وعلانية [فاطر ـ 29].
2ـ فأسرها يوسف في نفسه ، ولم يبدها لهم [يوسف ـ 77].
3ـ تسرون إليهم بالمودة وأنا اعلم بما أخفيتم وا أعلنتم [الممتحنة ـ 1].
4 ـ ولا يحيطون بشيء من عليه إلا بما شاء [البقرة 255] ، (عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحدا إلا من ارتضى من رسول) [الجن ـ 26 ، 27] إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيب ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي ارض تموت إن الله عليم خبير [لقمان ـ ].
إفشاء السر حرام
وإذا كان الحفاظ على السر واجب فإن إفشاء السر حرام لأنه يؤدي إلى ضرر فإن اختيار سريته دليل على أن إفشاءه فيه ضرر، والضرر ممنوع شرعا ـ كما أن إفشاءه يكون خيانة حيث يكون السر أمانة، ويكون غدرا بالعهد وعدم وفاء بالوعد ، إذا كان هناك وعد أو عهد بصيانته سواء أكان ذلك بالحال أو بالمقال ، والله سبحانه حرم الخيانة وحرم الغدر ، وعد الوفاء ، ومن اجل تحريم إفشاء السر أجاز العلماء الكذب حفظا للسر أن يظهر ، فإن الصدق لا يكون محمودا في جميع الأحوال وقد يطلب الكذب في بعض الأحوال وقد نص على ذلك الإمام الغزالي في الأحياء . وتحريم الخيانة والغدر وعدم الوفاء أمور معروفة. لأن الإسلام ينبذها والأدلة من القرآن الكريم على تحريم هذه الصفات المذكورة كثيرة ومنها على سبيل المثال:
يقول تعالى:
وإذا جاءهم امر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولوردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطن الا قليلا* [النساء ] (وما وجدنا لأكثرهم من عهدوا إن وجدنا أكثرهم لفسقين [الأعراف ـ 102] . ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا امنتكم وانتم تعلمون [الانفال ـ 27]. كما أن الأدلة من السنة النبوية المطهرة كثيرة منها : "لا ضرر ولا ضرار". وعن أنس رضي الله عنه قال : ما خطبنا رسول الله إلا قال : "لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له ". رواه أحمد. وقال : (إذا حدث رجل رجلا بحديث ثم التفت فهو أمانة). وقال : "المجلس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس مجلس سفك دم حرام ، أو فرج حرام ، أو اقتطاع مال بغير حق" رواه أبو داود. روي عن أم كلثوم قالت : (ما سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرخص شيء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل يقول القول يريد به الإصلاح ، والرجل يقول القول في الحرب ، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها)، وقالت أيضا : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : "ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيرا أو نمى خيرا" الإمام الغزالي ج 2 ص 157.
وفي الفقه الإسلامي تكلم الكثير ، قال ميمون بن مهران الكذب في بعض المواطن خير من الصدق ، أ رأيت لو أن رجلا سعى خلف إنسان بالسيف ليقتله ، فدخل دارا فانتهى إليك ، فقال : أ رأيت فلانا؟ ما كنت قائلا؟ الست تقول لم آره؟ وما تصدق به .. وهذا الكذب واجب .. الأحياء ج2 ص 157.
حفظ السر من مقاييس الفضل والكمال
يقول العلماء: أن الأمين على السر أقوى وأكمل من الأمين على المال لأن العفة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار ولأن الإنسان قد يذيع سر نفسه بمبادرة لسانه وسقط كلامه، ويشح باليسير من ماله حفظا له وضنا به ، ولهذا كان أمناء الأسرار اشد تعذرا، وأقل وجودا من أمناء الموال ، وكان حفظ المال أيسر من كتم الأسرار "لأن إحراز الأموال منيعة وإحراز الأسرار بارزة ، يذيعها لسان ناطق ويشيعها كلام سابق".
والذي يحفظ السر رجل قوي الإرادة ، صلب العزيمة استطاع أن يجاهد نفسه ويقهر شيطانه، ومن هنا يمكن للإنسان أن يأنس به ويستريح إليه في صداقة أو معاملة أو غير ذلك.
والذي لا يحفظ السر ولا يبالي بإفشائه رجل فيه ثلاث صفات مذمومة.
1ـ ضيق صدره وقلة صبره.
2ـ غفلته عن الحذر الذي يجب أن يكون عند العقلاء ، وسهوه عن اليقظة التي ينبغي أن يتصف بها أذكياء فهو رجل أحمق غبي.
3ـ ارتكابه الضرر والمخاطرة بما لا يعرف عقباه.
وتأمل معي أيها القارئ الكريم تلك النصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يقول تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها واشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) [الأحزاب ـ 72] وقال:
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق 18]. ومن السنة أيضا نجد قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، وروى ابن عباس عن أنس (الصمت حكم وقليل فاعله).
والجدير بالذكر أن الذي يحمل على إفشاء السر عدة أمور منها:
1) العجب والفخر والزهور، وذلك بإظهار علمه بشيء لا يعلمه غيره، وقديما حمل هذا الشعور بعض الناس على إيراد الغرائب والعجائب ـ وحمل أهل الكتاب ـ وبخاصة الاحبار ـ على افتراء أمور غريبة وحكايتها للناس ليظهروا لهم عملهم، وقام القصاص بدور كبير في اختراع القصص، بل في وضع الأحاديث على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإظهار مكانتهم ، واستجداء خير الناس ، أو تعظيمهم لهم ، فقد يكون الحامل للرجل على إفشاء السر مثل هذا الشعور.
2) طبيعة الإنسان في حبه إتيان ما منع منه ، فإن المحظور يغري بارتكابه إن لم تكن هناك عصمة من خلق او دين كما يقول القائل (احب شيء إلى الإنسان ما منعناه منه).
3) النكاية او التشهير ، فإن إفشاء السر يؤذي صاحب السر إيذاء شديدا، والسر سلاح خطير قد يستعمل في الشر إن لم يكن هناك خلق أو دين.
4) الاستفادة من هذه الاسرار التي عرفها فهي معلومات يمكن له أن ينتهزها فرصة ويستعملها في خير يفيده، كمن يودع سر صنعته، أو خططه الاقتصادية مثلا عند غيره من الناس فيفشيها هو باستعمالها وتطبيعها، ويفوت بها غرضا طيبا كان يقصد إليه صاحب السر من كتمانه وإيداعه عند هذا الشخص . فإفشاء السر إما لطبيعة في النفس ، وإما لإرادة الشر للغير ، أو حب الخير للنفس.
فوائد حفظ السر ومضار إفشائه
ومما لا شك أن كتمان السر يساعد على النجاح في الأعمال ، ويؤمن السالك من أخطار الطريق ، ويريح الضمير ، ويحفظ للإنسان مكاسب طيبة مادامت بعيدة عن علم الغير، ولا يتيح للمنافس أو العدو فرصة يظهر بها عليه أو ينال بسببها منه.
وإفشاء السر موجب للضغينة ، موقع في الحرج ، مفرق بين الأحبة ، مخرب للأسرة ، مسبب في اضطراب الأمن، ممكن للعدو من النيل من الإنسان أو الجماعة، فقد يكون عند الإنسان ثروة لو عرف الغير سرها لأغرت اللصوص أو أكثرت الحساد عليه، وقد يكون مشروع علمي لو أطلع الغير عليه لسبقه إليه ن أو تخطيط حربي لو عرفه العدو لأفاد منه.
ومن أجل ذلك جاء التحذير الشديد من إفشاء السر ، وجاء الأمر بحفظه وصيانته ، وتأمل قوله تعالى على لسان يعقوب لابنه يوسف حينما قص عليه رؤياه بسجود الكواكب والشمس له : "قال يابني لا تقصص رُءيال على إخوتك فيكدوا لك كيدا إن الشيطن للإنسن عدو مبين) [يوسف 5] ومن السنة تأمل أيضا ، قال عليه الصلاة والسلام " إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس ، يهوى بها أبعد ما بين السماء والأرض ، وإن المرء ليزل على لسانه ، اشد ما يزل على قدميه" البيهقي. وقال : "إن أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها".
ومن المأثور نجد : (استعينوا على قضاء حاجاتكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود ) ذكره المارودي في أدب الدنيا والدين..
قال علي كرم الله وجهه : (سرك أسيرك ، فإن تكلمت به صرت أسيره).
وقال عتبة لابنه الوليد : "من كتم سره كان الخيار بيده ، ومن أفشاه كان الخيار عليه" الأحياء ج 3 ص114.
ولإفشاء السر وسائل كثيرة فقد يكون بكلمة تقولها لغيرك في أثناء حديث عادي أو لقاء عابر ، وقد يكون بإشارة صامته لكنها عند الغير تكون معبرة عن شيء كبير ، وقد يكون بمقالة تكتب أو خبر ينشر ، أو بمقالة صحفية ، أو تقرير عن العمل أو نشرات دعاية او تحد بعدم المعرفة.. بل قد يكون إفشاء السر بمعرفة رقم "التليفون" أو بالتزام السير أو السهو أو الوجود في شارع أو حي أو مكان معين ، وقد يكون بنظر أحد المتطفلين إلى بعض أوراق يحملها الإنسان فيعرف منها اسم حاملها وعمله ، وكثيرا مما لا يجب أن يعرف ، وقد يكون التحسس والتجسس وقد يكون التحمس في الحديث لإظهار العلم والاحاطة ببواطن الأمور وسيلة من وسائل إفشاء السر، وقد يكون "فنجان شاي" في الاذاعة أو "حول المائدة المستديرة" أو "معرفة الوجة الآخر" في التلفزيون أو غير ذلك من التصرفات البريئة وسيلة من الوسائل الفعالة في إظهار الأسرار ، وكل ذلك يجب التفطن إليه والحذر من الوقوع فيه . يقول الله تعالى : (خذوا حذركم) [النساء ـ 71] وقال (ولا تجسسوا ) [الحجرات ـ 12] . وفي الحديث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "اياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله اخوانا" رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
وقال "من استمع إلى خبر قوم وهم له كارهون ، صب في إذنه الآنك يوم القيامة" رواه البخاري عن ابن عباس.
وروى أحمد في سنده عن سعدي بن المقبري قال : (رأيت بن عمر يناجي رجلا ، فدخل رجل بينهما فضرب صدره وقال له : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : "إذا تناجى اثنان فلا يدخل بينهما الثالث إلا باذنهما ") غذاء الألباب ـ ص 296.
وإذا كان للسر وسائل إفشاء فإن مجالات السر كثيرة ومتعددة فقد تكون في القطاع الاقتصادي ، والقطاع السياسي ، والقطاع الحربي ، والقطاع الثقافي وفي جميع القطاعات ، وتكون في المصانع والمعامل والمتاجر ، ومكاتب الحكومة ، والشركات وغيرها وتكون بين أعضاء الأسرة ، وفي محيط الأصدقاء والزملاء والعمال وفي جميع المجالات والأوساط وكل المستويات ، فكل شيء يحرض على إخفائه فهو سر ، وإذاعته بأي وسيلة جريمة.
السر بين الزوجين ووجوب صونه
من القرآن نجد قوله تعالى:
وإذا أسر النبي إلى بعض أزوجه حديثا فلما نبأت به ، وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير [التحريم 3] . ومن السنة النبوية نجد قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها ، وفي رواية ثم ينشر أحدهما سر صاحبه".
رواه مسلم عن أبي سعيد . ومن وصايا العرب للعروس : ولا تفشي له سرا ، فإنك لو أفشيت سره ، أوغرت صدره.
سر البيوت لا ينبغي أن يفشي ، ففي الحديث عن ثابت رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مر على أنس وهو يلعب مع الغلمان فسلم عليهم ثم بعثه في حاجة فلما أبطأ على أمة سألت عن السبب فقال : بعثني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فالت وما حاجته ؟ فقال : إنها سر ، فقالت : لا تخبر بسر رسول الله أحدا ، قال أنس : والله لو حدثت به أحد لحدثتك يا ثابت " رواه البخاري ومسلم.
سر المجلس
وسر المجلس أمانة يجب أن يصان : يقول الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أمنتكم وأنتم تعلمون)[الأنفال 27].
وفي الحديث النبوي : "المجالس بالأمانة" رواه أبو داود . وفي الحديث السابق : "إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة" رواه أبو داود والترمذي . والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول "لا إيمان لمن لا أمانة له ". كما أن مجالات السر ليست على درجة واحدة ولكنها متفاوتة هناك مجالات للسر هامة وخطيرة يجب العناية بها إلى حد كبير، والخطورة تأتي إما من جهة صاحب السر ، وإما من خطورة العمل والسر نفسه ، وإما من خطورة الظروف والمناسبات ، فسر الرجل العظيم ليس كسر غيره ، وسر العمل الهام ليس كسر عمل بسيط ، والسر عند الظروف الحرجة ، ليس كالسر في الظروف العادية ، وإليك صورا إسلامية توضح ذلك كله :
1) "لما تأيمت حفصة بنت عمر عرضها أبوها على عثمان ليتزوجها فاعتذر فعرضها على أبي بكر فلم يرد عليه بإيجاب أو نفي ، فغضب منه أكثر من غضبه على عثمان ، فلما خطبها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقابل أبو بكر عمر قال له لعلك وجدت على حين عرضت حفصة علي فلم أرجع إليك شيئا؟ قال : نعم ، قال : إنه لم يمنعني أن أرجع إليك شيئا حينما عرضت علي إلا أنني كنت علمت أن النبي يذكرها ، فلم أكن لأفشي سر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رواه البخاري.
2) "لما ولي عمر بن الخطاب قدامة بن مظنون بدل المغيرة أمره ألا يخبر أحدا ، فلم يكن له زاد ، فتوجهت امرأته إلى دار المغيرة ، أقرضونا زاد ، لراكب فإن أمير المؤمنين ولي زوجي الكوفة، فأخبرت امرأة المغيرة زوجها ، فجاء عمر واستأذن عليه وقال له : وليت قدامة الكوفة وهو رجل قوي أمين ، فقال : ومن أخبرك؟ قال : نساء المدينة يتحدثن به ، فقال اذهب وخذ منه العهد" (محاضرات الأدباء للأصفهاني ج1 ص 75).
3) قال العباس لأبنه عبد الله : "إني أرى هذا الرجل ـ يعني عمر بن الخطاب ـ يقدمك على الأشياخ فاحفظ عني خمسا : لا تفشين له سرا ، ولا تغتابن عنده أحدا ولا تجرين عليه كذباً ، ولا تعصين له أمراً ، ولا يطلعن منك على خيانة". (الأحياء ج 2 ص 158).
4) طلب بنو قريظة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يرسل إليهم (أبا لبابة ) لاستشارته فيما عرض عليهم النبي فقاموا إليه يبكون ، قالوا : كيف ترى لنا أنزل على حكم محمد ؟ قال : نعم ، وأشار بيده إلى حلقة ـ يقول ـ إنه الذبح ، ثم علم من فوره أنه خان الله ورسوله ، فمضى ولم يرجع إلى النبي حتى أتى مسجد المدينة فربط نفسه بسارية وحلف ألا يحله إلا رسول الله بيده ، لا يدخل أرض بني قريضة أبداً ، ثم تركه النبي حتى تاب الله عليه فحله بيده . (زاد المعاد ج 2 ص 73).
5) لما اعتزم النبي فتح مكة أمر عائشة أن تجهزه ، فدخل عليها أبوها أبو بكر وهي تعد الجهاز ، فقال : أي بنية أمركن رسول الله بتجهيزه ؟ قالت : نعم قال : فأين ترينه يريد ، فقالت والله ما أدري ، ثم أعلم النبي الناس أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد والتجهيز وقال : "اللهم خذ والعيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها ، لكن حاطب بن أبي بتلعة كتب إلى قريش بذلك وأرسل الكتاب مع امرأة وجعل لها جعلا فأخفته في قرون رأسها ، وكان من أمره ما كان وكان من رأي عمر قتله ، ولكن النبي عفا عنه لأنه من أعلى بدر ، ونزل في ذلك قول الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما اخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل ) [الممتحنة ـ 1].
ففي هذه القصة ـ عدم اخبار عائشة أباها بمقصد لانبي ، ومنها دعا النبي أن يأخذ العيون من قريش حتى يبغتها ، وغضب النبي على عمل حاطب ورأي عمر في قتله ، ووعيد الله للجواسيس والعملاء.
السر في أيام الحروب والغزوات
إن معرفة أسرار العدو وأخباره تفيدنا فائدة كبيرة في كسب المعارك ، أو على الأقل في دفع الخطر وإعداد العدة والاستعداد للمفاجآت ، والإسلام يأمرنا أن نأخذ الحذر ونتيقظ ونحتاط لأنفسنا عن طريق معرفتنا بخصمنا وفيما يلي صور مما كان يفعله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـلجمع الأخبار . ففي السنة النبوية حدث ما يلي:
?أ. " أرسل سرية بقيادة عبد الله بن جحش إلى نخلة بين مكة والطائف وكتب له كتابا وأمره ألا ينظر ما فيه حتى يسير يومين ، ولما فتحه بعد اليومين وجد فيه تعيين الجهة التي أرسل إليها، والمهمة التي وكلت إليه فالجهة هي نخلة ، والمهمة هي التربص بقريش ومعرفة أخبارهم ، وكان ذلك في شهر رجب في السنة الثانية من الهجرة
?ب. ذهب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه أبو بكر إلى بدر وقابلا رجلا وسألاه عن أخبار قريش وعرفا منه مكانهم ولما كان الرجل قد شرط عليما أن يعرف من أي قبيلة هما فقال النبي: أخيرا نحن من ماء ، ثم انصرفا عنه وحار الرجل في معرفة هذا النسب أو هذه الجهة.
?ج. أرسل النبي في بدر بسبسة بن عمرو ، وعدي بن أبي الزغباء ، وعرفا من حديث امرأتين تتلازمان على الماء أن عير قريش ستأتي غدا أو بعد غد ، فرجعا وأخبرا النبي بذلك خصوصا وأن العامل على الماء وهو مجدى بن عمر والجهني صدق المرأتين على ما قالتا.
?د. بعث النبي عليا والزبير وسعد بن أبي وقاص مع جماعة إلى بدر لالتماس الاخبار ، فجاءوا براوية لقريش وسألهما النبي عن الخبار، فعرف مكانهم ، وعددهم وزعماءهم ، والأمثلة كثيرة عن مظاهر كتمان السر عن العدو منها:
1. كان النبي عليه السلام إذا أراد غزوة وارى بغيرها، كأن يقول إذا أراد غزو حنين: كيف طريق نجد، ومياهها ومن بها من العدو، وكان يقول : "الحرب خدعة".
2. التزام الصمت عند الزحف ـ وورد في الحديث عن الحسن عن قيس ابن عباد ، قالا : كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكرهون رفع الصوت عند القتال رواه أبو داود ـ وفي رواية ابن المتدرعة كانوا يكرهون رفع الصوت عند الثلاث عند الجنائز ، عند الذكر ، وعند الذكر ، وعند القتال (فقه السنة) 4 ص 118.
3. كلمة السر ، وشارات التعارف بين الجند في المعركة ـ روى الحاكم عن عائشة ، جعل رسول الله شعار المهاجرين يوم بدر عبدالرحمن ، والخزرج عبدالله ، وأخرج عن أبن عباس مرفوعا: جعل الشعار للأزد يا مبرور يا مبرور وروى احمد وأبو داود والترمذي حديث النبي : "إن بينكم العدو فقولوا حم لا ينصرون " وعن سلمة بن الأكوع غزونا مع أبي بكر زمن الرسول فكان شعارنا أمت ، أمت . رواه أحمد وأبو داود ـ واحيانا يا منصور أمت.
4. لما انتهت معركة أحد نادى ابو سفيان: أفيكم محمد ، أفيكم أبو بكر ، أفيكم عمر؟ وقد أمر النبي بعد اجابته، حتى لا يعود المشركون للقتال ، والمسلمون مازالت جراحاتهم دامية.
5. أرسل النبي عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل ، فأمرهم ألا يوقدوا نارا، ولما أنكر عليه عمر ذلك ، قال له أبو بكر : دعه يا عمر فإن رسول الله لم يبعثه علينا إلا لعلمه بالحرب.
ولما عادوا وأخبروا النبي بذلك سأله فقال : كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا نارا فيرى عدوهم قتلهم (الزرقاني على المواهب ج 2 ص 279).
6. أوصى أبو بكر شرحبيل بن حسنة عندما بعثه في الغزو فقال : وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرم مثواهم، وأقلل حبسهم حتى يخرجوا من عندك وهم جاهلون بما عندك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وليكن أنت الذي تلي كلامهم، واستر من عسكرك الأخبار وأصدق الله إذا لقيت ولا تجبن فيجبن سواك.
7. تبديد إشاعة موت القائد ن أو اخفاء موته وقت المعركة حتى لا ينهزم الجند ، أو يطمع فيهم العدو. ومن ذلك ما كان ، حين صرخ الشيطان أحد أن محمد قتل ، فألقى بعض المسلمين السلاح، ومر بهم أنس بن النضر فصرخ فيهم ما جلوسكم؟ قالوا : إن محمدا قد قتل فقال : وما قيمة الحياة بعد محمد قوموا فموتوا على ما مات عليه.
وقد حدث أن النعمان بن مقرن قائد معركة نهاوند قد مات في أثناء المعركة فأخفوا موته حتى انتصروا. كما حدث مثل ذلك حيث أخفت شجرة الدر موت الملك الصالح نجم الدين، وكانت الحرب مع الصليبيين قائمة حتى وصل توران شاه .. وليعلم كل مسلم أن هناك أمورا تساعده على كتمان السر وهي :
1- عدم تسليم السر إلى الغير إلا لضرورة قاسية.
2- اختيار من يودعهم السر إذا اقتضى الأمر، بأن يكون فيهم عقل يصدهم عن الانزلاق ، ودين يحجزهم عن اثم هتك السر، وصح واخلاص يعرفون به من محبة الخير للناس، وود موفور يحافظون به على دوام الصداقة بحفظ السر، وخلق الكتمان الذي يعرف به ويشتهر بين الناس.
3- الإقلال بقدر الامكان من عدد من يعرفون السر.
4- وقد علل علماء الأخلاق ذلك بأن الشروط المعتبرة في الأمناء على الأسرار لا تتوفر في عدد كبير، فلا بد أن يكون فيهم من يخل ببعضها، فيفشي السر ، ولأن كل واحد من ه}لاء يجد سبيلا إلى نفس إشاعة السر عن نفسه، واحالته كذلك إلى غيره، حيث لا تكون المسؤولية منحصرة في واحد معين.
على أنه لو سلم من إذاعتهم للسر لم يسلم من التدلل والاستطالة عليه، لأن لمن ظفر بسر من فرط الادلال وكثرة الاستطالة ، ما إن لم يحجزه عنه عقل ولم يكفه عنه فضل كان أشد من ذل الرق وخضوع العبيد.
بشواهد الأيام يثبت صدق ذلك ومن يملكون أسرارا للغير يستعبدونه بها فهي سلاح خطير:
نسأل الله أن يحفظ أسماعنا وأبصارنا وأفئدتنا، وأن يربط على قلوبنا وألسنتنا حتى لا نفكر إلا في الحق ولا ننطق إلا بالحق : (إن السمح والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا).
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
المصدر : المنار الإسلامي العدد العاشر