حديثنا اليوم عن الدار التي وعد الله عز وجل عبادة الصالحين أن يسكننهم بها والتي أمرهم أن يسارعوا إليها فقال سبحانه (( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ))
فما الجنة؟ ولماذا؟ وما صفة الداخلين إليها؟ وما صفتها؟ وما أسباب دخولها؟
وسميت الجنة جنة، لأن الداخل إليها تستره بأشجارها وتغطيه.
ولقد سمى رب العزة الجنة بأسماء باعتبار صفاتها:
أ- دار السلام: قال تعالى : ((لهم دار السلام عند ربهم)) [الأنعام:127]. ذلك لأن الداخل إلى الجنة قد سلم من كل آفة ومن كل بلاء ومن كل مكروه، فلا تنكيد ولا تنغيص. لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : ((يؤتي بأشقى أهل الدنيا من أهل الجنة، فيغمس غمسة في الجنة، فيقال له: هل رأيت شرا قط؟ قد مر بك شر قط؟ فيقول: لا والله، ما رأيت شرا قط ولا مر بي شر قط))
ب- جنات عدن: وصدق الله العظيم: (( جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا )) [مريم:61]. والعرب كانوا يقولون : عدن الرجل في المكان: أي أقام فيه فلم يرتحل. وكذلك الداخل إلى الجنة، لا يرتحل عنها أبدا، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: كما في صحيح البخاري ((يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش، فيقال لأهل الجنة والنار: أتدرون ما هذا؟ فيقولون: نعم إنه الموت، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ويقال لأهل النار: خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم))
ج- جنات النعيم: (( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم)) [لقمان:8]. ذلك لما في الجنة من اللذائذ والأطايب التي أعدها رب العزة لأوليائه، ظاهرة وباطنة.
وأما لماذا الجنة؟ فلا بد من الجنة: حتى لا يستوي الصالح بالطالح، ولا المحسن بالمسيء، ولا المؤمن بالكافر، ولا المظلوم بالظالم، وصدق الله العظيم: ((أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون)) [القلم:35-36]. ((لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون )) [الحشر:20]. فإذا كانت الموازين قد اختلت في الأرض فالمظلوم يدعى ظالما والظالم يدعى محسنا . فإن موازين السماء لن تختل أبدا: (( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا )) [الأنبياء:47].
وأما صفة الجنة:
1- فأبوابها : ثمانية، قال النبي عليه الصلاة والسلام: كما في صحيح مسلم ((من توضأ ثم أحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية)). فهي ثمانية أبواب. وكل باب قد خصه رب العزة بطاعة، فلقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: كما في البخاري ومسلم ((فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان)). فقال أبو بكر الصديق: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وهل من أحد يدعى من الأبواب كلها؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((نعم ، وأرجو أن تكون أنت منهم يا أبا بكر )) أي: وأرجو يا أبا بكر أن تكون ممن يدعى من الأبواب الثمانية.
2- وأما أرضها: فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: كما في سنن الترمذي ((إنها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، بلاطها طينتها المسك، وترابها الزعفران، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم))
3- ما يكون لأدنى أهلها منزلة وما يكون لأعلاهم منزلة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: كما في صحيح مسلم ((إن موسى سأل ربه يا رب أخبرني عن أدنى أهل الجنة منزلة فقال الله عز وجل يؤتى برجل ، فيقول له رب العزة: ادخل الجنة ،فيقول: يا رب وأين أكون وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟! فيقول له رب العزة سبحانه: أترضى أن يكون لك مثل مُلك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت يا رب. فيقول له رب العزة: لك ذلك ومثله ومثله ومثله مثله. فيقول في الخامسة: رضيت يا رب، فيقول: لك ذلك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك )) ثم قال سيدنا موسى إذا كان هذا أدناهم منزلة فما أعهم منزلة. فيقول رب العزة سبحانه: ((أولئك الذين أردت - أي اخترت - غرست كرامتهم بيدي، وأعددت لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)) .
4- وأما أنهارها، فهي أربعة أنواع من الأنهار، يقول رب العزة سبحانه: (( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم)) [محمد:15]. وأعظم أنهارها الكوثر، ولقد ورد في سنن الترمذي أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ : (( إنا أعطيناك الكوثر)) [الكوثر:1]. فقيل: يا رسول الله، ما الكوثر؟ قال: ((نهر أعطانيه ربي حافتاه من الذهب، حصباؤه اللؤلؤ والياقوت، آنيته عدد نجوم السماء، ترد عليه أمتي يوم القيامة، لونه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا))
5- وأما حورها ونسائها: فلئن سألت مم خلقن فإن رسول الله قال كما في الطبراني ((خلق الله تعالى الحور العين من الزعفران)) ، يقول ابن القيم: فإذا كانت الصورة الآدمية في حسنها وتناسقها مادة خلقها التراب: فكيف يكون حال الحور العين وقد خلقن من الزعفران هناك؟!
ولئن سألت عن عفتهن: فإن رب العزة سبحانه يقول : (( وعندهم قاصرات الطرف عين)) [الصافات:48]. عفيفات قد قصرن أبصارهن إلا عن أزواجهن، وهن أيضا طاهرات فلا حيض فيهن ولا نفاس لقول الله عز وجل (( وأزواج مطهرة)) [آل عمران:15]. فلا حيض ولا نفاس. وإذا سألت عن جمالهن وحسنهن فإن المصطفى عليه الصلاة والسلام يقول كما يروي ابن أبي الدنيا : ((يسطع نور في الجنة فيرفع أهل الجنة رؤوسهم فيرون حورية قد ابتسمت))
6- وأعظم عطاء الجنة هو النظر إلى وجه الله الكريم: لقول النبي عليه الصلاة والسلام: كما في صحيح مسلم ((إذا دخل أهل الجنة الجنة: ودخل أهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه. فيقول أهل الجنة: ألم يبيّض وجوهنا؟! ألم يجرنا من النار؟! ألم يثقل موازيننا؟! فيكشف الحجاب، فينظرون إلى وجه الله الكريم، فما اعطوا عطاء أحب إليهم من النظر إلى وجه الله الكريم)) وصدق الله العظيم: ((وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)) [القيامة: 22-23]. ((للذين أحسنوا الحسنى – أي الجنة- وزيادة ))[يونس: 26]. أي وأعظم من الجنة هو النظر إلى وجه الله الكريم، كما قال الإمام مالك.
7- و هنالك في الجنة أمنيات تتحقق. جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما يروي الترمذي : ((يا رسول الله، هل في الجنة خيل؟ فإنها تعجبني، فقال عليه الصلاة والسلام: إن أحببت أتيت بفرس من ياقوته حمراء تطير بك في الجنة حيث شئت)). ويقول النبي عليه الصلاة والسلام كما يروي ابن أبي الدنيا : ((إذا استقر أهل الجنة في الجنة، اشتاق الإخوان إلى الإخوان، فيطير سرير هذا إلى سرير هذا، فيذكران ما كان بينهما في الدنيا ويقول له: أتذكر مجلس كذا، جلسنا فدعونا الله أن يغفر لنا فغفر لنا)).
وأما صفة الداخلين إلى الجنة: فلقد أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام عن أعمار أهل الجنة وأوصافهم فقال كما في مسند الإمام أحمد : ((يدخل أهل الجنة على سن ثلاث وثلاثين، على خلق آدم عليه السلام ستون ذراعاً في عرض سبعة أذرع)) ويقول النبي عليه الصلاة والسلام عن أهل الجنة كما في صحيح مسلم : ((بأنهم لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك)) ويقول النبي عليه الصلاة والسلام كما يروي البيهقي : ((وعند باب الجنة شجرة، يخرج من أصلها عينان، إذا شربوا من الأولى جرت عليهم نظرة النعيم، وخرج منهم ما في داخلهم من كل بأس وأذى، وإذا اغتسلوا من الثانية لم تشعث أشعارهم أبدا)). ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((أهل الجنة يدخلون الجنة جماعات جماعات لقول رب العزة سبحانه: ((وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا)) [الزمر:73]
وباب الجنة لن يفتح لأحد إلا أن يكون أول داخل إليها رسول الله عليه الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم : ((آتي الجنة فأستفتح أي فأستأذن فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: أنا محمد فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك)).
وعلينا أن نعلم أن رسول الله قال عن هذه الجنة كما في سنن الترمذي ((ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)). والأمر يحتاج إلى تشمير، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: كما يروي ابن ماجة وابن حبان ((ألا من مشمّر للجنة، فإنها ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وزوجة حسناء، فقال الأصحاب: نحن المشمرون لها يا رسول الله، قال: قولوا: إن شاء الله، فقال القوم: إن شاءالله)).
والأمر يحتاج إلى عمل ((ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون))[الأعراف:43].
ولقد عمل الصحابة رضي الله عنهم أيما عمل من أجل دخول الجنة فباعوا أنفسهم وأمواله لله واشترى الله منهم وتم العقد السلعة هي النفوس والأموال والثمن الجنة (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله ))
وانظر أحوال المشتاقين للجنة بلال رضي الله عنه في سكرات الموت وزوجته فوق رأسه تبكي وتقول واحزناه وهو يقول لها بل قولي واطرباه يا امرأة فغدا ألقى الأحبة محمدا وصحبة.
وأما أبو الدرداء فكان برجله عرج فطلب من أولاده أن يتركوه ليذهب إلى ميدان المعركة فقالوا إنك رجل كبير وفي رجلك عرج ولا تطيق القتال فقال (( والله إني لأرجو الله أن أطأ الجنة بعرجتي هذه)).