بسم الله الرحمن الرحيم
..
لعلّ من أهمّ الأسئلة التي ينبغي أن تتبادر إلى عقول المسلمين وقلوبهم في هذه الأيّام التي صار يهدّدنا فيها أعداؤنا في
عقر ديارنا:"ما سبب انحطاط المسلمين؟ وما الذي أطمع فينا اليهود ؟"
إنه غياب الهمّ الرسالي في حياتنا، وضمور البُعد الدّعوي في إحساسنا، وضياع الإخلاص من كثيرٍ من أعمالنا، التي لا
نستحضر حين نؤدّيها إلا الكسب المادّيَّ الهزيل، والرّبح الدنيويّ القليل! كما تراه في غالب الجامعات والمؤسّسات في
العالم الإسلامي التي تخرّج الملايين في كلّ عام؛ ولكنها لا تربّي إلا العشرات من العلماء الدعاة الصالحين المجاهدين!
ولا ريب أنّ من توفيق أئمتنا في الدّين، ورسوخِ فِقْه علمائنا السابقين: أنهم وضعوا حديث (الأعمال بالنيّات) في حَبّات
القلوب[1] وحَدَقات العيون، واعتنوا بفقهه، وتلمّسوا معانيه، حتى جعلوه في مطالع كتبهم كما صنع البخاري وغيره،
واعتبروه أساساً لمناهجهم كما قال قائلهم في هذا الحديث: إنه"ثلث العلم"، ووجّه البيهقي ذلك بأن كسب العبد يقع بقلبه
ولسانه وجوارحه. فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها. ووجّهه ابن حجر بأنّ حديث (الأعمال بالنيّات) أحدُ القواعد الثلاث
التي تُردّ إليها الأحكام عند الإمام أحمد وهي هذا الحديث و (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ) و(الحلال بيّن
والحرام بيّن)[2].
وقال ابن رسلان:
وسائرُ الأعمال لا تُخلِّص إلا مع النيّة حيث تُخْلَصُ![3]
وقد اهتم علماء المسلمين بفقه الإخلاص؛ لأنه رأس الأمر وباب القبول وأساس الدّين، كما قال الله ـ تعالى ـ: (وما أُمروا
إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدّين).[4] وترجم البخاري في كتاب العلم ترجمته البديعة: (باب العلم قبل القول والعمل لقول
الله ـ تعالى ـ: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)؛ فبدأ بالعلم)! قال ابن المنيّر: "أراد أنّ العلم شرطٌ في صحّة القول والعمل؛ فلا
يعتبران إلا به، فهو متقدّمٌ عليهما؛ لأنه مصحّحٌ للنيّة المصحّحة للعمل".[5]
فمن المعالم التي لا بدّ من التفقه فيها من معاني الإخلاص أنه:
[1]ليس الاعتبار لكثرة الأعمال: فقد قال ـ تعالى ـ: (وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ) والتنكير هنا يفيد التكثير (فجعلناه
هباءً منثوراً) وقال صلى الله عليه وسلم: (إنّ المفلس من أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد
شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا. فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته. فإن فنيتْ حسناتُه
قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم ثم طُرحتْ عليه, ثم طُرِح في النار) رواه مسلم. فلا بدّ من التقوى ليكون للأعمال
ثمرة كما قال عز وجل(إنما يتقبّل الله من المتقين).
[2] ليست العبرة كذلك في عظمة هذه الأعمال من حيث هي، أو أنها كبيرةٌ في أعين الناس. فالجهاد في سبيل الله ذروة
سنام الإسلام, وأعظم الأعمال أن يقاتل المرء في سبيل الله بنفسه وماله (يا أيها الذين آمنوا هل أدلُّكم على تجارة تنجيكم
من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) ولكن إذا
قاتل ليقال: شجاع وليرى مكانه من الناس وليثبت أن له حميةً أو ولاءً لقبيلة أو غيرها ـ وليس في سبيل إعلاء كلمة الله ـ
فإنه محرومٌ من الأجر ولو قُتل في الجهاد بل هو من الثلاثة الذين هم أوّل من تُسعَّر بهم النار. وقد روى الشيخان عن أبي
موسى - رضي الله عنه- قال: (سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حميّةً ويقاتل
رياءً أيّ ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل
الله).
[3] نيّة التقرُّب إلى الله هي العمدة في قبول العمل صغيراً أو كبيراً كما قال الله - عز وجل-: (لن ينال الله لحومها ولا
دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم- لسعدإنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا
أجِرتَ عليها حتى ما تجعله في فيّ امرأتك) قال: فقلت أُخَلَّف بعد أصحابي؟ قال: (وإنك لن تُخلَّف فتعمل عملاً تبتغي به
وجه الله إلا ازددت به درجةً ورفعةً.). فلم يمنع الأجر ما يُعلم ـ عادةـ من حبّ الرجل إطعام زوجته ما دامت نية القُربى
حاضرة. وقريب من هذا ما رواه البخاري من حديث يزيد بن الأخنس أنه وضع في المسجد صدقة فأخذها ولده معن
فتخاصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: (لك ما نويتَ يا يزيد ولك ما أخذتَ يا معن). وتأمَّلْ سؤال
الصحابة - رضي الله عنهم- النبي - صلى الله عليه وسلم-: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر)؟! وهذه لفتة
جليلة إلى أنّ النيّة الصالحة ما ينبغي أن تغيب عن المسلم في كلّ أموره (وكلّ شيء فعلوه في الزبر وكلّ صغير وكبير
مستطر)؛ ومن هنا أجاب النبي - صلى الله على عليه وسلم- معاذاً لما سأله (يا رسول الله وإنّا لمؤاخذون بما نتكلم به؟
فقال: ثكلتك أمك وهل يُكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
[4] ومن أحسن الأدلّة على أنّ العمل القليل ينفع ويضرّ بحسب نية صاحبه ما رواه مالك والترمذي عن بلال بن الحارث
المزني - رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (إنّ الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ـ تعالى ـ
ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإنّ الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن
تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه) وأصله في البخاري عن أبي هريرة مختصراً، ونحوه حديث أبي
هريرة في الصحيحين (إنّ العبد يتكلم بالكلمة ما يتبيّن فيها يزل بها إلى النار أبعد ممّا بين المشرق والمغرب) قال
النووي: "ومعنى (يتبيّن) يفكّر أنّها خير أم لا"[6]
[5] قد لا يقدر المؤمن على أداء العمل، ولكنْ تكون نيّتُه منعقدةً على ذلك الفعل؛ فيُكتب له أجره وإن لم يفعله - منّةً من
الله وكرماً - لعلمه سبحانه بصدق نيّة العبد في القيام بالأمر. وقد قال جابر - رضي الله عنه-: كنا مع النبي - صلى الله
عليه وسلم- في غزاة فقال: (إنّ بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم المرض) قال
النووي: وفي رواية (إلا شركوكم في الأجر). وفي البخاري: (حبسهم العذر).
[6] وما أروع حال البكّائين الذين لم يخرجوا من ديارهم ولم يلقوا عدوّهم ولم يركبوا ظهر فرس أو بعير، ومع ذلك نالوا
رضوان الله والأجر الوفير(الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا
يجدوا ما ينفقون).[7] وما شأن عثمان - رضي الله عنه - ببعيد حيث غاب عن بيعة الرضوان ليخاطب أهل مكة لمكانته
وشرفه بينهم؛ فبايع عنه النبي - صلى الله عليه وسلم- وقال: (هذه عن عثمان)!
وأما علامات الإخلاص فكثيرةٌ، منها:
[1] أن لا يتعصب المرء لنفسه، وأن لا ينتصر ـ عند الزلل ـ لرأيه؛ كأنّ الحق حِكرٌ عليه، والصواب خاص به! فذلك من
صفات الله ـ تعالى ـ: (لبَّيْكَ وسَعْدَيك. والخير بين يديك. والشر ليس إليك). وقد حذّر النبي - صلى الله عليه وسلم- من
إعجاب كلّ ذي رأي برأيه. وذكر أنّ النصيحة لا ينتفع بها من كانت هذه صفته. وقال جل جلاله: (وإذا قيل له اتق الله
أخذته العزة بالإثم)، على حين مدح أولياءه بأنهم: (إذا ذُكّروا بآيات ربهم لم يخِرُّوا عليها صُمًّا وعُمياناً). ومن هنا قال
النبي - صلى الله عليه وسلم-: (أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان مُحقاً)[8].
ولا شكّ أن الإخلاص يقتضي البحث عن الحق والتزامه، ولو كان الحق في رأي المخالف كما قال الله ـ تعالى ـ: (ولا
يجرمنّكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).[9] ورحم الله حماد بن زيد حيث قال: "إذا خالفني شعبة
تبعته؛ لأنه كان لا يرضى أن يسمع الحديث عشرين مرة وأنا أرضى أن أسمعه مرة"[10] وما أحسنَ ما علّقه البخاري من
قول عمّار بن ياسر - رضي الله عنه - في باب إفشاء السلام من الإسلام (ثلاثٌ من جمعهنّ فقد جمع الإيمان: الإنصاف
من نفسك, وبذل السلام للعالَم, والإنفاق من الإقتار). ورحم الله الحاكم محمد بن عبد الله بن البَيِّع صاحب [المستدرك] فقد
بعث إليه الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري كتاباً جمع فيه الأوهام التي وقعت للحاكم في [كتاب المدخل]؛ ففرح بها
الحاكم لأنّ صاحبه نبّهه إلى الصواب وعرّفه بالحق _ و(الدين النصيحة) ـ فطفق الحاكم يُخبر بها الناس! وبعث إلى عبد
الغني يشكره قال: فعلمتُ أنه رجل عاقل كما ذكر الذهبي في ترجمته من (سير أعلام النبلاء).
2) أن لا يقصد المرء الشهرة بين الناس، ولا يرجو استماعهم إليه، أو يسعى إلى اجتماعهم عليه ـ وإن كان كل ذلك من
(عاجل بشرى المؤمن) إذا أخلص ـ ولكنه فتنةٌ وهلاكٌ لمن لم يرد به وجه الله لأنّ الله (أغنى الشريكين عن الشرك) ولا
يقبل إلا ما كان لوجهه خالصاً؛ فلا يصيب المرء من تعبه ونصبه خيراً كما جاء في الصوم (رُبَّ صائم ليس له من صيامه
إلا الجوع العطش). ورحم الله أولئك الأخيار الذين كانوا (يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) ومع ذلك تجدهم
حريصين على أن لا يعلم قرباتهم إلا ربّ العالمين .قال ابن قدامة المقدسي: "لم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفيّ
يجتهدون في مخادعة النفس والناس عن أعمالهم الصالحة ويحرصون على إخفائها أعظم مما يحرص الناس على إخفاء
فواحشهم, كل ذلك رجاء أن يخلص عملهم ليجازيهم الله تعالى في القيامة بإخلاصهم"[11] ومن هؤلاء الأبرار منصور
بن المعتمر الذي"صام أربعين سنةً, وقام ليلها, وكان يبكي الليلَ كلَّه, فإذا أصبح كحل عينيه وبرق شفتيه ودهن رأسه. "![12]
3) أن لا يحب الثناء، بل يكرهه ولا يرضى بسماع المدح بل يفرّ منه، كما فرّ أويس القرني - رضي الله عنه- لئلا
يُعرَف. وما أكثرَ ما يجتمع حُبّ الثناء بالتقصير في الأعمال كما قال تعالى: (ويحبّون أن يُحْمَدوا بما لم يفعلوا)! ولله درّ
من قال من أهل التفسير:"من أظهر الدعوى كُذِّب!" عند قول الله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما
نحن مُصلحون ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون). ورحم الله العلامة ابن القيم حيث قال: "لا يجتمع الإخلاص في
القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس".[13] فينبغي للمؤمن أن يراقب نفسه ويصحّح قصده لأنّ الرياء دقيق,
وهو متلوِّن بأشكال الأعمال الصّالحة تدليساً وتلبيساً لا يظهر إلا بالمحاسبة والمراقبة. وما أحسنَ ما نبّه عليه العلامة ابن
قدامة حيث قال :"هذه الشهوة الخفية يعجز عن الوقوف على غوائلها كبار العلماء, فضلاً عن عامة العُبّاد وإنما يبتلى بها
العلماء والعُبّاد المشمّرون عن ساق الجدّ لسلوك سبيل الآخرة, فإنهم لما قهروا أنفسهم جالدوها وفطموها عن الشهوات,
وحملوها بالقهر على أصناف العبادات؛ عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة والواقعة على الجوارح,
فاستراحت إلى التظاهر بالعلم والعمل, ووجدت مخلصاً من شدة المجاهدة في لذة القبول عند الخلق ونظرهم إليه بعين الوقار
والتعظيم. فأصابت النفس في ذلك لذة عظيمة؛ فاحتقرت فيها ترك المعاصي والشهوات, واستلانت خشونة المواظبة على
العبادات؛ لإدْراكها في الباطن لذة اللّذّات وشهوة الشهوات. فهو يظن أنه مخلص لله ـ عز وجل ـ, وقد أُثبت في ديوان
المنافقين. وهذه مكيدة عظيمة لا يسلم منها إلا المقرَّبون"[14].
4) أن يصبر على الأذى ويتحمّل ـ في سبيل الله ـ العناء؛ رجاء أن ينال القبول والرّضا, وقد قال الشافعي: سمعت محمد
بن الحسن يقول:"لا يُفلح في هذا الشأن إلا من أَقْرَحَ البُرُّ قلبه"[15] وقال الذهبي: "لا يصبر على الخَلّ إلا دوده" وقال
ابن معين لمّا رفسه الحافظ أبو نُعيم الفضل بن دُكين حين امتحنه في قلب الأسانيد:"والله لهذه الرفسة أحبّ إليّ من كل
شيء"[16].شعارهم في ذلك قول الشاطبي:
وقد قيل: كُنْ كالكلب يُقْصِيهِ أهلُهُ ولا يأتلِ في نُصْحِهم متبذِّلا[17]
وليت شعري هل يصبر أهل الدنيا أياماً لا يأكلون ولا يشربون يجرون من درسٍ إلى درسٍ ويحومون على الشيوخ. كما
كان شأن البخاري حين أكل العشب في رحلته إلى شيخه آدم بن أبي إياس[18]. وذكر ابن أبي حاتم الرازي أنه كان مع
صاحبٍ له يطلبون العلم من شيخٍ إلى شيخٍ فاشتريا سمكة لم يجدا وقتاً لشوائها؛ فأكلاها نيئة. وقال: لا يُستطاع العلم
براحة الجسد[19]
بل إنّ المرائي لا يصبر على أدنى أذىً يصيبه كما قال تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرفٍ فإن أصابه خيرٌ اطمأن
به وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين), بل لا يرضى أن يتجاهله الناس، ولا
أن يعاملوه كعامّة المسلمين، وقد عَدَّ ابن قدامة هذا من الرّياء الخفي فهو "إذا رأى الناس أحبَّ أن يبدؤوه بالسلام. وأن
يقابلوه بالبشاشة والتوقير وينشطوا في قضاء حوائجه, ويسامحوه في المعاملة. ويوسعوا له المكان. فإن قصّر في ذلك
مقصّر ثَقُل على قلبه, ووجد لذلك استبعاداً في نفسه؛ ليتقاضى الاحترام على الطاعة التي أخفاها"[20]. وأما العبد الصالح
فلا يهمُّه رضي الخلق أم سخطوا إذا أدّى حق الله ورسوله. بل هو متيقِّن بأنّ السفهاء لا يرضون بالمعروف أصلاً، ولا
يَرَوْنَ لصاحب الخير فضلاً. فلا يبالي بهم بل ينشد مع الزَّبيدي[21]:
إذا رضيَتْ عنّي كِرامُ عشيرتي فلا زال غَضْباناً عليَّ لئامها
5) أن يكون طاهر القلب من الهوى, وبريئاً من حُظوظ النفس, حريصاً على مصاحبة الصادقين والتعاون معهم في كلّ
خير, ورحم الله ابن القيم حيث قال:"الأفضل في كلّ وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال, والاشتغال بواجب
ذلك ووظيفته ومقتضاه. وهؤلاء هم أهل التعبُّد المُطلق, والأصناف قبلَهم أهلُ التعبّد المقيَّد. فمتى خرج أحدهم عن النوع
الذي تعلّق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقض وترك عبادته. فهو يعبد الله على وجه واحد, وصاحب التعبّد
المطلق ليس له غرض في تعبُّد بعينه يؤثره على غيره. بل غرضه تتبع مرضات الله ـ تعالى ـ أين كانت. فمَدَارُ تعبُّدِه
عليها, فهو لا يزال متنقّلاً في منازل العبودية, كلما رُفعت له منزلة عمِل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة
أخرى. فهذا دَأْبُه في السّير حتى ينتهي سيره. فإن رأيت العلماء رأيته معهم, وإن رأيت العبّاد رأيته معهم وإن رأيت
المجاهدين رأيته معهم, وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم, وإن رأيت المتصدّقين المحسنين رأيته معهم, وإن رأيت أرباب
الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم. فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملِكْه الرّسوم, ولم تقيّده القيود, ولم يكن عمله
على مراد نفسه وما فيه لذّتها وراحتها من العبادات بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه فهذا هو
المتحقّق بـ (إياك نعبد وإياك نستعين) حقّاً القائم بها صدقاً" وما أشبه كلام ابن القيم - رحمه الله- بحال الصّدّيق -
رضي الله عنه- حيث رجا أن يدخل من جميع أبواب الجنة!
6) أن يتخلّق بغنى النفس وصفاء السّريرة ومحبة الخير للمسلمين والبُعد عن الحسد والبغض: فهذه المعاملات عنوان
السلامة من الهوى وأمراض القلوب وعِلل النفوس؛ ومن هنا جاء الثناء العظيم على الذين (يقولون ربنا اغفر لنا
ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا). وقد ذكر أبو منصور الثعالبي في (خاص
الخاص) "أنّ علي بن محمد الفياض كتب إلى ابن أبي البغل وقد وُلِّي على الأهواز وصُرِف ابنُ أبي البغل به وهو أحسن
وأبلغ وأظرف وأكرم ما كتب صارف إلى مصروفه: قد قُلِدْتُ العمل بناحيتك فهنَّاك الله بتجدُّد ولايتك. فأجابه ابن أبي البغل
بما لا ُيدرى أيّهما أبلغ وأحسن: ما انتقلتْ عني نعمةٌ صارت إليك ولا غابت عني منزلةٌ طلعتْ عليك وإني لأجد صرفي بك
ولايةً ثانيةً وصلةً من الوزير وافية؛ لما أرجوه بمكانك من العافية وحسن العاقبة"[22].
[1] حَبّة القلب: ثمرته، وسُوَيْداؤه (لسان العرب لابن منظور 1/294).
[2] ذكر ذلك كله الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ في الفتح.
[3] مواهب الصمد في حلّ ألفاظ الزبد لأحمد الفشني ص 4.
[4] سورة البيّنة 5.
[5] فتح الباري 1/216.
[6] رياض الصالحين . كتاب الأمور المنهي عنها. باب تحريم الغيبة والأمر بحفظ اللسان 520.
[7] التوبة 92.
[8] قال النووي حديث صحيح رواه أبو داود بإسناد صحيح. والزعيم: الضامن.[رياض الصالحين باب حسن الخُلُق ص 278].
[9] المائدة 8.
[10] تذكرة الحفاظ للذهبي 1/194.
[11] مختصر منهاج القاصدين ص 239.
[12] تذكرة الحفاظ للذهبي - ترجمة منصور بن المعتمر -.
[13] في الفوائد ص 186.
[14] مختصر منهاج القاصدين ص 229.
[15] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي 1/ 105.
[16] المرجع السابق 1/136.
[17] مقدمة حرز الأماني ووجه التهاني (في القراءات السبع المتواترة).
[18] راجع ترجمة البخاري في هدي الساري لابن حجر.
[19] وقد روى مسلم في صحيحه هذه الكلمة عن يحيى بن أبي كثير في أبواب مواقيت الصلاة.
[20] مختصر منهاج القاصدين ص 239.
[21] في مقدمة تاج العروس بشرح جواهر القاموس