بقلم : الدكتور / أحمد عبد الرحمن الشريف
لقد كرم الله الإنسان وفضله على كثير من المخلوقات ، وأمده بنِعَمْ كثيرة لا تحصيها البصائر ولا الأبصار ولا تحيط بها العقول ولا الأفهام ومهما أعمل الإنسان عقله وأجهد فكره كي يحصي نِعَمْ الله عليه فلن يستطيع إلى ذلك سبيلا .
قال تعالى : ( وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( النحل : 18 ) ومن أعظم تلك النِعَمْ التي أنعم الله بها على الإنسان وفضَّله بها على الحيوان نِعمَة العقل تلك النِعمَة الغالية التي لا تعدلها نعمة أخرى .
لأن العقل قوام الإنسان ، وميزان الشخص ، وزينه المرء ، وبالعقل عرف الإنسان ربه ووقف على أسرار الكون ، وبالعقل أصبح الإنسان عالماً يدرك حقائق الأمور ، ويعلم ما لم يكن يعلم ، وبالعقل يميز الإنسان بين الخير والشر ، والصالح والطالح ، والنافع والضار .
ولقد رفع الإسلام من شأن العقل فجعله مناط الثواب والعقاب فعلي وجوده يكلف الإنسان ويحاسب ويثاب أو يعاقب وإذا زال عقله سقط عنه التكليف ودعا الإسلام الإنسان إلى إعمال عقله في التفكير والتدبير ، والنظر والتأمل في آيات الله في الأنفس والآفاق .
قال الله عز وجل : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) ( آل عمران : 190 - 191 ) .
وقال عز وجل : (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ) ( الذاريات : 21 ) .
ولقد وردت كلمة : عقل ونعقل وتعقلون ويعقلون ويعقل في القرآن الكريم حوالي تسع وأربعين مرة .
قال تعالى : ( أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( البقرة : 75 ) .
وقال تعالى ( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ )( الملك : 10 ) .
و قال تعالى : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) ( البقرة : 44 ) .
وقال تعالى : ( وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ( البقرة : 164 ) .
و قال تعالى : ( أوَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ ) ( العنكبوت : 43 ) .
فهذا الورد الكثير المتعدد يبرهن على مدى إهتمام القرآن الكريم بالعقل .
وهذا يتطلب من المسلم أن يحافظ على عقله وأن لا يتناول من الأشياء ما يفسده ويخل بالتفكير .
ولقد أمرنا الإسلام بحفظ العقل وصيانته ووقايته وأمرنا بتكريم تلك النعمة وهي نعمة العقل ، ونهانا أن نتناول أي شيء يضر بالعقل أو يفسد التفكير ، أو يؤدي إلى شلل المخ وحذرنا كل التحذير من تعاطي تلك المواد السامة كالحشيش والهروين والأفيون والكوكايين وسائر المخدرات ، لأنها تدخل على العقل فتفسده وعلى التفكير فتعطله فهي من المسكرات التي حرمتها الشريعة ولم تاذن بتعاطيها.
قالت أم سلمة رضي الله عنها " نهي رسول الله عن كل مسكر ومفتر " رواه أحمد وأبو داود وقال شيخ الإسلام ابن تيمية " أن الحشيشة حرام يجلد صاحبها كما يجلد شارب الخمر وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج ، وأنها تصد عن ذكر الله و عن الصلاة وهى داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظاً و معنى " السياسة الشرعية ص 116 .
والمادة المخدرة هي كل مادة خام أو مستحضرة تحتوي على عناصر منبهة أو مسكنة من شأنها إذا استخدمت في غير الأغراض الطبية والصناعية أن تؤدي إلى حالة من التعود أو الإدمان عليها مما يضر بالفرد والمجتمع جسيماً ، واجتماعيا ،ً ونفسياً .
وهذا كما تري شامل لجميع أنواع المخدرات الموجودة والتي قد توجد بطريقة الاكتشاف أوالتصنيع وهي قسمان :
( 1 ) مخدرات طبيعية وهي عبارة عن نباتات وأعشاب مثل القات ، والأفيون والحشيش .
( 2 ) مخدرات مصنوعة وهي عبارة عن مستخلصات بطريقة كيماوية ومنها الكحول والكوكايين والمورفين . الخمر وسائر المسكرات والمخدرات للدكتور حجر بن أحمد ص 147 ، 148 .
وإذا كانت المخدرات لها أضرارها على العقل فإن لها أضراها على صحة الإنسان والصحة نعمة من نِعَمْ الله علينا ، وقد بَيَّنَ صلوات الله وسلامه عليه أن الإنسان إذا عافاه الله في بدنه كان ذلك من الأسباب التي تجعله يشعر أن الدنيا قد حيزت له .
قال صلى الله عليه وسلم "من أصبح معافى فى بدنه ، آمنا فى سربه عنده قوت يومه فكأنما قد حيزت له الدنيا بحذافيرها " رواه الترمذى وابن ماجه.
وهناك قاعدة عامة فى شريعة الإسلام وهى " أنه لا يحل للمسلم أن يتناول من الأطمعة و الأشربة شيئاً يقتله بسرعة أو ببطء كالسم بأنواعه ، أو يضره ويؤذيه ، لأن المسلم ليس ملك نفسه ، وإنما هو ملك دينه وأمته ، وحياته وصحته وعقله ،وماله وغير ذلك من نِعَمْ الله وديعة لايحل له التفريط فيها .
قال تعالى : ( وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ") ( النساء : 29 ) .
وقال تعالى : (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ( البقرة : 195 ) .
وقال صلوات الله عليه وسلامه " لاضرر وضرار " رواه أحمد و ابن ما جه.
ونهي صلوات الله عليه وسلامه عن إضاعة المال .
- ولقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أضرار المخدرات الصحية .
فالمسرفون في تعاطي المخدرات ولمدة طويلة تتدهور صحتهم ويصابون بالهزل والضعف العام وصفرة الوجه ، وتقل لديهم القدرة على مقاومة الأمراض كما تتلف أسنانهم ويتعرضون للأصابة بالأمراض الصدرية وأهمها السل والربو ، ويصابون بقرحة الحلق المزمنة .
- وهناك علاقة بين المخدرات والجرائم فإدمان المخدرات يؤدى إلى وقوع الجرائم فمتعاطي المخدرات إذا نفذ ما معه من مال فإن إدمانه على تعاطي المخدرات يحمله على السرقة ويحوله الإدمان إلى إنسان سريع التهيج شكاك ، خائف جبان وهذا الخوف والجبن يدفعه إلى الهجوم والعدوان ومن ثم تقع الجرائم وتكثر الاعتداءات .
وكثيراً ما نسمع بكارثة من جراء مدمني المخدرات : من سيارة اصطدمت بسيارة أخرى فتهشمت السيارة وقُضِيَ على الراكبين ، أو سيارة هوت إلى قاع بحر فغرقت الأسرة كلها ، أو سيارة اصدمت بجدار أو عمود ، أو شخص قتل شخصاً أو قتل أسرة وهو لا يدري ماذا فعل لأن المخدر الذي تناوله أفسد عقله وشل تفكيره .
- إدمان المخدرات له أضرار اقتصادية ذلك لأن إدمان المخدرات يضعف طاقة المدمن ويقلل من كفاءته الإنتاجية وقد يعطله كلية عن الإنتاج وهذا يؤثر بلا شك على إنتاج الدولة ومن ثم يضعفها اقتصادياً .
كما أن الأدمان يحمل الدولة على إنفاق المبالغ الكثيرة لمكافحة المخدرات فتضع هذه الأموال دون فائدة رغم حاجتها إلى هذه الأموال في الإنفاق على المشروعات العمرانية والصناعية .
والأموال التي ينفقها مدمن المخدرات تبذير وقد نهي القرآن عن التبذير ، ووصف المبذرين بأنهم إخوان الشياطين قال تعالى : ( وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) ( الإسراء : 26-27 ) .
ويرجع انتشار المخدرات إلى العوامل الآتية :
أولاً : الاستعمار .
( فعندما إحتلت بريطانيا الهند ابتدأت شركة الهند التجارية الشرقية وهي أول شركة استعمرت الهند بزرع الشاي والأفيون في مزارعها وتصديرهما إلى العالم ، ولما كان من سياسة بريطانيا إضعاف الشعوب العربية والإسلامية وافقارهما حتى لا تناهض الاستعمار والإحتلال أخذت تزرع الحشيش والآفيون في فلسطين وأخذت تصدر هذين الداءين الفتاكين إلى العالم العربي وخاصة مصر ، ولم تستطيع أي حكومة عربية محلية أن تمنع دخول المخدرات إلى بلادها بطريقة حاسمة بسبب تدخل المندوب السامي البريطاني ، وبعد خروج بريطانيا من فلسطين حلت إسرائيل محلها في زراعة هذين الوبائين ، وتصديرهما إلى البلدان العربية لاسيما لتحطيم الأمة العربية صحياً ومعنوياً ، وهدم اقتصادها ، ورفع الاقتصاد الإسرائيلي حتى قيل إن دخل إسرائيل من تهريب المخدرات إلى البلاد العربية 46 مليوناً من الجنيهات ) من كتاب المسكرات بين الشرائع السماوية والقوانين الوضعية نقلاً عن كتاب الخمر والقوانين الوضعية نقلاً عن كتاب الخمر وسائر المسكرات والمخدرات للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي والدكتور حجر بن أحمد ص 152 .
ثانيا : انصراف الآباء عن متابعة أبنائهم ، وتفقد أحوالهم ، والجلوس معهم ، ومشاركتهم مشاكلهم .
فمهما كانت مشاغل الأب كثيرة فلا بد أن يُفرغ نفسه تفرغاً جزئياُ لأبنائه ، وأن يجعل من نفسه رقيباً عليهم ، ولا أعني بالرقابة هنا بالرقابة التي تنفرهم منه ، وتجعل الفجوة بينه وبينهم واسعة ، وإنما أعني الرقابة التي يكون الهدف منها : التقرب إليهم ، والتعرف على سلوكهم ، ومعرفة كيف يقضون أوقات فراغهم ومن يصادقون ، والأماكن التي يترددون عليها .
هذا هو واجب الآباء نحو أبنائهم ، أما ما يفعله بعض الآباء في هذه الأيام من انشغالهم انشغالاً كلياً عن أبنائهم ، ، وأنصرافهم عن متابعتهم ، وتفقد أحوالهم - فهذا ولاريب - سيجر عليهم خسراناً لا يعدله خسران ، حيث ينحرف أبناؤهم وينغمسون في هذه العادة السيئة وهي إدمان المخدرات ، كما أنهم سيعرضون أنفسهم لعقاب الله لأن الأب راعٍ ومسؤول عن رعيته .
ثالثا : سوء التربية وضعف الوازع الدينى ، والفراغ الذي يُعَانِي منه كثير من شبابنا وهذا كله يدفعهم إلى إدمان المخدرات
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
فعلى المسلم أن يشغل نفسه بالنافع المفيد وأن يستثمر وقته وينمي فكره ، ويصون عقله ، ويحمي عقيدته ، ويأتي ذلك بأن يتزود بالثقافة الإسلامية من منابعها الأصلية حتى يسلح نفسه ضد التيارات الإلحادية التي يُصَدِرهَا الغرب إلينا بهدف تشويه صورة الإسلام ، وزعزعة مكانته في نفوس أنبائه .
رابعاً : سوء اختيار الأصدقاء ذلك لأن الإنسان إذا اختار صديقه أو أصدقاءه من مدمني المخدرات فلاشك أنه سيكون لتلك الصحبة أثر سيئ في سلوكه حيث يغرونه بإدمان المخدرات ويهونون عليه الأمر حتى يستجيب لهم ويصبح أسيراً لهذا الإدمان ولهذا حثنا الإسلام على اختيار الصحبة الصالحة .
فقال صلى الله عليه وسلم : " لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي " رواه أبو داود و الترمذي
وقال صلى الله عليه وسلم " مَثَل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً منتنة " متفق عليه .
والإسلام يحثنا على أن نكون أقوياء أصحاء ، لأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، ولا تأتي هذه القوة - التي أرادها الإسلام - مع أدمان المخدرات لأن مدمني المخدرات يجنون من وراء التدخين ضعفاً وهزالاً ومرضاً وهذا ما لا يرضاه الإسلام لأبنائه .