تكفل الملك العلام بحفظ بيضة الإسلام:rose:
عن ثوبان رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها. وأُعطيت الكنزين الأحمر والأسود. وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ( أو قال: من بين أقطارها )، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا.[1]
راوي الحديث هو ثوبان الهاشمي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم, صحبه ولازمه، ونزل بعده الشام ومات بحمص.[2]
ونحاول فيما يلي شرح هذا الحديث العظيم، والذي يعتبر من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم. قال النووي: وهذا الحديث فيه معجزات ظاهرة, وقد وقعت كلها بحمد الله كما أخبر به صلى الله عليه وسلم.[3]
قوله: ( إن الله زوى لي الأرض ) أي قبضها وجمعها لأجله صلى الله عليه وسلم حتى يراها جميعا. وزويت الشيء جمعته وقبضته, يريد به تقريب البعيد منها, حتى اطلع عليه إطلاعه على القريب منها. قال القاري: وحاصله أنه طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة نظره.[4] قال السندي: وهو يحتمل أن يكون حقيقة، ويحتمل أنه الإدراك فيكون مجازا. فإنه لما أدرك جميعها صار كأنه جُمعت له حتى رآها. والمراد من الأرض ما سيبلغها ملك الأمة لا كلها، يدل عليه ما بعده.[5] ( فرأيت مشارقها ومغاربها ): أي جميعها.
قوله: ( وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ): أي من الأرض. قال الخطابي: يتوهم بعض الناس أن حرف " مِنْ " ها هنا معناها التبعيض, فيقول: كيف اشترط في أول الكلام الاستيعاب، ورد آخره إلى التبعيض؟ وليس ذلك على ما يقدرونه. وإنما معناه التفصيل للجملة المتقدمة, والتفصيل لا يناقض الجملة ولا يبطل شيئا منها, لكنه يأتي عليها ويستوفيها جزءاً جزءاً. والمعنى: أن الأرض زُويت جملتها له مرة واحدة، فرآها. ثم هي تُفتح له جزأٌ جزأٌ منها، حتى يأتي عليها كلها، فيكون هذا معنى التبعيض فيها.[6] قال القاري: ولعل وجه من قال بالتبعيض هو أن ملك هذه الأمة ما بلغ جميع الأرض، فالمراد بالأرض أرض الإسلام, وإن ضمير منها راجع إليها على سبيل الاستخدام.[7]
قوله: ( وأُعطيت الكنزين الأحمر والأبيض ): ( وأُعطيت ) على بناء المفعول وقد أعطاه الله تعالى مفاتيح الخزائن المفتوحة على الأمة. والمراد بـ ( الكنزين ) : الذهب والفضة, والمراد خزائن كسرى وقيصر ملكي العراق والشام. وذلك أن الغالب على نقود ممالك كسرى الدنانير, والغالب على نقود ممالك قيصر الدراهم. وفي النهاية: فالأحمر مُلك الشام، والأبيض مُلك فارس. وإنما قال لفارس الأبيض لبياض ألوانهم ولأن الغالب على أموالهم الفضة, كما أن الغالب على ألوان أهل الشام الحمرة وعلى أموالهم الذهب.[8]
وفيه إشارة إلى أن ملك هذه الأمة يكون معظم امتداده في جهتي المشرق والمغرب, وهكذا وقع. وأما في جهتي الجنوب والشمال فقليل بالنسبة إلى المشرق والمغرب. وصلوات الله وسلامه على رسوله الصادق الذي لا ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى.[9]
قوله: ( أن لا يهلكها ): أي أن لا يهلك الله الأمة. ( بسنة ): السنة: القحط والجدب وهو من الأسماء الغالبة. ( عامة ): يعم الكل. أي بقحط شائع لجميع بلاد المسلمين. قال البغوي: وإنما جرت الدعوة بألا تعمهم السنة كافة، فيهلكوا عن آخرهم. فأما أن يُجدب قوم، ويخصب آخرون، فإنه خارج عما جرت به الدعوة.[10]
قوله: ( وأن لا يسلط عليهم عدوا ): وهم الكفار ( من سوى أنفسهم ): صفة ( عدوا )، أي كائنا من سوى أنفسهم. وذلك لأن العدو من أنفسهم أهون، ولا يحصل به الهلاك الكلي ولا إعلاء كلمته السفلى. ( فيستبيح بيضتهم ): أي العدو، وهو مما يستوي فيه الجمع والمفرد. والمعنى: أي يستأصل جماعتهم وأصلهم. والبيضة أيضا العز والملك. قال الجزري في النهاية: أي مجتمعهم, وموضع سلطانهم, ومستقر دعوتهم. وبيضة الدار: وسطها ومعظمها. أراد إذا أُهلك أصل البيضة كان هلاك كل ما فيها من طعم أو فرخ. وإذا لم يهلك أصل البيضة ربما سلم بعض فراخها. وقيل أراد بالبيضة الخوذة, فكأنه شبه مكان اجتماعهم والتئامهم ببيضة الحديد.[11] قال القاري: والنفي منصب على السبب والمسبب معا، فيُفهم منه أنه قد يسلط عليهم عدو، لكن لا يستأصل شأفتهم.[12]
قوله: ( إذا قضيت قضاء ): أي حكمت حكما مبرما. ( فإنه ): أي القضاء. ( لا يرد ): أي بشيء، بخلاف الحكم المعلق بشرط وجود شيء أو عدمه. قال المظهر[13] : اعلم أن لله تعالى في خلقه قضاءين مبرما ومعلقا بفعل, كما لو قال: إن فعل الشيء الفلاني كان كذا وكذا, وإن لم يفعله فلا يكون كذا وكذا، من قبيل ما يتطرق إليه المحو والإثبات، كما قال تعالى في محكم كتابه: [ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ] [ الرعد: 39 ] . وأما القضاء المبرم، فهو عبارة عما قدره سبحانه في الأزل من غير أن يعلقه بفعل, فهو في الوقوع نافذ غاية النفاذ, بحيث لا يتغير بحال ولا يتوقف على المقضى عليه ولا المقضي له, لأنه من علمه بما كان وما يكون. وخلاف معلومه مستحيل قطعا, وهذا من قبيل ما لا يتطرق إليه المحو والإثبات. قال تعالى: ] َلا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [ [ الرعد: 41 ] ... فقوله سبحانه وتعالى في الحديث: ( إذا قضيت قضاء فلا يرد ) من القبيل الثاني, ولذلك لم يُجب إليه. وفيه أن الأنبياء مستجابو الدعوة إلا في مثل هذا.
قوله سبحانه وتعالى: ( وإني أعطيتك ): أي عهدي وميثاقي. ( لأمتك ): أي لأجل أمة إجابتك. ( ألا أهلكهم بسنة عامة ): أي لا أهلكهم بقحط يعمهم, بل إن وقع قحط فيكون في ناحية يسيرة بالنسبة إلى باقي بلاد الإسلام. فلله الحمد والشكر على جميع نعمه.[14]
قوله: ( ولو اجتمع عليهم ): أي الأعداء الذين هم ( من بأقطارها ): أي بأطرافها، جمع قطر، وهو الجانب والناحية. والمعنى فلا يستبيح عدو من الكفار بيضتهم ولو اجتمع على محاربتهم من أطراف بيضتهم. وجواب لو ما يدل عليه قوله: وأن لا أسلط. ( أو قال من بين أقطارها ): الشك من الراوي. ( حتى ) بمعنى كي، أي لكي يكون بعض أمتك يهلك بعضا, فقوله: ( إني إذا قضيت قضاء فلا يرد ) توطئة لهذا المعنى. ( ويسبي ): أي ويأسر.
والحديث مقتبس من قوله تعالى: ] أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [ [ الأنعام: 65 ] . وقد أفاد الحافظ بن كثير في تفسيره لهذه الآية ( 1/687-689 )، وذكر جميع طرق الحديث الذي يعد طرفا من الحديث المذكور.
قال القرضاوي: وهذا الحديث يبشر باتساع دولة الإسلام حتى تشمل المشارق والمغارب، أي الأرض كلها ... وفي هذا من الخير ما فيه.[15]
إن هذا الحديث يطرح علينا تساؤلات عديدة من وحي الأحداث الراهنة التي تمر بها أمتنا الإسلامية، نعرضها فيما يلي:
* هل ستصمد أمة الإسلام أمام تلك الهجمة الشرسة التي يقودها التحالف الأمريكي الصهيوني عليها حاليا؟
والإجابة بكل تأكيد هي نعم. فلن يتمكن هذا التحالف – وإن بدا للناظر غير ذلك – من تفكيك الأمة الإسلامية أو تضييع الإسلام. قد يستطيع هذا التحالف تحقيق انتصارات مؤقتة وفي أماكن متفرقة من الأمة الإسلامية، لكنه لن يستطيع ضرب الأمة كلها في مقتل. بل سوف تقوم الأمة الإسلامية – حين يأذن الله – بضرب هذا التحالف ودحره والانتصار عليه.
* كيف تهزم الأمة الإسلامية – إذن - هذا التحالف الأمريكي الصهيوني؟
بالاعتصام بشرع ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم. فلن ينجي هذه الأمة من المحنة التي تمر بها حاليا سوى الرجوع إلى الله تعالى، وأن تجعل الله تعالى في صفها على عدوها. أما أن تعادي الأمة ربها، ثم تطلب منه النصر على عدوها، فهذا من المحال الذي لا يمكن أن يتحقق.
* ما هو الدور الذي يمكن أن نقوم به الآن؟
التبصرة بالتاريخ الأسود للأمريكان واليهود، ومحاولة تزييفهم لتاريخ الأمة الإسلامية ووعيها. وتبصرة جميع الناس بذلك، حتى تنجلي الغشاوة عن أعين أفراد الأمة، ويعرفون الحقيقة ناصعة، ويقفون على حقيقة الدور الأمريكي والصهيوني الذي امتد للعبث بتاريخ أمتهم ومقدراتها، ويريد لهذه الأمة ألا تقوم لها قائمة أبدا.
ويأتي بعد هذه التبصرة مرحلة العمل. إن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ دينه، فدين الله سيعود ليهيمن بسلطانه من جديد على الكرة الأرضية، وينشر عدالته وتعاليمه فيما بين أبناء العالم. ولن يكون الإسلام هو السعيد إذا اخترت أنت العمل له، بل السعيد هو أنت لأنك في هذه الحالة سيكتب لك أن تكون من أصحاب الجنة. قال تعالى: ] فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [ [ آل عمران: 185 ] .
فينبغي علينا في ضوء هذه البشارة العظيمة التي جاءت في هذا الحديث أن نجتهد وأن نشمر سواعدنا لخدمة الدين، وألا ننخذل أو نضعف بسبب أن أعدائنا قد سبقونا وتخطونا. فالعمل العمل يا أبناء الإسلام! و] َلا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ [ [ آل عمران: 196 ] . إنك حينما تعرف أن مصير عدوك هو إلى النار والهوان، لأشفقت عليه مما يفعله بنفسه الآن. كما أن من الواجب علينا أن ندرس طبيعة عدونا: أفكاره ودعايته واستراتيجيته التي يحاربنا بها. ولعل هذا سيكون هو موضوع المقال القادم، عن: تبصرة بني الإنسان بفضائح الأمريكان.
30 من صفر عام 1426 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 9 من أبريل عام 2005 ).
-----------------------
[1] صحيح. رواه مسلم (2889/19)، والترمذي (2176) وقال: حديث حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، وأبو داود (4252) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، وابن ماجه (4023) وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، وأحمد (22294) و(22351) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1773)، وابن حبان (6714) و(7238) وقال الأرناؤوط في تخريجه على صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان: إسناده صحيح على شرط مسلم، والحاكم (8439) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة، والبغوي في شرح السنة (4015) وقال: هذا حديث صحيح. وراجع جامع الأصول، حديث رقم (8879). وللحديث طريق آخر عن شداد بن أوس رضي الله عنه، رواه أحمد (17051)، وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره ( 1/689 ): ليس في شيء من الكتب الستة وإسناده جيد قوي، وأشار إليه الحافظ ابن حجر في الفتح ( 8/143 ) عن رواية الطبري وقال: " بإسناد صحيح "، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (11965): رجال أحمد رجال الصحيح. والحديث – بطريقيه - ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة: (2).
[2] الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني: 1/527-528 ( ترجمة رقم: 969 ).
[3] شرح النووي على صحيح مسلم: 9/241.
[4] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للملا علي القاري: 10/429.
[5] حاشية السندي على سنن ابن ماجه.
[6] شرح السنة للبغوي: 14/216. وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: 6/27، وعون المعبود شرح سنن أبي داود: 7/317.
[7] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: 10/429.
[8] النهاية في غريب الحديث والأثر: 1/172.
[9] شرح النووي على صحيح مسلم: 9/242.
[10] شرح السنة للبغوي: 14/216.
[11] النهاية في غريب الحديث والأثر: 1/172.
[12] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: 10/429.
[13] تحفة الأحوذي: 6/27-28.
[14] شرح النووي على صحيح مسلم: 9/242.
[15] المبشرات بانتصار الإسلام، يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، 1420 هـ. ص: 31-32.