وأمَّا جهاده ضدَّ الروافض والمعتدين، فمِن ذلك في سنة 704 هـ، حيث إنَّه "لم يزل الشيخ - رحمه الله - قائمًا أتمَّ قيام على قِتال أهل جبل كِسْروان، وكتب إلى أطراف الشام في الحثِّ على قتالهم، وأنها غزاة في سبيل الله، ثم توجَّه هو بمَن معه لغزوهم بالجبل، وبصُحبته ولي الأمر نائب المملكة، وما زال مع وليِّ الأمر في حِصارهم، حتى فتح الله الجبل، وأجلى أهله"86، ونصَره الله عليهم، وأخْمد فِتنتهم، وألْزمهم اتِّباعَ الشريعة المطهَّرة قولاً وعملاً واعتقادًا.مكانته ومرتبته الاجتهادية:لقد تبوَّأ الإمامُ ابن تيمية مكانةً عِلميةً عاليةً مرموقة، وظلَّ طوالَ حياته يترقَّى، حتى صار أعلمَ أهل زمانه بالمعقول والمنقول، وكانت لـه اليدُ الطُّولَى في التصنيف، كما كان مبرزًا في علوم اللغة، وكان عَلَمًا في الجهاد والإصلاح والصلاح، شهِد بذلك كلُّ مَنْ رآه أو تعامل معه، و"لقد أجمع الذين عاصروه على قوَّة فِكْره، وسَعة علمه، وأنه بعيدُ المدى، عميقُ الفِكرة، يستوي في ذلك الأولياء والأعداء؛ فإنَّ تلك القوة الفكرية هي التي أثارتِ الأولياء لنُصرته، وأثارتِ الأعداء لعداوته"87و"أما معرفته بصحيح المنقول وسقيمه، فإنه في ذلك مِن الجبال التي لا تُرْتَقى ولا يُنال سنامها، فقلَّ أن ذُكِر لـه قول إلا وقد علِمه بمبتكره وذاكره، وناقله وأثره... حتى كان إذا ذَكَر آية أو حديثًا وبيَّن معانيَه وما أُريد به، أُعجِب العالِم الفطن من حُسن استنباطه، ويدهشه ما سمعه أو وقَف عليه منه"88
ووُصِف بأنه كان غزيرَ العلم "أما غزارة علومه، فمنها: ذكْر معرفته بعلوم القرآن المجيد، واستنباطه لدقائقه، ونقْله لأقوال العلماء في تفسيره، واستشهاده بدلائله، وما أوْدَعه الله - تعالى - فيه من عجائب وفنون حِكَمِه، وغرائب نوادره، وباهر فصاحته، وظاهر ملاحته، فإنَّه فيه الغايةُ التي يُنتهى إليها، والنهاية التي يُعوَّل عليها"89وقد قال أحدُ أصحابه وتلاميذه ممن يكبره سِنًّا90 "ولا يعرف حقَّه وقدْرَه إلا مَن عرَف دين الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحقه وقدْره"91 فمكانته العِلمية كانت في الذروة من العلماء، وكان مرجعَ الناس في العلوم العقلية والنقلية.وأمَّا مرتبته الاجتهادية، فإنَّه قد بلَغ مرتبةً اجتهادية عالية، وهذه المنزلة هي أنَّه مِن كِبار المجتهدين المنتسبين إلى مذهب الحنابلة في الفِقه، و"إنه - بلا شكٍّ - مِن حيثُ أدواتُ الاجتهاد، والمدارك الفقهيَّة، ومن حيث عِلْمه بالسُّنة واللُّغة، ومناهج التفسير وفَهْمه للقرآن وأصول السُّنة، وإحاطته بالحديث دِرايةً وروايةً، يُوضَع في الدرجة الأولى مِن الاجتهاد، فإنْ نظرنا إلى ذلك وحْده، فسنضعه في مرتبة المجتهدين المستقلِّين، ولكن نجده قد سلَك في استنباطه مسلَكَ الإمام أحمد في الجُملة، متقيدًا بأصوله، وفوقَ ذلك أنَّ الذي انفرد به لا يُعدُّ كثيرًا؛ بل نادرًا لا يكاد ينفرد - كما نوهنا - فإنْ تقيدْنا بهذه الناحية، فإنَّا بمقتضى القواعد المقرَّرة نضعه ضمنَ المجتهدين في المذهب الحنبلي، إنَّه - بلا شك - قد استوفى في شخْصه كلَّ شروط المجتهد المطلَق من الأدوات، والعِلْم والمدارك، ولكن مِن ناحية الموضوعاتِ التي وصَل فيها إلى نتائجَ مخالفة، ومِن حيث منهاجُه، نجدها لا تخرُج به عن الإطار المذهبي"92
ونحْن مع الشيْخ أبي زهرة فيما قرَّره من المرتبة العِلميَّة لشيخ الإسلام وتربُّعِهِ - رحمه الله - على عرْش الاجتهاد المطلَق، إلا أنَّنا لا نُسلِّم بالقول بأنَّ اجتهاداته لا تخرج به عن الإطار المذهبي؛ لأنَّ هذا يخالف الواقع، وما قرَّره شيْخ الإسلام نفسُه وكِبار تلامذته؛ مثل: الإمام ابن قيِّم الجوزية وغيره، فقد كان - رحمه الله - مجتهدًا مطلقًا، غير متقيِّدٍ بمذهب معيَّن، ولا دائر في فلَك المذهبيَّة، وكان لا يَقبل من أقوال المذاهب إلا ما وافَقَ الدليل، ومما يدلُّ على صِحَّة ما نقول، ما خالَف فيه شيخُ الإسلام المذاهبَ الأربعةَ من المسائل، ومِن أشهر هذه المسائل بَحْثُه في جواز طواف الحائض إذا لم يُمكن لها أن تطوفَ طاهرةً، وخَشِيت فواتَ رفقتها، واعتبار طلاق الثلاث بلفظ واحِد طلقةً واحدةً ولو فُرِّقت، وأنَّ الحَلِف بالطلاق يَمينُه مكفّرة.
وهذه المرتبة العِلمية والاجتهادية إنَّما وصل إليها؛ "نظرًا لاستبحاره في السُّنة، وتفسير القرآن، وعلوم السلف"93 ونتيجةً لعلوِّ كعْبه في العلوم الشرعية، فإنه أصبح في آخِر عمره لا يتقيَّد بمذهب معيَّن؛ بل بما أدَّاه إليه اجتهاده، وقد وصفَه تلميذه الإمام الذهبي بقوله: "وبقِي عدَّة سنين لا يُفتي بمذهب معيَّن؛ بل بما قام الدليلُ عليه عنده"94، ويرجع هذا لرِفْعة شأنه، وعلوِّ كعْبه، وتبحُّره في العلوم الشرعية والعقلية، حيث تأتي إليه الفتاوى فيُفتي بما أدَّاه إليه اجتهادُه وإدراكه، مع إحاطته بعلوم السَّلف، ولربَّما خرَج من نتائج فتاواه لموافقةِ إمام من الأئمَّة المتبوعين، أو وافَق عالِمًا من سلف هذه الأمَّة من غير تقليد، وإنَّ القارئ لفِقه ابن تيمية في كلِّ أبوابه يلمَح فيه عقليةَ الفقيه المجتهد، الذي تحرَّر من القيود المذهبية في دِراسته، ولا يلمح فيه المقلِّدَ التابع من غيْر بيِّنة وبُرْهان، هذا بالنسبة للفِقه، أمَّا في الاعتقاد، فهو على مذهَب السَّلف الصالِح؛ مذهب أهل السنة والجماعة.أقوال العلماء فيه:لَقَدْ أثْنى كِبارُ علماء عصْر الإمام ابن تيمية عليه، وأكثروا من ذلك؛ لِمَا لمسوه من جَمْعه بيْن القول والعمل، وبيْن الإمامة في الدِّين والزهد في الدنيا بزَخارِفها، وبما رأَوْا منه من موافقة للسلف الصالح، وإحيائه لهَدْيهم، وحمْله رايةَ الجهاد في سبيل الله.
ولو أردْنا استقصاءَ كلِّ مَن أثْنى عليه مِن علماء عصْره، ومَن أتى بعده، لَمَا استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ نظرًا لكثرة مَن أثنى عليه من علماء عصره، أو مَن أتى بعدهم، أمَّا ما يتعلَّق بعلماء عصره، فإنَّنا "نستطيع أن نقول: إنَّ كل علماء عصْره عَلِموا قدْرَ علمه، حتى مَن ناوأه وحاول إيذاءه؛ لأنَّه قد ضاق صدرُه حرجًا بمخالفته، وما يأتي به من جديد، وإنْ لم يستمدَّ من القديم قوته، فلم يوافق عليه"95 ولنقتبس بعضًا مِن تلك المشكاة، والتي تكوَّنت من العلماء الذين أثْنَوْا عليه، فمن هؤلاء:• الإمام ابن دقيق العِيد: "لَمَّا اجتمعتُ بابن تيمية رأيتُ رجلاً كلُّ العلوم بيْن عينيه، يأخذ ما يريد ويدَع ما يريد، وقلت له: ما كنتُ أظنُّ أنَّ الله بقِي يخلُق مثلَك!"96• ومنهم الإمام الذهبي: "كان آيةً من الذكاء وسُرْعة الإدراك، رأسًا في معرفة الكتاب والسُّنة والاختلاف، بحرًا في النقليَّات، هو في زمانه فريدُ عصْره علمًا وزهدًا، وشجاعةً وسخاءً، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، وكثرةَ تصانيف"97 وقال أيضًا: "وهو أكبرُ مِن أن يُنبِّهَ على سِيرته مثلي، فلو حُلِّفتُ بين الركن والمقام، لحلفتُ أني ما رأيت بعَيني مثلَه، وأنه ما رَأَى مثلَ نفسه في العِلم"98• وقال الإمام عَلم الدِّين البِرْزَالي: "كان إمامًا لا يُلحق غبارُه في كل شيء، وبلغ رُتبةَ الاجتهاد، واجتمعت فيه شروطُ المجتهدين"99• وقال الإمام ابن الزَّمْلَكاني: "اجتمعتْ فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وإنَّ له اليدَ الطُّولى في حسن التصنيف، وجَوْدة العبارة، والترتيب والتقسيم، والتديُّن، وكتب على تصنيف له هذه الأبيات:
"مَاذَا يَقُولُ الْوَاصِفُونَ لَهُ وَصِفَاتُهُ جَلَّتْ عَنِ الْحَصْرِ
هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ قَاهِرَةٌ هُوَ بَيْنَنَا أُعْجُوبَةُ الدَّهْرِ
هُوَ آيَةٌ فِي الْخَلْقِ ظَاهِرَةٌ أَنْوَارُهَا أَرْبَتْ عَلَى الْفَجْرِ" 100