بسم الله الرحمن الرحيم
الشخصية المزدوجة
لقد كانت الأفكار التي ذكرنا في حلقاتنا السابقة
هي الأساس الذي قام عليه بناء شخصية الأفراد والمجتمعات والشعوب المسلمة الحاضرة،
وهي القاعدة التي قامت عليها تربيتهم تربية فكرية ومشاعرية ونفسية، وتشكيلهم بشكل معين،
وصَبغهم بصِبغة معينة، وهي التي نراها متمثلة حاضرة في مسلمي اليوم وشعوبهم .
تسليط الضوء على نوعية هذه الشخصيات المتعددة التي أفرزها هذا الفكر المتلون المتعدد،
يكشف لنا عن حال هذه الأمة منذ غياب شمس الإسلام، وعن حال الهوية الجديدة التي تحملها،
راضية أو مكرهة، فبالرغم من إسلام الأمة اليوم، فهويتها تخالف إرادة الإسلام،
وبالرغم من إسلامها فهي لم تعهد هذه الهوية التي تحملها في أسلافها، ولم تعرفها،
وبالرغم من إسلامها فهي تجد نفسها ذات فكر غريب، بل وتجد كذلك أسلافها
(الصحابة والتابعين ومن تبعهم من الرجال الصادقين من الخلفاء والقادة والعلماء وغيرهم
من عامة الناس من الأجداد) أصحاب فكر غريب لا تستطيع أن تفهمه أو تتعامل معه أو تقتدي به،
بل أصبحت أخبار أسلافها من الأخبار الإعجازية أو الأسطورية
التي لم يعد بالإمكان صناعة أخبار أو شخصيات مثلها.
من هذه الشخصيات التي سنورد كل واحدة على حدة في سلسلتنا هذه :
الشخصية المزدوجة :
هي الشخصية التي يعاني منها السواد الأعظم في الأمة الإسلامية،
والازدواجية تكون عندما يعيش الإنسان بفكر مخالف لإرادته وهواه ومطلبه من الحياة،
أي أن المسلم أو الأمة الإسلامية لها مطلب في هذه الحياة وهو العيش بالإسلام،
ولكنها في حقيقتها تعيش مجبرة بكيفية تخالف مطلبها هذا،
فإذا قام الفرد المسلم بإرادة منه ببناء علاقاته مع غيره على أساس الإسلام،
يصطدم بمجتمع ينكر هذه العلاقة، ينكر هذه العلاقة ليس كرهاً لها،
ولكن لأنها لا تحمل في طياتها ضمانات شخصية، و لا ضمانات نظامية أو قضائية،
فيجد نفسه عاجزاً عن بناء علاقاته على أساس الإسلام،
ويضطر للتعامل هو وغيره على أساس غير إسلامي، ولكن يبقى الإسلام والتعامل به عندهم حُلماً،
فيعيش هو والمجتمع والأمة بما يخالف إرادته وإرادة غيره من المسلمين،
و إرادة المجتمعات المسلمة والأمة الإسلامية .
]
ولو تعرضنا للأمر بشيء من التفصيل،
لوجدنا أن جميع الأحكام التي تُطبق على المسلمين من دولهم هي أحكام غير إسلامية على الإطلاق،
حتى ولو اتخذ بعضها الأسلوب الإسلامي في المعالجات، وذلك كأحكام الزواج والطلاق،
والاعتراف بالأحكام المتعلقة بالشعائر التعبدية (الغير سياسية)،
أما باقي الأحكام فهي ليست من الإسلام على الإطلاق،
ولنا في أنظمة الحكم الملكية والجمهورية أو غيرها خير مثال،
فهي تخالف الإسلام أصلاً وفرعاً وتصنع بيئة استعبادية في حق الناس،
بسبب إخضاعهم مكرهين للنظام الحاكم، وبطبيعة هذه الأنظمة الإجبارية
التي نقلت المسلمين من عبادة الله إلى عبادتهم، وهي تؤثر على علاقات الناس فيما بينهم،
وعلى قِيَمِهم، وتؤثر على طريقة عيشهم من خلال تكميم أفواههم عن المطالبة بالإسلام أو
لأحكام الإسلام أو الدعوة إلى الإسلام، مع القبول بكل ما يُملى عليهم من أحكام،
ومن خلال تكميم أفواههم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو إنكار المنكر.
[
أما الأنظمة الاقتصادية والتي أصلها وفرعها من غير الإسلام،
وتعتمد بشكل رئيسي على النظام البنكي كما هو في النظام الرأسمالي،
الذي أصل استثمار الأموال وتنميتها فيه بكيفية تخالف الإسلام، وتستند إلى النظام الربوي،
والتي تخالف الإسلام في أصول الملكيات العامة والخاصة وملكية الدولة،
والتي تلغي حقوق الناس في بيت المال، والتي تخالف أحكام الإسلام في التعاملات مع العاجزين
والغارمين والمعسرين، والتي تخالف أنظمة الإسلام في توزيع الثروات على الناس،
والتي تخالف الإسلام في إنشاء المؤسسات المالية
كشركات الأسهم التي تستنزف أموال الناس بالباطل،
ودخول الشركات متعددة الجنسيات إلى البلاد،
وتنمية صناعات الأعداء بفتح الحدود لمنتجاتهم
مع وقف الصناعة والزراعة ووقف تنمية الإنتاج الداخلي .
كل هذه القوانين الاقتصادية، وغيرها كثير مما يخالف الإسلام ونظام الإسلام،
من شأنها كلها حتماً صناعة جوّ نفعي مصلحي خسيس في العلاقات بين الناس،
بعد أن أغرقتهم عن بكرة أبيهم في وحول من الفقر والديون والجوع والسجون الحقوقية،
ومشاكل اجتماعية وتربوية وتعليمية وصحية ونفسية أصلها الفقر، وقلة المال والبطالة.
وبالتالي يجد المسلمون أنفسهم غير قادرين على التعامل بالإسلام وأحكام الإسلام الاقتصادية،
حتى ولو كانت قلوبهم مليئة بالحب له، والرغبة بالعيش به.
شأن النظام الاقتصادي هذا شأن باقي الأنظمة الاجتماعية والقضائية والأمنية والعسكرية
والتعليمية والسياسة الداخلية والسياسة الخارجية،
لا فرق بينهم في التأثير على المجتمعات المسلمة، وعلى طريقة عيشها،
والتأثير في تدمير القواعد التي تُبني عليها العلاقات الإسلامية والحقوقية بينهم .
والنتيجة هي ضياع الحقوق المتعارف عليها في الإسلام بين الناس، كحق الزوجة وحق الزوج
وحق الوالدين وحق الجار، وحق الأبناء والبنات، وحق البيئة، وحق الطريق، وحق الحيوان،
وتدني مستوى التعاملات الخُلُقية والإنسانية، وكذلك ضياع حقوق الناس
أنفسهم في طلب العلم الشرعي والدعوة والجهاد، وحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وحق إنكار المنكر، وكذلك ضياع حقوق الناس المادية من مسكن ومأكل ومشرب ومركب وملبس
،، وحقوقهم الخدمية من أمن وطب، وتعليم وأعمال .
[IMGوهكذا تكتمل صورة الشخصية المزدوجة المسلمة التي تمتلك روحاً للحياة،
والتي لابد لها أن تعيش كأي مخلوق، ولابد بالتالي أن تتعامل مع وبالأحكام التي تجدها أمامها،
حتى ولو خالفت إرادتها (العيش بالإسلام(، فالقضية قضية حياة وموت وحاضر ومستقبل،
ومسؤولية أبناء وبنات وأحفاد.
[صورة الشخصية المزدوجة تشتهر بالاضطراب وعدم الثبات، والاستسلام للأمر الواقع،
حتى ولو أخرجها الواقع من دينها، وتشتهر بعدم الثقة بنفسها،
وعدم الثقة بغيرها من المقربين أو البعيدين، وعدم الثقة في أي فكر يُنقل إليها أو رأي يُقال لها،
ويطغى عليها الخوف في كل جانب من جوانب الحياة، وخاصة الخوف على المصالح،
والخوف من الناس، ومن الجيران والأصدقاء والمقربين والزوجة والأخوان،
والخوف من الاستغلال ومن النصب والاحتيال ونهب الأموال، والخوف وهْماً من الجوع والتشرد،
ومما هو معلوم أو غير معلوم، والخوف من الدعوة للإسلام،
والخوف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو إنكار المنكر،
والخوف بالتالي من الحاكم وزبانيته أكثر خوفاً من الله سبحانه وتعالى .
الشخصية المزدوجة تعاني إضافة إلى ما تعاني منه من البخل، ومن الريبة من القيم،
ومن تحقيق القيم في الأفعال ما عدا القيمة المادية، وترى في القيم سذاجة
وتبديداً للمال وللوقت والجهود، وترى في الإقدام على الأمور المهمة هلاكاً لها،
ولا تؤمن إلا بمصالحها المؤكدة، والعلاقات التي تحقق المصالح وتنمي الأموال.
قال الله سبحانه وتعالى في سورة النور 47
{ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ
وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ }
ويقول سبحانه في سورة النساء 143
{ مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }
من بريدي